يقول الشيخ عمر الأشقر: إن العلم بأسماء الله وصفاته هو العاصم من الزلل، والمقيل من العثرة، والفاتح لباب الأمل، والمعين على الصبر، والواقي من الخمول والكسل.
إن النفوس قد تهفوا إلى مفارقة الفواحش والذنوب، فتذكر أن الله يراها ويبصرها، وتذكر وقوفها بين يدي الله فترعوي وتجانب المعصية.
ويقع الإنسان في الذنب والمعصية، ثم يذكر سعة رحمة الله، فلا يتمادى في الخطيئة، ولا يوغل في طريق الهاوية، بل يعود إلى الله ربه التواب الرحيم قارعاً بابه، فيجد الله تواباً رحيماً.
وتتناوش العبد المصائب والمكاره، فلا يجزع ولا يهلع، ويلجأ إلى الحصن الحصين، والركن الركين، ويقابل المكاره بنفس راضية.
يقارع الأشرار، فيجدِّون في منع الرزق عنه، وقصم العمر منه، ويعلم الفارس في مجال الصراع أن الأرزاق والأعمار بيد الله .
يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله: ( فعلم العبد بتفرُّد الرب تعالى بالضر والنفع، والعطاء والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإماته، يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً.
وعلمنا بسمعه وبصره وعلمه، يقضي بأنه لا يخفى عليه مثقال ذرّة في السماوات ولا في الأرض، وانه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يثمر للعبد حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله، ويجعل تعليق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه، فيثمر له ذلك الحياء باطناً، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح .
ومعرفة العبد بغنى الرب وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء، وتثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه.
ومعرفة العبد بجلال الله وعظمته وعزته تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية الظاهرة هي موجباتها.
وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلى يوجد له محبة خاصة، بمنزلة أنواع العبودية، فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات ).
ويقول في موضع آخر عن تأثير العلم باسماء الله وصفاته وأوامره وأفعاله في نفوس العباد: ( إن أحد أسرار القرآن العظام هو تحديثه عن رب العباد حديثاً يجلي فيه القرآن الرب لعباده عبر صفاته، فتارة يتجلى الرب عبر آيات الكتاب في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر، كما يذوب الملح في الماء.
وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء، وجمال الصفات، وجمال الأفعال الدالِّ على كمال الذات، فيستنفذ حبّه من قلب العبد قوة الحب كلها، بحسب ما عرفه من صفات جماله، ونعوت كماله، فيصبح فؤاد العبد فارغاً إلا من محبته، فإذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه كل الإباء كما قيل:
يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل
فتبقى المحبة طبعاً لا تكلفاً.
وإذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف والإحسان انبعثت قوة الرجاء من العبد، وانبسط أمله، وقوى طمعه، وسار إلى ربه وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره، وكلما قوى الرجاء جدَّ في العمل، كما أن الباذر كلّما قوى طمعه في المغلِّ غلَّق أرضه بالبذر، وإذا ضعف رجاؤه قصَّ في البذر.
وإذا تجلى بصفات العدل والانتقام والغضب والسّخط والعقوبة انقمعت النفس الأمّارة، وبطلت أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص على المحرمات، وانقبضت أعنّة رعونتها، فأحضرت المطيّة حظّها من الخوف والخشية والحذر
وإذا تجلى بصفات الأمر والنهي، والعهد والوصية، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وشرع الشرائع، انبعثت منها قوة الامتثال والتنفيذ لأوامره، والتبليغ لها، والتواصي بها، وذكرها وتذكيرها، والتصديق بالخبر، والامتثال للطلب، والاجتناب للنهي.
وإذا تجلى بصفات السمع والبصر والعلم انبعثت من العبد قوة الحياء، فيستحي من ربه أن يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يخفي في سريرته ما يمقته عليه، فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع غير مهملة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى.
وإذا تجلى بصفات الكفاية والحب والقيام بمصالح العباد، وسوق أرزاقهم إليهم، ودفع المصائب عنهم، ونصرة لأوليائه وحمايته لهم ومعيته الخاصة لهم، انبعثت من العبد قوّة التوكل عليه والتفويض إليه، والرضا به، وبكل ما يجريه على عبده ويقيمه فيه مما يرضى به هو سبحانه.
والتوكل معنى يلتئم من علم العبد بكفاية الله، وحسن اختياره لعبده وثقته به، ورضاه بما يفعله به، ويختاره له.
وإذا تجلى بصفات العز والكبرياء أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت إليه من الذل لعظمته، والانكسار لعزته، والخضوع لكبريائه، وخشوع القلب والجوارح له، فتعلوه السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه وسمته، ويذهب طيشه وقوّته وحدته.
