وذات يوم قعدا في ظل شجرة، ليستريحا من العمل، فمرّ بهما شاب على صهوة جواد، فأشار إليه أبو عيشة، فاقترب منه الشاب، فسأله: "إلى أين أنت ذاهب أيها الشاب؟!"، فأجابه: "إلى قرية التل"، فسأله ثانية: "وستمر بالقرية الفلانية؟!" فأجابه: "نعم"، فقال له أبو عيشة عندئذ: "أنا بيتي في تلك القرية التي ستمر بها، وأمام بيتي شجرة توت كبيرة، وقد وضعت المفتاح تحت حجرة بجانب الباب، وفي داخل الدار ابنتي عيشة، وهي جميلة وذكية، وقد خبأت تحت الفراش كل ما أملك من مال، وأنا أحذرك من سرقة المال، أو اختطاف البنت".
ولما سمع الشاب ذلك أدرك أن الرجل مخبول، أو مجنون، فتركه، ومضى من غير أن يقول شيئاً، وهو يكاد لا يصدقه، فلما وصل إلى قرية الرجل، قصد إلى بيته، ليتأكد من صدق كلامه، فوجد المفتاح تحت الحجر، ففتح الباب ودخل، فرأى صبية حسناء كالبدر، فسألها: "أنت عيشة؟!" فأجابت: "نعم"، ثم رفع الفراش، فوجد تحته صرة ليرات ذهبية، فأخذ الصرة وحمل البنت على الجواد، وانطلق بها إلى قريته.
ورجع أبو عيشة آخر النهار إلى بيته ومعه زوجته، فشاهد الباب مفتوحاً، فدخل وهو ينادي ابنته، ولكن ما من مجيب، ونظر تحت الفراش، فما وجد شيئاً، فأدرك عندئذ أن الشاب قد سرق ماله، وخطف ابنته، فالتفت إلى زوجته يشاورها في الأمر، فأجابته: "لاتهتم، أنا أعرف الشاب، فهو ابن آغا الضيعة المجاورة، ولابد أنه تزوج ابنتنا، وهي الآن هانئة في العيش معه"، واطمأن أبو عيشة إلى ماقالت زوجته، ولكنه أضاف يسألها: "وماذا علينا أن نفعل؟!" فأجابت: "علينا أن نزورها بعد ثلاثة أيام، وأن نحمل لها الهدايا؟!".
وبعد مضي يومين، أيقظت أم عيشة زوجها في الصباح الباكر، وهي تحثه على النهوض لزيارة ابنته، فنهض وهو يسألها: "وماذا سنحمل إليها معنا"، فأجابته: "لاتهتم، فقد هيأت كل شيء، عندي قطعة قماش" سآخذها لها، كما سنأخذ لها ظرف زيت، وقد عجنت الدقيق، لنصنع لها بعض الكعك، فهيا قم وأوقد النار في التنور".
وانطلق أبو عيشة إلى التنور، فوجد أشعة الشمس منعكسة فيه، وهي في أول إشراقها، فظن النار مشتعلة، فأسرع إلى زوجته، يخبرها بأن النار في التنور موقدة، وكانت قد أعدت أقراص الكعك، فتناولها وأخذ يلصقها بالتنور، ووقف ينتظر نضجها، في حين ذهبت زوجته لتهيئ ظرف الزيت، والثوب.
وبعد قليل رجعت زوجته، وهي تسوق الحمار، وقد وضعت على ظهره ظرف الزيت، وتأبطت تحت ذراعها الثوب، فسألت زوجها: "أما نضج الكعك، فأجابها: "نضج"، وفكر قليلاً، ثم أضاف: "ولكني أرى أن نحمل التنور معنا، حتى يبقى الكعك ساخناً، فوافقته زوجته.
وما كان منه إلا أن اقتلع التنور، وفكر في طريقة حمله، ولما سأل زوجته عن ذلك، أجابته: "ضعه في رأسك"، ففعل، فأصبح لايرى، فسأل زوجته عن الحل، فأجابته: "لاتهتم، أمسك الحمار من ذيله، وأنا سأقود من أمام".
ومشت أم عيشة، تسحب الحمار من رسنه، وتحت إبطها القماش، وعلى ظهر الحمار ظرف الزيت، وأبو عيشة في رأسه التنور، يسير وراء الحمار، وقد أمسك به من ذيله.
ومرت أم عيشة بأرض قد تشققت من العطش، فقالت لأبي عيشة: "لو ترى يا أبا عيشة الأرض كم هي عطشى، لأشفقت عليها"، فرد عليها والتنور في رأسه: "أشفقت عليها يا أم عيشة من غير أن أراها، ما رأيك في أن تسقيها الزيت؟!"، فأجابت: "لابأس"، ثم شقت الظرف، وأهرقت الزيت على الأرض.
