بتـــــاريخ : 11/19/2008 8:35:34 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1547 0


    حكاية جدتي والعلم

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : مصطفى فاسي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    يقع بيتنا الصَّغير المتواضع هناك في حي راقٍ من أحياء أعالي المدينة، هو البيت الوحيد في الحي الذي ظل عبر عشرات السنين بغرفه الصغيرة المبنية بالحجر والاسمنت يقاوم الزمن ملتصقاً بالأرض، بينما ارتفعت حوله من كل الجهات "فيلات" وقصور فخمة ذات طوابق وغرف متعددة، ولولا أن موقعه في قمة الهضبة الذي جعله يشرف على كل الجهات، ومكنه من أن يظل يتمتع بنور الشمس طول النهار، لكانت "الفيلات" الفخمة والقصور قد حجبته، وحجبت عنه كل شيء.‏

    في هذا البيت الصغير المتواضع يلاحظ الناس القريبون منه، والمارة عبر الشوارع الممتدة بجانبه ....... ارتفاع علم جميل رائع جديد .وذلك بالضبط خلال يومين معينين في السنة هما يوم عيد الثورة، ويوم عيد الاستقلال.‏

    تلك هي قصة جدتي والعلم.....‏

    ***‏

    - لا تنسَ... غداً تقوم باكراً، لكي تساعدني على رفع العلم، ووضعه في مكانه.‏

    كانت هذه تقريباً هي العبارات التي ترددها على مسمعي.. كل سنة، وقبل أن أنام عشية عيد الثورة، أو عيد الاستقلال وهي تفتح أمام عيني العلم الجميل، بعد أن تخرجه من صندوق خشبي مزخرف، وتتفحصه جيداً قريباً من المصباح الكهربائي، لتتأكد من أنه مايزال مثلما كان جديداً وجميلاً...‏

    وكنت لا أنسى أبداً النهوض باكراً، بل لقد كنت لا أكاد أنام وأنا أفكر بأهمية دوري في رفع العلم فوق بيتنا عالياً، لقد كانت هذه المهمة تملأ ذهني وتشغلني إلى درجة إنني عندما أنام، كثيراً ماكنت لا أرى في أحلامي إلا العلم وأنا أقوم بمهمة رفعه، وإن كنت أرى في منامي في بعض الأحيان أحلاماً مزعجة جداً، كأن أسقط من قمة الشجرة العالية التي تتوسط بيتنا والتي نعلق العلم عادة في أعلاها، أو أن يفلت العلم من يدي ويطير في الفضاء، وأنا أمد يدي وراءه محاولاً الإمساك به، وقد كنت أحياناً أملك قدرة عجيبة على الطيران في الفضاء الواسع، فأطير.عالماً أني لن أتمكن من الإمساك به، ويكون ذلك عادة أثناء الليل، فلا يراني أحد وأنا أطير وحدي فوق "الفيلات" والقصور الفخمة، وفوق المدينة كلها متجهاً في سرعة عجيبة نحو العلم... وهناك أحلام أخرى كثيرة لا أذكرها جميعاً، وهي ليست كلها سيئة، والمهم أنني كنتُ عندما أقوم في الصباح، أشعر بسرور وفرح عظيمين، وخاصة عندما أكون قد حلمت أحلاماً مزعجة، مع العلم أن الأحلام المزعجة كثيراً ماكانت توقظني في أثناء الليل وأنا أصيح، أو أتحدث بعبارات مبهمة ومختلطة...‏

    وقد ذكرت لي جدتي مرة، والتي كنت أنام معها في غرفتها بأنني قلت كلاماً كثيراً مبهماً ومختلطاً، وأنها لم تفهم منه سوى لفظة "العلم"، وأنني ظللت عدة لحظات أتلفظ في اضطراب شديد بذلك الكلام إلى أن أشعلت جدتي الضوء، وحملت العلم الذي كان بجانبها أمام عيني وهي تقول لي:‏

    - إهدأ... اهدأ... انظر، لا تخف... لا تخف شيئاً، انظر، ها هو العلم...‏

    ولم يرجع إلي هدوئي واطمئناني إلا عندما فتحت عيني على العلم، فقبلته، وعدت إلى النوم.‏

    كان ذلك قبل حوالي ثلاث سنوات، والواقع أن جدتي هي التي حكت لي عن كل شيء في الصباح، أما أنا فلم أتذكر شيئاً أطلاقاً مما جرى...‏

    ***‏

    لقد بدأت مساعدة جدتي في تعليق العلم منذ سنوات فقط، أما قبل ذلك فقد كنت صغيراً لا أستطيع صعود الشجرة العالية، كما أن جدتي كانت على الرغم من كبر سنها ما تزال تتمتع بكامل صحتها، كما روى لي أبي وأمي عدة مرات، مما جعلها آنذاك لا تقبل حتى مساعدتهما في القيام بمهمتها، وكانت تجد متعة كبيرة في القيام بها وحدها...‏

    كانت جدتي تعمل دائماً على تحضير العلم في المساء، تخرجه من صندوقها الخشبي الجميل المزخرف حيث يكون مطوياً بشكل جميل في قماش أبيض نظيف تزيح عنه القماش الأبيض، تشمه، تقبله.. تغرق وجهها بين ثناياه.. تفتح طياته وتفرشه أمامها فوق السرير... تظل لحظات تتأمله جزءاً جزءاً... تتفحص بعمق مساحته البيضاء والخضراء، ثم تتأمل النجمة والهلال الأحمرين، وتتابع بعد ذلك أطرافه الحريرية الصفراء اللامعة الذهبية اللون، ثم تطويه مرة أخرى، وتعيده إلى القماش الأبيض وتضعه برفق فوق الصندوق الخشبي في انتظار الصباح...‏

