- تهيّأ للزيارة..
لكلّ شيء أوانه، وهذه الزيارة لم تكن متوقّعة.. لكنّه ينتظرها، منذ أشهر، وهو يترقّب.. قلبه ينبض بألف نداء، ونفسه قلقة، ولهفته لا يكاد يخفيها.. هل عرفت أمّه ذلك؟ هل انتبهت واحدة من أخواته..؟..
ولكنّ هذه الزيارة تهمّه وحده، ثمّ لماذا يخفي الحقيقة؟.. لماذا يخبّئ أشواقه المتعاظمة على نحو لم يألفه من قبل؟ حتى أمّه ربما تدرك بإحساسها الذي لا يخيب أنّه سيسرّ حقاً لهذه الزيارة.
وربّما أخواته أيضاً، وهنّ يعلقن شيئاً ما على نجاحها!! أو ليس هو الأخ الأكبر.. و.. الوحيد الذي يرفعن به رؤوسهنّ أمام الصّديقات والجيران؟! أو ليس هو الأمل المرجوّ بالنسبة إليهنّ، كلّما خطر لهنّ خاطر، أو مرّ ببالهن شيء هامّ!.
هو وحده الذي يستطيع أن يدرك ذلك كلّه، فهو بأهوائه التي يحاول إخفاءها جاهداً، وبطبعه الوثّاب يدفع الآمال الصّاخبة في صدره إلى دنيا عريضة عريضة، مرسومة بالظّلال الجميلة، وملوّنة بالأزاهير والفراشات والعصافير..
وعندما قالت أمّه:
- أسرع بارتداء ملابسك..
وثب قلبه بين ضلوعه جذلان نشوان..
أمام المرآة شدّ قامته، ليطمئنّ على هندامه، ورأى نفسه وراء العينين والملامح الفتيّة موفور العافية، فتح درج"الكومودينو" وأخرج فرشاة ناعمة، أزال بها طبقة الغبار الرقيقة التي تكسو حذاءه، أعاد تلميعه بقطعة من الصّوف، ووضع الفرشاة وقطعة الصّوف في مكانهما من"الكومودينو" وأغلقه..
دبّ في مشاعره تلك اللحظة.. إحساس سعيد.. وللمرّة الثالثة سمع أمّه من حجرة الجلوس تناديه.. حلّقت أطياف من ترف ودفء ونعومة، فوق رأسه تماماً، وحين انتصب أمامها، أفسحت له الطريق وهي تنظر إليه نظرة معاتبة، كانت تحمل حبّها المؤكّد.. وهمست:
- تفضّل.. أمامي..
في الشارع بدأ كلّ شيء يبهجه.. هذا الشارع الصّغير الصّاخب، أولئك الصّغار الذين يتواثبون، والباعة المتجوّلون بنداءاتهم الشجيّة، وهذه البيوت الهزيلة المتلاصقة كأنّها تلوذ ببعضها.. أحسّ أنّه يودّ لو يقبّل الأشياء كلّها.. لو يضمّ إليه أمّه، الآن، وفي هذا الشارع.. أمام الناس، والدنيا..
حملت الشمس الدافئة أكثر من رجاء، الحديقة الصّغيرة كانت تضجّ تحت طلاّتها الناعمة، تضجّ بالأطفال الذين يجتازون ممرّاتها صاخبين، وفوق مرجها الأخضر اللاّمع يسقطون هنا وينهضون هناك، ما الذي يجري؟.. كأنّما حالة من الطّرب غشيتهم، كأنّما سعادة غامرة مسّتهم، وهو ينظر.. ولا يعرف من أين هبطت هذه الرؤى. في بداية هذا النّهار الدافئ!!
