السؤال المصرى الذى تسمعه دائما فى حالة تعيين الوزير والغفير وعضو مجلس الشعب، وحتى زعماء المعارضة، هو: «مين اللى ركب؟» أو «مين اللى ركبوه؟» بتشديد الكاف، أى من الذى وضعوه على قمة الهرم فى المديرية أو الوزارة أو الحزب أو البرلمان. «مين اللى ركبوه؟».. السؤال عن المفعول به المجهول، ولكن الفاعل فى مصر معلوم بالضرورة. فعندما يدعى أحدهم أنه لولا كذا وكذا لأصبح وزيرا أو رئيس وزراء، فهذا كلام سهارى، أو ناس بتضحك على بعضها، لأن الصحيح هو أنه فى مصر «محدش بيصبح لوحده»، و«محدش بيركب لوحده».. فى مصر، لا الوزير ولا الغفير يصبحان وزيرا أو غفيرا هكذا بهز أكتافهما، لابد هناك من يجعلهما وزيرا أو غفيرا، أى «هم اللى بيركبوهم». لا يمكن لفرد أن يدعى أنه «ركب» لوحده أو عمل نفسه بنفسه، بغض النظر عن جنس هؤلاء الذين «بيركبوا» الناس و«ينزلوهم». حتى أغانينا تلمح لمن يقوم بالفعل من دون تصريح وتوضيح، واستمعوا، لكى تفهموا القصد، إلى أغنية عبدالحليم حافظ: «ظلموه».
حكاية التركيب هذه عملية معقدة، لأن الذين يركبون الناس على ظهر الحصان ليسوا بالضرورة ملتزمين بالمحافظة عليهم وهم على ظهره. ممكن «يركبوك» على ظهر الحصان، ولكن «انت وفهلوتك!». والحق أنه لكى تستمر معتليا الحصان لابد لك أن تكون بهلوانا، قادرا على تموجات الفرس وسرعته وتقلب رؤاه ومزاجه. ومن يظن أن من وعدوه بالركوب سيهتمون بالحفاظ عليه على ظهر الفرس، فهو يخدع نفسه.
المجتمع السليم هو الذى يكون الفرد فيه قادرا على صنع نجاحه بنفسه، «يركب لوحده، وينزل لوحده»، الطريق مفتوحه أمام الجميع وسلم الصعود متاح للجميع، كل حسب قدراته، مجتمع كفاءة لا مجتمع مكافأة. فى مصر لا دور للكفاءة، الدنيا كلها شغالة بالمكافأة، والمكافأة ليست عينية ولكن المكافأة فى أنهم من «ولا حاجة، يعملوك حاجة»، ومن الوضع ماشيا «بيركبوك» على أى حاجة، وغالبا ما «يركبوك» وأنت فى أرزل العمر كنوع من مكافأة نهاية الخدمة، تأخذ لك «هبرة» فى سنتين أو ثلاث وتذهب فى حال سبيلك ليأتى غيرك.
والذين لا «يركبونه» فى مصر يغضون عنه الطرف أو يسمحون له بممارسة ما يريد حتى لو لعب فى الممنوع، كأن يمنحوه أرضا تقريبا «ببلاش» فى سيناء وفى الساحل ليعمل منها مشروعا وليعملوا منه رجل أعمال، حتى لو كان أهطل. الرسالة التى يريدون إيصالها واضحة: «إحنا اللى بنركب، وإحنا اللى بنزل»، نضعهم فوق ظهر الحصان، ونطيح بهم إلى الأرض، وننشئهم شكلا آخر. لذا عندما يدعى فلان أو علان فى مصر أنه عمل نفسه بنفسه، قل له .. فى عينه! الناس فى مصر معمولة ومعمول بها، والفاعل ليس مبنيا للمجهول.
هناك فلسفة للحكم أنه «بيعمل الناس بتاعته»، وهى رؤية وجيهة، ففى مجتمع يتربع نصف فى المائة فقط من تعداده السكانى على القمة والبقية تتخبط ما بين القاع وسطحه، فلا طبقة وسطى، يمكن للحكم أن يخلق الطبقة الوسطى «اللى بتاعته».. كيف؟ كأن يمنح مثلا أراضى (برخص) التراب فى التسعينيات، ثم يرتفع سعر الأراضى فجأة كما حصل فى القاهرة الجديدة، فيصبح هناك أكثر من ألفى مليونير فى ظرف خمس سنوات، وبهذا يتم التصور بأن هناك طبقة وسطى فى المجتمع، أو أن النظام عرف «يركب» طبقة وسطى. هذا الكلام الذى يبدو وجيها بظاهره فيه خراب البلاد إذا ما نظرنا إليه برؤية اقتصادية لا انتهازية سياسية، ومع ذلك لا ضرر ولا ضرار.
أتمنى أن يأتى اليوم الذى يتحول فيه المجتمع المصرى إلى مجتمع كفاءة لا مجتمع مكافأة، والناس تركب لوحدها بكرامتها من سلم الأتوبيس إلى سلم الوزارة. ولكن حتى نصل إلى مجتمع الكفاءة الذى يركب فيه الفرد لوحده ويعتمد على قوة دفعه الذاتية، نحتاج إلى تغيير قواعد اللعبة بأكملها. ولكن كيف نغير القواعد، إن كان القائمون على مناقشة الأفكار وطرحها فى الصحافة والإعلام هم الطبقة «اللى ركبوها»؟ كيف نناقش الأمور بحرية، وكل منا ملتزم تجاه «اللى ركبوه»، أى «ببص وراه» وهو يتكلم أو ينتقد، ولا أستثنى فى ذلك أحدا، لا المعارضة ولا الموالاة، كما يسميها اللبنانيون. نحتاج لثورة ضد «التركيب»، بأن نقرر طواعية أننا نفضل المشى على مشقته بدلا من أن «يركبونا».. وهنا بتشديد الكاف أيضا.