وجماع ذلك: أنه سبحانه يتعرّف إلى العبد بصفات إلإهيته تارة وبصفات ربوبيتة تارة، فيوجب له شهود صفات الإلهية المحبة الخاصة، والشوق إلى لقائه، والأنس والفرح به، والسرور بخدمته، والمنافسة في قربه واللهج بذكره، والفرار من الخلق إليه، ويصير هو وحده همّه دون سواه، ويوجب له شهود صفات الربوبية التوكل عليه، والافتقار إليه، والاستعانة به، والذل والخضوع والانكسار له.
وكمال ذلك أن يشهد ربوبيته في ألوهيته، وألوهيته في ربوبيته، وحمده في ملكه، وعزّه في عفوه، وحكمته في قضائه وقدره، ونعمته في بلائه، وعطائه في منه، وبرّه ولطفه وإحسانه ورحمته في قيّوميّته، وعدله في انتقامه، وجوده وكرمه في مغفرته وستره وتجوّزه.
ويشهد حكمته ونعمته في أمره ونهيه، وعزه في رضاه وغضبه، وحلمه في إمهاله، وكرمه في إقباله، وغناه في إعراضه.
وأنت إذا تدبرت القرآن وأجرته من التحريف، وأن تقضي عليه بآراء المتكلمين، وأفكار المتكلفين، أشهدك ملكاً قيّوماً فوق سماواته على عرشه يدبّر أمر عباده، يأمر وينهى، ويرسل الرسل، وينزل الكتب، ويرضى ويغضب، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعزُّ ويذلّ، ويخفض ويرفع، يرى من فوق سبع ويسمع، ويعلم السر والعلانية، فعال لما يريد، موصوف بكل كمال، منزّه من كل عيب، لا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، ليس لعباده دونه وليُّ ولا شفيع ).
دعاء الله بأسمائه الحسنى
يقول الشيخ عمر الأشقر: ( أسماء الله وصفاته تدل على عظمته تبارك وتعالى، ومن هنا كثرت أسماؤه وصفاته، وقد قيل: [العظيم من كَثُرتْ صفات كماله] ).
وإذا كانت صفات الله وأسماؤه تدل العباد على عظمة الباري ـ جل وعلا ـ وكماله وسؤدده، فإنها أعظم سبيل يستطيع العباد سلوكه لتعظيم الله وتقديسه وتمجيده ودعائه.
وقد أمرنا الحق بدعائه بأسمائه الحسنى فقال: ﴿ وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ ... [الأعراف:180]، والدعاء في اللغة والحقيقة هو: الطلب، أي اطلبوا منه بأسمائه.
ودعاء الله بأسمائه الحسنى مرتبتان كما أشار إلى ذلك ابن القيم ـ رحمه الله تعالى:
الأولى: دعاء ثناء وعبادة:
وقد أمرنا الله تبارك وتعالى أن نمجده ونثني عليه فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴿41﴾ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ ... [الأحزاب: 41 ، 42].
وفي الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (ما من أحد أحب إليه المدح من الله)، وقد وعد الله بذكر من يذكره، قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ ... [البقرة:152]. وفي الحديث الذي يريه البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم). وأخبر الحق أن الذاكر لله يطمئن قلبه، وتهدأ نفسه: ﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ ... [الرعد: 28].
الثانية: دعاء طلب ومسألة:
وقد أمرنا تبارك وتعالى بدعائه والطلب منه ووعدنا بالإجابة: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾... [غافر:60].
ودعاء الله وسؤاله لا ينبغي أن يكون إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا فلا يقال: يا موجود، أو يا شيء، اغفر لي وارحمني.
وقد نبه علماؤنا إلى السائل ينبغي أن يتخير في كل سؤال الأسماء المناسبة للطلب الذي يطلبه، يقول ابن القيم ـ رحمه الله: ( يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضياً لذلك المطلوب، فيكون السائل متوسلاً إليه بذلك الاسم، ومن تأمل أدعية الرسل وجدها مطابقة لهذا). ويقول: ( يأتي السائل بالاسم الذي يقتضيه المطلوب، كما تقول: اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، ولا يحسن أن تقول: إنك أنت السميع البصير).
ويقول ابن العربي: ( يطلب بكل اسم ما يليق به، تقول يا رحيم ارحمني، يا حكيم احكم لي، يا رزّاق ارزقني، يا هادي اهدني) ، ونبه ابن العربي إلى أن بعض أسمائه تبارك وتعالى أسماء عامة تصلح لأن يدعى بها في كل موضع، وفي كل الأمور، مثل: الله، الرب.