تنّهد من الأعماق، غمغم بينه وبين نفسه: إنّني أقترب من مواطن الهناءة والأمان، ها هنا يرسو القلب، يلقي بأشرعته المكدودة التي هزّتها الريح زمناً، إنّ قدمي تنشطان بي على نحو غريب.. كأنني أستعجل الزمن، والزمن يفرّ، ينسلّ من بين أيدينا، فلم لا نسرق لحظات الفرح الحقيقية؟.. لم لا نستلب منه سعادتنا.. يا أغاريد الزّهو والفرح، أحفظ عن ظهر قلب كل الدّقائق المنسيّة، تلك التي مرّت بي، أستحضر الوجوه الحلوة التي حفرتها الأيام في قلبي المترع الحار، أجمع صور الأحبّة، ألملم أطراف الأحلام.. أنسج منها قصص العشق والغزل، والأماني الورديّة..
أمّه إلى جانبه، تحادثه، وهو شارد كأنّه لا يفطن إلى شيء، سوى أنّه يحسّ بوحدته، وتفرّده، كأنه يريد أن يستأثر بالسعادة وحده.. لا يشاركه فيها أحد، ولكنْ!.. صحيح أنّ أمّه تهمس له بشيء.. توقّفتْ -الآن- نظرت إليه على نحو يعرف فيه أنّها ضبطته متلبّساً، شارداً، بعيداً، نائياً.. تلعثم لسانه، بينما اندفعت توصية بالكلمات المناسبة، أثناء مجالسة ذلك المريض، ولأوّل مرّة، عرف أنه ابتعد بخياله عن هذه الحقيقة،.. إنّ الهدف من مجيئه إذن أن يعود المريض. ولكنْ لا.. لا.. غير صحيح أنّه جاء من أجل المريض، وهو يعرف أنّه لم يغفل لحظة واحدة عن نفسه، كأنّما كلّ شيء قد توقّف من حوله، كأنّما فقدت الزيارة طعمها ونكهتها حين ذكّرته أمّه بالمريض!.. وما الذي يهمّه من ذلك كلّه.. ألا يستطيع أن يصطبر قليلاً.. ليعرف كلّ شيء..
وضحك من خواطره عندما وصل إلى هذه النقطة.. وامتدّت أصابعه تضغط على جرس الباب..
أحسّ بأنّ هناك شيئاً ما بدأ يغادره.. يهرب منه، على الرغم من أنه حاول أن يضبط بعض أحاسيسه، لكنّه لم يستطع.. شعر بأنّ حركاته تغيّرت.. حتى صوته، شعر بأنّه غير قادر على أن يرتفع به إلى مسامعه، بحث عنه، فتّش عن الكلمات المناسبة، لم يجد فيها ما يسعفه في هذه اللّحظة الحرجة، ترك كلّ شيء يأخذ مجراه، وبقي هو -هكذا- ينتظر!.. والانتظار لم يكن طويلاً، حتى أنّه لم يترك له مجالاً يستجمع فيه شتات نفسه المتسرّبة في أغوار خيالاته وأوهامه، فقد فُتح الباب وأطلّ وجه امرأة..
وحين التقت العيون انفرجت الأسارير.. وانطلقت الأصوات -بعدئذ- ترحّب بالقادمين.. أما هو فقد كان مسلوب الإرادة تماماً.. كذلك الغريق الذي ترك نفسه وسط لجّة الأمواه تأخذه أنّى تشاء، بعد أن عرف أنّ أطواق النّجاة ستنجده في اللحظة الحرجة.. ثمّ لماذا يشغل نفسه بانتظار الدقائق المقبلة ما دام سلفاً يعرف بأنّ كلّ شيء من حوله سيمدّ له يد المعونة، في الوقت المناسب..
وحده اتّجه إلى الغرفة(الجوّانية) حيث رقد المريض. بينما تركته أمّه لتنضمّ إلى جمع النّسوة هناك في الغرفة المقابلة..
دفع الباب، بدا المريض المستلقي في صدر الغرفة مفتوح العينين، تقدّم نحوه وهو يتمتم بالتحيّة، وبصعوبة بالغة ردّ المريض وقد أشرقت قسمات وجهه بفرحة حقيقية، كأنّه وجد أخيراً من يأنس إليه، ويسرّي عنه أوجاعه وآلامه..
السرير يئنّ إذا ما المريض تحرّك قليلاً، بعث هذا الأنين في نفسه كآبة لا حدّ لها، ترى هل يخيب أمله من وراء هذه الزيارة،.. لو كنت أعلم أنّني سأكون هنا لاعتذْرتُ!