    في الصباح قبل طلوع الشمس بقليل، تبدأ جدتي عملها، حتى بتلك القصبة المتينة الطويلة التي تعلق العلم في طرفها العلوي بخيوط متينة، ثم بعد ذلك تحمل السلم الكبير وتسنده إلى جذع شجرة الصنوبر العالية، وتربط حبلاً قوياً في طرف القصبة السفلي، ثم تحملها، وفي أحد طرفيها العلم، وفي الطرف الآخر الحبل، وتصعد السلم الخشبي في هدوء واتزان حتى إذا انتهت درجاته التي تزيد عن العشرين كانت جدتي قد بلغت حوالي ثلث الشجرة، ومن هناك تواصل.الصعود معتمدة على الأغصان.القوية، فإذا اقتربت من أعلاها، وقد صارت تطل من فوق على سطوح "الفيلات" والقصور المجاورة بدأت تربط قصبة العلم بالشجرة بواسطة الحبل، وكانت تعمل بحيث يرتفع العلم بشكل واضح فوق أعلى الشجرة..‏

    مازال الناس في حينا، وفي الأحياء المجاورة يلاحظون منذ سنوات كثيرة هذا العلم الكبير الجميل، يلاحظونه خلال يومين اثنين في كل سنة وقد ارتفع عالياً، أعلى من كل البنايات، وكل الناس،وهو يهتز اهتزازات جميلة بسبب الهواء اللطيف القادم عادة من جهة البحر، من هناك من أعلى تلك الهضبة يطل علم جدتي -وهو يطل على كل أرجاء المدينة الكبيرة.... مرفرفاً، ومشرفاً عليها من الصباح حتى المساء.‏

    سألت جدتي ذات مرة وكان يوم عيد الاستقلال، وكنت أساعدها على رفع العلم فوق الشجرة العالية:‏

    - لم ألاحظ ياجدتي أنك نسيت رفع العلم ولو مرة واحدة في العيدين الوطنيين الكبيرين فما سر ذلك؟!‏

    توقفت عن الاشتغال، واقتربت مني، وقد علت تجاعيد وجهها مسحة من الحزن الشديد مما جعلني أندم في داخلي على هذا السؤال، ولكن جدتي قبلتني في جبهتي، ثم قبلت العلم الذي كان في يدها، وقالت لي في صوت مؤثر حزين:‏

    - لأجل هذا العلم يا ابني استشهد جدك واثنان من أعمامك، وآخرون كثيرون.. كثيرون جداً... ولقد كنا محرومين من رؤيته، نعم، مجرد رؤيته نحن الذين عشنا في الزمن الماضي، كان بإمكاننا أن نرى أي شيء إلا العلم.. ذات مرة، وقد كانت الثورة مشتعلة، في ذلك الوقت كانت هذه الهضبة خالية تقريباً من البيوت، كانت هناك بيوت صغيرة متفرقة متباعد بعضها عن بعض.قمنا في الصباح فإذا بنا نرى منظراً رائعاً لم يسبق لنا أبداً أن رأيناه من قبل... لقد رأينا علمنا العزيز مغروساً في مكان واضح من الهضبة، لقد كان لمنظره وهو يرفرف هناك قريباً من الأرض وقع خاص في نفوسنا، إنه منظر متفرد لن أنساه أبداً...‏

    ولكننا لم نلبث إلا قليلاً، وإذا بعساكر الأعداء يهجمون على العلم فينزعونه، ثم يهجمون على سكان الحي ضرباً وتنكيلاً كأنما قد أصابهم مس من الشيطان، جمعوا كل السكان، الرجال والنساء، وحتى الأطفال، وظلوا يستجوبونهم عدة أيام، وهم يفتشون في جميع بيوتنا، وفي كل مكان من الهضبة علهم يتوصلون إلى من له علاقة بذلك العلم...‏

    كنت آنذاك أخبئ علمنا هذا الذي تراه أمامك والذي صنعته بيدي في غرفة نومي، تحت بلاط الغرفة بالذات.. كان مستحيلاً على الأعداء الوصول إليه، وكنت أخرجه من مخبئه كل مساء قبل النوم لأتمتع بمنظره الجميل قليلاً، ثم أعيده إلى مكانه السري.. لا أدري يابني لماذا نسي الناس هذه الأيام علمنا الجميل، فلم يعودوا يرفعونه فوق بيوتهم حتى في مثل هذا اليوم...‏

    قالت جدتي ذلك في أسف شديد، ثم سلمت لي العلم ريثما تأتي هي بالسلم كي نواصل العمل لأجل رفعه إلى مكانه فوق الشجرة...‏

    ***‏

    اليوم عيد الثورة، يجب أن يرفع العلم عالياً مثلما كان دائماً، ولكني هذه المرة سأعلق العلم وحدي، لقد ماتت جدتي قبل شهور، رحمها الله، ماتت، ولكن العلم سيظل يرتفع كما كان...‏

    قبل موتها، ويبدو كأنما كانت قد أحست بقرب أجلها، نادتني وطلبت مني أن أقترب منها في سريرها، لقد كان صوتها ضعيفاً، لذلك طلبت مني أن أقترب منها لكي أسمعها جيداً... اجتهدت كي تضع ابتسامتها اللطيفة الجميلة على ملامح وجهها، ثم قالت لي بصوتها الضعيف الهادئ:‏

    - أوصيك يا ابني أن تهتم بالعلم.. لا تنسَ...‏

    وماتت جدتي بعد ذلك بقليل، وكانت وصيتها الوحيدة ألا أنسى العلم، وأن أجعله باستمرار يرفرف عالياً

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()