وبعد قليل مرت أم عيشة بشجرة حور باسقة، فقالت لأبي عيشة: "لو ترى يا أبا عيشة هذه الصبية وهي عارية، لأشفقت عليها"، فرد عليها، والتنور في رأسه: "أشفقت عليها من غير أن أراها، ما رأيك أن تستريها؟"، فأجابت: "لابأس"، ثم أخذت تلف حول جذع الشجرة القماش الذي كانت تحمله تحت إبطها هدية لابنتها.
ولما وصلت أم عيشة إلى بيت الآغا، أخذت تقرع الباب بعنف، وتنادي ابنتها، طالبة منها أن تفتح لها الباب، وهي تبشرها بقدومها إليها، وقدوم أبيها، حاملاً لها التنور، وفيه الكعك ساخناً.
وخرج ابن الآغا ليستقبل عمه وزوجة عمه، فدهش لما رأى، وأمر الخدم أن ينزلوا التنور من رأس عمه، وعلى الفور بادر أبو عيشة إلى عناق زوج ابنته، والمباركة له في زواجه، وكانت عيشة ترى ذلك كله وتسمعه، فخجلت أشد الخجل من تصرف والديها، كما خجلت من الثياب الرثة التي كانا يرتديانها.
ودعا ابن الآغا عمه إلى الغرفة التي يستقبل فيها ضيوفه، وكان فيها عدد من وجهاء القرية ورجال الآغا، فدخل عليهم أبو عيشة مسلّماً وهو يهلل فرحاً، ويعرب عن إعجابه بابن الآغا، وغناه وقصره، ثم أخذ يحدثهم عن الأرض العطشى التي رآها في الطريق والتي سقاها الزيت، وعن الصبية العارية التي كساها، وعن الكعك الذي أعده بنفسه وحمله في التنور ساخناً، وكان يسهب في الحديث ويتبسّط والقوم يضحكون ويقهقهون، وهو يزداد إسهاباً وتبسطاً ظناً منه أنه يحسن صنعاً، إلى أن ضجر منه ابن الآغا، فمال عليه، وهمس له:" أما اشتقت إلى ابنتك، ألا تريد أن تراها"، فأجابه أبو عيشة بصوت مرتفع: "نعم، نعم، لقد اشتقت إلى ابنتي، وأريد رؤيتها"، ثم ودع القوم، وهو يهلل ويضحك ويرقص فرحاً.
ودخل على ابنته وأمها عندها، وأخذ يحدثهما عن ضيوف ابن الآغا وإعجابهم به وارتياحهم إلى حديثه، بل سرورهم به، ويؤكد لهما أنه كان سيد المجلس، والمتحدث الوحيد فيه، ثم أخبرهما أنه حدثهم عن الأرض العطشى والصبية العارية والتنور، فخجلت ابنته من ذلك كله خجلاً شديداً، وخرجت إلى زوجها تعتذر إليه عما بدر من أبيها وأمها.
ولما كان المساء سأل ابن الآغا زوجته عيشة عن الموضع الذي تختاره لينام فيه والداها، فأجابته: "غرفة المؤونة، وأنكر عليها ذلك، واقترح أن يناما في غرفة خاصة، ولكنها رفضت، خشية أن يفسدا أثاث الغرفة.
ودخل أبو عيشة وزوجته غرفة المؤونة، حيث أعدت لهما ابنتهما فراشين متواضعين. وفي الليل نهضت أم عيشة وأيقظت زوجها، فسألها ما الأمر، فأجابته: "هيا، لنساعد ابنتنا على جمع أكوام الحب، أما ترى كومة هنا وكومة هناك؟! لماذا هذا التبعثر؟!"، ونهض أبو عيشة، وأخذ يساعد زوجته على جمع أكوام الحب، بعضها إلى بعض، حتى جعلاها كومة واحدة.
وفي الصباح أسرعا إلى ابنتهما عيشة يخبرانها بما فعلاه لأجلها، ودخلت عيشة إلى غرفة المؤونة، فصعقت لما رأت، فقد جمعا العدس إلى القمح إلى الشعير إلى الشوفان، واعتذرت لزوجها، وأسفت لما فعلاه، فما كان منه إلا أن باع الخليط علفاً، بثمن بخس.
وفي المساء سأل ابن الآغا زوجته أيضاً عن الموضع الذي ترغب أن ينام فيه والداها، فأجابت الزريبة، فأنكر عليها ذلك، ولكنها أصرت.