لحظات مشوبة بالقلق الخفيّ كانت تمرّ به، بينما هو ينقل نظره بين المريض والنافذة، وسقف الغرفة، والأشياء المبعثرة هناك..
الأصوات خارج الغرفة تصل إليه متداخلة مبهمة، وقد حاول أكثر من مرّة التقاط نبراتها لعلّه يصل في النهاية إلى قرار بأنّ "الزيارة" ستكون كما صوّر له خياله، ورسمت له أحلامه..
وعلى غير انتظار، أحسّ برعشة قويّة تهزّ كيانه، وشعر بقلبه يضجّ في صدره بينما صعد الدم حاراً إلى وجهه..
انفتح الباب، وأطلّت.. فاطمة..
ثبتت عينيها فيه وتأمّلته... ثمّ اندفعت إليه تسلّم.. تبتسم.. التقت الأكفّ.. سرى بينهما شيء أكثر من كلمات التّرحيب الحارّة.. شيء أكثر من التفاهم، أكثر من الرجاء والأمل.. و.. التوسّل.. شيء لم يعرفه من قبل.. كانت تبادله إيّاه.. تمنحه له بكلّ بساطة وعفوية،.. ولأوّل مرّة أدرك أنّ الكلام غير مُجْدٍ أمام طلّتها الناعمة، أمام إشراقة وجهها الآسر.. العذب..
لم يكن حضور فاطمة كذلك الحضور الذي نقيس فيه أو نتواضع عليه، كان حضوراً من نوع خاص متميّز. كان فيه شيء يجذب، يجعلك تحسّ بأنّك -حقّاً- أمام الحياة الحلوة العريضة، أمام مباهجها النديّة، ومفاتنها الورديّة التي تتغلغل في طيّاتها بشائر السعادة وأماني الحبّ..
بدا وجهها الحنطي ملموماً بهالة شعرها الليلي المسترسل على كتفيها بِدَعَة واطمئنان.. هفت نفسه إلى أن يلمس خصلاته، يشتمّ منها أريجها المثير، وفي قميص ذي رسوم منمنمة زرقاء وبيضاء بدت قامتها الرشيقة، خشي على كفّه أن تمتدّ إليها تستقرئ جزءاً من قدّها الأهيف الموّار..
ومرّت لحظة.. لحظة واحدة فقط، نسي فيها كلّ شيء حوله، نسي المريض، والسرير، نسي الغرفة بأشيائها المبعثرة، نسي نفسه تماماً وأحسّ بأنّه ينتمي إلى عالم لا يمتّ إلى زمان أو مكان، ولا يرتبط فيما حوله بسبب...
"حقاً ، إنّنا ننسى أنفسنا في لحظات الهناءة على نحو يصبح فيه من الصّعب تذكّرها في النّهاية، وإنها لسعادة لا يداينها شيء إذا ما عرفنا كيف نحسن استذكارها.."
كلّ شيء من حوله رائع،..
وحين تزحزح المريض بدأ السرير يئنّ، فأفاق من شروره وارتعش كأنّما استردّ وعيه، تحسّس بقدميه أرض الغرفة فعرف أنّه مازال فوق مقعده، أمام المريض، والسرير، أمام أشياء الغرفة المبعثرة. ولكنْ.. هذه الأشياء كلّها لم تعد تشعره بالكآبة، كلّ شيء في مكانه، وقد بدت الظّلال في الغرفة رائعة.. كأنّما هنالك روح خفيّة منطلقة سكنت هذه الأشياء أو أنّها استعادت الحياة فيها من جديد،..
فاطمة بحضورها البهيّ، أضفت على جوّ الغرفة شيئاً يشبه السّحر، أدركه بحسّه العميق، فاندفع يحاور المريض، دار حديث حول الوظيفة والمهن الحرّة، والحياة التي أصبحت رحبة تفتح ذراعيها لكلّ الطامحين، ثمّ تغيّرت دفّة الحديث فانحصرت بينه وبينها.. انصرف كلّ منهما إلى الآخر..
