على الرغم من أهمية تشخيص مرض التهاب البنكرياس الشديد مبكراً خلال سير المرض، فإن كثيراً من المرضى الذين تم تشخيصهم على أنهم مصابون بمرض طفيف، حصل لديهم تطور نحو المرض الشديد خلال 48 ساعة الأولى.
وقد قادت الدراسات السريرية في العقد الأخير الى طرح عدة مفاهيم جديدة تؤثر مباشرةً في علاج مرضى التهاب البنكرياس الحاد، تتطلب التشخيص المبكر للمرض الشديد وتطبيق العلاج المناسب خلال الساعات الـ 24 – 72 الأولى.
وغدة البنكرياس هي إحدى الغدد الأساسية في الجسم، وتقع خلف المعدة وبجوار الاثنى عشر ويلتف الجزء الأول من الأمعاء الدقيقة (الاثنى عشر) على شكل حلقة حول البنكرياس. والغدة ذات لون وردي مائل إلى الأصفر، يتراوح طولها ما بين 14 و20 سم وعرضها حوالي 3.8 سم، وسمكها حوالي 2.5 سم، وتتكون من ثلاثة أجزاء هي الرأس والجسم والذيل.
وتشترك قناة البنكرياس مع القناة المرارية المشتركة في قناة مشتركة تصب في الاثنى عشر. ويعمل البنكرياس في إفراز العصارات الهضمية الضرورية لتكسير الطعام، كما يفرز الأنسولين والغلوكاجون، وهما هرمونان ضروريان للمحافظة على توازن السكر وعمليات الأيض.
وتتدفق العصارات الهاضمة التي يفرزها البنكرياس من خلال قناة خاصة إلى الأمعاء الدقيقة ويحتوي الإفراز على ماء وأملاح تساعد على الهضم وتعادل الأحماض داخل المعدة. أما الإنزيمات الموجودة في الإفراز فتساعد على تكسير البروتينات والنشويات والدهنيات.
إفرازات البنكرياس
تنتشر في البنكرياس عناقيد صغيرة من الخلايا الخاصة تعرف باسم «جزر لانجر هانز». وتفرز هذه الخلايا الهرمونات في الدم مباشرة، وهناك العديد من أنواع الخلايا الزجرية، منها خلايا ألفا وخلايا بيتا. وتنتج خلايا بيتا الأنسولين الذي يمر عبر الدم إلى الخلايا في مختلف أعضاء الجسم، ويساعد الأنسولين الخلايا على تناول الجلوكوز من الدم واستخدامه. والغلوكوز نوع من السكر يشكل الوقود الرئيسي لخلايا الجسم، فإذا ما أفرز البنكرياس من الأنسولين كمية أقل من اللازم فسوف يؤدي ذلك إلى الإصابة بشكل خطير من أشكال الداء السكري.
أما خلايا ألفا فتفرز الغلوكاجون الذي يساعد الكبد على تحرير الغلوكوز المخزون، وإضافته إلى الدم. ويحافظ الغلوكاجون والأنسولين معاً على تنظيم معدل سكر الغلوكوز في الدم.
من أهم أمراض البنكرياس، التهاب البنكرياس الحاد ويسبب هذا المرض عوامل مختلفة غير معروفة تماماً. وفي هذا المرض، يطلق البنكرياس إنزيماته في التجويف البطني بدلا من إطلاقها في الأمعاء الدقيقة، فتبدأ هذه الإنزيمات بهضم الأنسجة القريبة، ثم تهاجم نسيج غدة البنكرياس نفسها، وقد يحدث ذلك الهضم الذاتي أيضاً إذا انعكس تيار العصارة في القنوات ودخلت الصفراء البنكرياس فنبهت إفرازاته. ويصاحب التهاب البنكرياس الحاد ألم شديد مفاجئ بالبطن وقيء وحمى.
أسباب المرض
حصوات المرارة تشكل خمسين في المائة من الأسباب، وذلك عند تحرك الحصوات من المرارة وعبر القنوات المرارية إلى الوعاء المشترك (ampulla of vater) والذي يصب العصارة المرارية والبنكرياسية في الاثنى عشر، وحيث توجد عضلة دائرية عند نهاية هذه القناة تعمل كصمام (sphincter of Oddi) فإن الحصوات تنحشر مسببة ارتجاع العصارة داخل البنكرياس مما يتسبب في هضم خلاياه وحدوث التهاب البنكرياس الحاد.
ويشكل تناول الكحول السبب الرئيسي الثاني لالتهاب البنكرياس الحاد حيث يسبب حوالي عشرين في المائة من الحالات.
والسبب الثالث عبارة عن عدة أسباب أخرى مختلفة قد تسبب التهاب البنكرياس الحاد أهمها الارتفاع الشديد في نسبة الدهون في الدم وعلى الأخص الدهون الثلاثية، أو حدوث كدمات في غدة البنكرياس ناتجة عن حصول إصابة ما (عقب حوادث السيارات مثلاً)، وكذلك قد تؤدى بعض العقاقير الطبية أيضا، كمدرات البول إلى الإصابة بالمرض. قد يحدث المرض أيضا بسبب الارتفاع الشديد في كالسيوم الدم، وفي حالات نادرة عقب إجراء منظار القنوات الصفراوية لأي سبب مرضي آخر (E.R.C.P).
