طفل في السابعة من عمره, توسم فيه والده موهبة مبكرة.. ولم يدخر وسعا في رعايتها وصقلها.. فقد كان رساما وأستاذا للفنون في إسبانيا.. وألحق ابنه بابلو بيكاسو في أكاديمية الفنون بمدريد عام1897.
وعندما أنهي دراسته غادر إسبانيا إلي فرنسا.. وكان ذلك في مستهل القرن العشرين.. وهناك أقام, بتجليات إبداعه في الرسم الدنيا.. ولم يقعدها حتي الآن.
بيكاسو الذي أضحي من ألمع فناني القرن العشرين.. كانت حياته جامحة ومثيرة للجدل.. وكذلك كان فنه.. فقد جنح به نحو الغموض والرمزية المراوغة.. ولئن كانت سيرته العاطفية تبدو غرائبية, فإن معتقداته السياسية ربما كانت كذلك.. وتلك مسألة يتجاذب الكتاب والباحثون أطراف الرأي والبحث فيها حتي الآن.
ونقطة البداية في تبلور توجهات بيكاسو السياسية, هي الحرب الأهلية الإسبانية, التي اندلعت عام1936 وقصف الطائرات لمدينة جيرنيكا.. واستبد الغضب ببيكاسو, وحول المأساة الوحشية إلي درة فنية عالمية هي لوحته الشهيرة جيرنيكا(1937).. وعبر فيها عن مقته الشديد لفاشية الجنرال الإسباني فرانكو, ونازية الألماني هتلر.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
النازية التي كان بيكاسو يكن لها كراهية شديدة, اقتحمت قواتها موطنه الفرنسي, ابان الحرب العالمية الثانية.. ولم يهرب بيكاسو مثلما هرب نفر من الفنانين.. واختار أن يبقي في وجه الإعصار.. ولم تكن تحميه سوي شهرته.. وهي هشة.. لأن النازيين كانوا يجاهرون بازدراء فنه.
وما إن انسحبت القوات النازية من فرنسا عام1944, حتي فاجأ بيكاسو أوروبا, وانضم للحزب الشيوعي الفرنسي.. وكان هذا مجرد رد فعل لكراهيته للفاشية والنازية.. لكن الغريب أنه ظل في الحزب حتي موته عام1973 وهنا يتعين الإشارة إلي أن عضويته لم تنطو علي أي التزام أو إملاء علي فنه وحياته.. فقد حلق بفنه بعيدا كل البعد عن مبدأ الواقعية الاشتراكية التي كانت قيدا أيديولوجيا علي الكتاب والفنانين السوفيت.. والأغرب أن نمط حياته الجامح وولعه بالرفاهية كان مجافيا ومناهضا لتلك المبادئ الصارمة.
غير أن تلك العضوية التي لم يتمرد عليها بيكاسو, ربما لاعتقاده أنها حائط الدفاع القوي ضد احتمالات ظهور الفاشية, قد كبدته الكثير.. وليس أدل علي ذلك من أنه تقاعس عن إدانة سحق القوات السوفيتية لثورة المجر عام1956 ولاذ بالصمت فنا وكلاما!! بالرغم من شحوب صلاته بالشيوعيين.
وكانت زوجته الأخيرة جاكلين لا تسمح للشيوعيين بزيارته.. وكان بيكاسو قد وقع في هواها ورسم لها عام1956 لوحة شهيرة هي سيدة الرداء الأخضر.. وتزوجها عام1961, بعد أن تجاسرت صديقته الفنانة فرانسواز جيلو علي الفرار من حياته.. وكانت قد أنجبت له ابنا وابنة سماها بالوما وهي بالإسبانية تعني الحمامة.. وكان قد أطلق حمامة السلام الشهيرة في مدارات الكون وفضاءات الفن والسياسة.
وكانت جاكلين تحب بيكاسو حبا جما وعاصفا, وعندما مات لم تتصور الحياة دونه.. وأزهقت روحها.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
بيكاسو لاتزال حياته وفنه مثيرين للتأمل والجدل, ويغوصان في سراديب الغموض وبئر الأسرار.. ويؤكد الكاتب جون ريتشاردسون, الذي كان قريبا منه, وعكف طوال أربعين عاما علي كتابة ثلاثة أجزاء من السيرة الذاتية لبيكاسو.. أن سيرته لم تنته بعد.
هذا هو الفنان العبقري.. والفن الحافل بالرؤي.