فاضت العيون بالهُيام،.. أفصحت بألف كلمة من كلمات الأشواق والحنين، دنيا جديدة طافت حولهما، والحديث نجوى، والنظرات عناق، والهمس بوح، صارا معاً، حواراً وتفاهماً، منحاً وعطاء,, هو قريب منها، وهي قريبة منه، لم يكن بينهما شيء مصطنع، أصغى إليها بكلّ جوارحه وأصغت إليه، انسجمت حركاتهما، تبادلا الابتسام، تألّقت أمامه وأشرقت إطلالتها، احتضن هلاّتها غير مصدّق، والوقت ينقضي بسرعة، وصوت أمّه يتناهى إليه وقد آذنت بانتهاء الزيارة، وشيّعته بنظراتها إلى الباب، لم يجرؤ -عندما أصبح في الطريق- أن يسترق النّظر وراءه، ربّما تكون عند الباب تنتظر أن يغيّبه الطريق أمامها، وظلمة المساء بدأت ترين على ما حوله..
تناثرت الأسئلة صاخبة ضاحكة، وجهد في إخفاء حقيقة أحاسيسه، فرّ إلى حجرته بعواطفه، هرب بأحلامه الجديدة الهنيئة، والساعة صارت الثامنة، وهذه أشياؤه الصّغيرة يرتّبها في حقيبته.. وهو شارد محزون.. هذه أوّل مرّة يشعر فيها بمرارة الفراق، كم مرة غادر هذا البيت؟.. كم مرة ترك كلّ شيء هنا، والابتسامة ملء وجهه لا تفارقه، فما الذي دهاه الساعة، إنه يقتلع نفسه اقتلاعاً، يحسّ بأنّه مفارق البيت، والطريق، والأشجار والحنين، والأحلام، والحبّ.. و.. فاطمة.. فاطمة تلوّح بكفّ صغيرة وهو حائر...
ما أصعب أن نفارق من نحبّ، في الوقت الذي يتألّق فيه الحبّ، ما أصعب الفراق، وما أشقّه على نفس المحبّ..
ظلمة المساء تنسحب فوق الأشياء، والساعة هي الثامنة.. لابدّ من السفر...
انفتحت جراح خفيّة في صدره، وهو يصغي إلى أصوات أخواته وأمّه.. كأنّه يحلم،.. تحامل على نفسه وعاد يرتّب أشياءه في حقيبة السفر.. ما أشق هذه اللّحظات على نفسه المتأججّة بمشاعر متباينة، هناك أثقال تشدّه.. تهيب به أن يبقى..
- ترى متى أستطيع أن أحسّ براحة القلب؟ متى يمكنني أن أستريح!..
ألقى أمام أمّه وأخوته بكلمات الوداع، وجرّ نفسه وحيداً إلى الطريق..
التقطت أذناه دعوات أمّه وهتاف أخواته، سكاكين صغيرة مهدهدة تنغرس في روحه.. ثم لم يعد يسمع شيئاً..
السكون يلفّ كلّ شيء.. وقع خطواته المتتالي هو الذي يسليّه في وحشة هذا الدرب المعتم، الكئيب..
هذه المرّة يشعر بأنه يسافر.. ترك قلبه وراءه، صار إنساناً آخر لم يعد يدفعه الأمل الأكيد ليشعره فعلاً بهدف العمل هناك، وهدف الحياة،.. صار لكلّ شيء طعم خاص، ضاعت أخيلته وأمانيه في زحمة مشاعره المضطربة.. عمره صار محمولاً على قطار الحزن، والمحطّات هاربة، لقد اكتشف أنّه لم يذق طعم الحبّ،.. انزوى في مقعد السيارة شارداً، بينما أطبق الليل وراء النافذة على الأشياء..
شعر بالخدر يسري إليه، يتسلّل رويداً رويداً.وهو يريد أن يستريح، أغمض عينيه، وإطلالة فاطمة وحدها هلّت عليه، كانت تمسح عن وجهه سحابات الحزن.. استسلم لحضورها البهيّ.. وأغفى..