ومن الأسباب الأقل انتشارا، سرطان رأس البنكرياس وأيضا ديدان الإسكارس عندما تسبب انسداداً للقناة البنكرياسية.
أهم أعراض المرض
- ألم شديد بأعلى البطن ينتشر إلى الظهر.
- الشعور بالغثيان والقيء المتكرر، يصاحبه إسهال وفقدان للشهية.
- حمى ورجفة وقشعريرة.
- عدم ثبات الدورة الدموية، حيث يرتفع ضغط الدم أثناء الألم وينخفض عند حدوث جفاف نتيجة قلة السوائل بالجسم.
- زيادة سرعة ضربات القلب، وأيضا التنفس بشكل سريع.
- كسل في حركة الأمعاء.
- وقد يصاحب هذه الأعراض وجود كدمات بالجلد فوق منطقتي الكليتين وحول السرة.
- وجود تجمع وتكيس بالبنكرياس وسوء امتصاص بسبب خلل إفراز الإنزيمات الهضمية.
- احتمال ظهور أعراض مرض السكري بسبب نقص الأنسولين.
تشخيص المرض ومضاعفاته
بالإضافة للأعراض السريرية التي يشكو منها المريض والتاريخ المرضي، فإن تحاليل الدم تظهر ارتفاعا في وظائف البنكرياس في الدم والبول إلى أكثر من ثلاثة أضعاف، خاصة إنزيم الأميلاز والليباز، بالإضافة إلى ظهور بعض الاضطرابات في أملاح الدم مثل نقص الكالسيوم، بالإضافة إلى بعض المؤشرات التي تدل على شدة التهاب البنكرياس أو حدوث بعض المضاعفات له مثل الارتفاع الشديد في كريات الدم البيضاء، والنقص في أوكسجين الدم، وزيادة البولينا الدموية، وزيادة نسبة السكر في الدم، مع أعراض الجفاف الذي يحدث بسبب فقدان السوائل.
ومن الجهة الأخرى تفيد الأشعة الصوتية للبطن سواء في تشخيص التهاب البنكرياس الحاد (حيث تبدو غدة البنكرياس متضخمة) أو في معرفة مسببات الالتهاب (حصوات المرارة أو القناة الصفراوية) كما تساعد الأشعة الصوتية أيضاً في كشف بعض مضاعفات المرض مثل وجود تنخر أو نزيف في البنكرياس، أو وجود كيس كاذب حول البنكرياس أو وجود خراج في البنكرياس، وهذه الأمور تكون أكثر وضوحا عند إجراء التصوير المقطعي للبطن. وتفيد أيضاً أشعة الصدر في كشف ما إذا كان التهاب البنكرياس قد سبب ارتشاحا في الغشاء البلوري للرئتين (تجمع السوائل في الرئتين)pleural effusion أو حدوث انكماش بالرئتين atelectasis وذلك نتيجة التنفس الضحل بسبب الألم أعلى البطن وأيضا حدوث التهاب بالرئتين pneumonitis بسبب تأثير إنزيمات البنكرياس الهاضمة في نسيج الرئتين والتي تزيد بالدم وتصل بواسطته إلى الرئتين، وكلها من مضاعفات المرض.
ومن مضاعفات المرض الأخرى حدوث فشل كلوي حاد نتيجة لنقص حجم الدم بسبب القيء وأيضا زيادة ارتشاح السوائل خارج الأوعية الدموية إلى أنسجة الجسم.
كما يكون البنكرياس أكثر عرضة للتلوث الميكروبي وأيضا التلوث بالفطريات طوال فترة الالتهاب.
ومن الممكن أيضا حدوث مضاعفات متأخرة مثل حدوث تجمع سوائل متكيس داخل نسيج البنكرياس pancreatic pseudo cysts. وقد تحدث عدوى بكتيرية لهذا التكيس أو انفجار أو ضغط على الأعضاء المجاورة مثل الأوعية الصفراوية مما يتسبب في زيادة العصارة الصفراوية بأنسجة الجسم.
العلاج والوقاية
في الحالات غير المصحوبة بمضاعفات، يمنع المريض من تناول الطعام أو السوائل عن طريق الفم حتى تزول آلام البطن وتتحسن وظائف البنكرياس، وكذلك يتم إعطاء المريض كمية كافية من السوائل والتغذية عبر الوريد بالإضافة لإعطائه مسكنات الألم القوية ومعالجة اضطرابات الأملاح والكالسيوم، أما بالنسبة للمضادات الحيوية فتعطى في حال وجود مؤشرات تدل على إصابة المريض بالتهاب بكتيري سواء في البنكرياس أو الرئتين أو غير ذلك، كذلك يجب ضبط سكر الدم بشكل جيد ونسبة الدهون في الدم.
ويلجأ إلى العلاج الجراحي لدى حدوث مضاعفات المرض، حيث يتم استئصال الجزء المصاب بواسطة المنظار البطني. وفي حال وجود حصوات في المرارة، يفضل القيام باستئصالها بعد معالجة الالتهاب الحاد واستقرار حالة المريض.
وللوقاية، فإن ضبط مستوى الدهون وعلاجها، وتخفيف الوزن والامتناع عن تناول المشروبات الكحولية، بالإضافة لاستئصال المرارة في حال وجود حصوات فيها، هو الأسلوب الأمثل لمنع حدوث التهاب البنكرياس الحاد.