ودخل أبو عيشة وزوجته إلى الزريبة، وناما، وفي الليل نهضت أم عيشة وأخذت توقظ زوجها، فسألها "ما الأمر"، فأجابته: "هيا انهض، وانظر كم عند ابنتك من جرار الحناء، وكم عندها من جمال، هيا لنصبغ رأسينا بالحناء، وليمتط كل واحد منا جملاً ولنمض إلى الحجاز، لأداء فريضة الحج".
وفي الصباح أسرعت عيشة إلى الزريبة لتنظر إلى والديها وترى مافعلاه، فإذا هما ملتصقان من رأسيهما بالسقف، فقد دهنا رأسيهما بما في الجرار من دبق لصيد العصافير، وهما يحسبانه حناء، ثم امتطيا جملين، ولما نهض الجملان، لصقا بالسقف لما في رأسيهما من دبق، ولما سألتهما عيشة عما فعلاه، أجابا: "أردنا أداء فريضة الحج، ولكن السماء، لم ترد"، فأنزلتهما، وغسلت رأسيهما، واعتذرت لزوجها عما بدر منهما.
وفي المساء سألها زوجها عن المكان الذي ترغب أن ينام فيه والداها، فأجابت: "حظيرة الدجاج".
ودخل أبو عيشة وزوجته إلى حظيرة الدجاج، وناما، وفي الليل نهضت أم عيشة لتوقظ زوجها، فسألها: "ما الأمر؟!"، فأجابت: "هيا انهض، لتشم رائحة الدجاج كم هي نتنة، يبدو أن عيشة لم تغسل الدجاج منذ زمن"، فنهض أبو عيشة، وأخذ يساعد زوجته على غلي الماء، وغسل الدجاج، بالماء الحار والصابون.
وفي الصباح الباكر أسرعت عيشة إلى أبويها لتطمئن عليهما، فرأت الدجاج كله جيفاً هامدة، فحملتها ورمت بها إلى الكلاب.
وبعيد ظهر ذلك اليوم، ودع أبو عيشة وزوجته ابنتهما، ورجعا إلى قريتهما، وبينما هما في الطريق مرا بنهر صغير، فاقترحت أم عيشة على زوجها أن ينزلا ليستريحا قليلاً، وقعدا على ضفة النهر. وإذا ذبابة تحط على أنف أم عيشة، فالتفتت إلى زوجها تسأله عما حط على أنفها، فأجابها: "هذا عزرائيل جاء ليقبض روحك"، فقالت له: "ويلك، اقتله قبل أن يسلبني روحي"، فما كان من أبي عيشة إلا أن حمل حجراً كبيراً، وضرب به وجه أم عيشة فوقعت ميتة.
فقعد إلى جانبها وهو يحدث نفسه فيقول: "هل هذا هو أوان النوم، علينا أن نصل إلى القرية قبل حلول الظلام"، وهم أن يوقظها، ولكنه لم يشأ إزعاجها، فتركها، وأخذ يتأمل ماء النهر المنساب، فأخذته سنة من نوم، فأغفى ونام.
وحل الظلام، ودخل الليل، فقدم وحش، فافترس أبا عيشة.
التعليق:
حكاية ساخرة، غايتها انتقاد المفارقة المرّة بين حياة الفلاح وحياة الآغا، إذ تظهر حياة الأخير مفعمة بالحركة والغنى، على حين تظهر حياة الأول فقيرة مجدبة، وفي مجال الآغا يسيء الفلاح التصرف، ليس بسبب الخبال، كما هو في الظاهر، وإنما بسبب ما يحيط به من ظروف لم يألفها، وهذه الظروف هي التي تقوده إلى الوحش يفترسه، وتبقى ابنته رمز الخصوبة والحياة في منزل الآغا.
ومما لاشك فيه أن الحكاية لاتقدم تلك الأحوال كلها لتؤكدها وتسوّغها، وإنما لتسخر منها وتنتقدها، إن الحكاية تسعى من خلال السخرية المرة الفاجعة إلى إثارة الوعي، وتنبيه الشعور، وإثارة اليقظة، فهي تسخر وتضحك، لكي تفجع وتؤلم، وتحقق الصحوة.
إن ظفر ابن الآغا بابنة الفلاح لم يكن عن حب، ولا عن جدارة، وإنما كان اختطافاً، مما يؤكد إدانة الحكاية لاستلاب الآغا الفتاة والحياة من يدي الفلاح البسيط.
وخبال الفلاح ليس عطباً في عقله، وإنما مرجعه إلى جدب الحياة التي يعيشها وما فيها من فقر وحرمان، فهو خبال، وليس جنوناً، وهو نتيجة وليس سبباً، وهذا الخبال نفسه رمز بطريقة ساخرة لإمكان تحقيق الخلاص، بإعمال الفكر.
إن السخرية في هذه الحكاية مسوغة ومتميزة.