بتـــــاريخ : 11/12/2008 3:48:47 AM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1150 0


    القيد

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : ابراهيم خرّيط | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة القيد ابراهيم خرّيط

     

     

    أذكر فيما أذكره اليوم انني كنت تلميذا في المدرسة الابتدائية،كأي واحد من أبناء بلدتي الراقدة على ضفاف الفرات..أجر قدمي صباحا الى المدرسة على درب ترابي مثيرا ورائي سحابة من الغبار أيام الجفاف،أما في الشتاء عندما يتساقط المطر وتتحول الطرقات الى غدران ماء وطين،تغوص قدماي في الوحل ويتسرب الماء عبر ثقوب الحذاء ويبلل جواربي فأظل أرتجف من البرد وأنا على المقعد الخشبي.‏

     

    وأذكر انني عدت يوما من المدرسة وقد أنهكني التعب والجوع،وجمّد البرد والصقيع أطرافي..دفعت الباب بيدي فسمعت صريرا كأنين المرضى،ثم دخلت.‏

     

    نظرت حولي..بحثت عما يمكن أن يقضي على الرتابة في حياتنا ويبعث الأمل في نفوسنا..وجبة شهية،زائر يحمل هدية،مفاجأة..خبر..‏

     

    لا جديد..‏

     

    أمي تقبع في زاوية من زوايا الغرفة، تخيط بالابرة قطعا من القماش مختلفة الشكل واللون لتصنع منها غطاء نتدثر به في ليالي الشتاء.أخي يلعب في باحة المنزل، أما أختي الصغرى فهي تحاول أن تقلد والدتي التي كانت تنهرها كلما مدت يدها لتأخذ خيطا أو ابرة.‏

     

    صورة ميتة هذه التي أراها أمامي ..قاتمة ..سوداء، كل شيء تنقصه الحركة..ينقصه اللون والبريق،ينقصه نبض الحياة.‏

     

    رميت كتبي على مقعد قديم ونظرت الى نفسي في المرآة،انني صورة منهم..عيناي غائرتان ذابلتان،شعري أشعث مغبر، وجهي شاحب،جسمي هزيل..لوني يميل الى الاصفرار.سألت:ماذا لدينا على الغداء؟‏

     

    ودون أن ترفع أمي رأسها قالت: لا شيء.‏

     

    انتابني ضيق شديد،شعرت بألم في بطني وكدت أن أتقيأ.‏

     

    صرخت:لا شيء.كيف؟ انني أموت من الجوع.‏

     

    ردت بغضب:لاتصرخ في وجهي.ماذا أفعل لك؟!‏

     

    وقبل أن أغادر الغرفة جاءني صوتها:‏

     

    -عندك الخبز والزيت والزعتر..‏

     

    قلت بضيق:خبز! خبز.!لاشيء الا الخبز! يا أمي حرام،والله حرام..رفاقي في المدرسة يأكلون اللحم والبيض والفاكهة..وأنا..‏

     

    قالت مستنكرة:كلهم..؟!‏

     

    استدركت:لا..ولكن..‏

     

    قالت بلهجة صارمة:اسكت اذا..لا تكفر بالنعمة،قد يأتي عليك يوم تركض وراء اللقمة فلا تجدها ،وتنظر الى القمر فتحسبه رغيفا أحمر..ثم..ما ذنبي أنا ؟!قل هذا الكلام لأبيك.‏

     

    سألتها:أين أبي؟‏

     

    أجابت دون اهتمام: لاأدري.‏

     

    تساءلت: ترى . ألم يجد عملا بعد أن سرحّ من وظيفته لعجز صحي؟ ألم يدفعوا له التعويض الذي وعدوه به؟ لقد وعدنا بوجبة شهية وحلوى وهدايا وألبسة.أذكر أنه قال لأمي: البرد قارس يامرأة،والجوع كافر، والأولاد محرومون من كل شيء.ومنذ أن سمعنا ذلك ونحن نحلم باليوم الموعود، ونترقبه بفارغ الصبر.‏

     

    هممت أن أسأل والدتي عندما دخلت جارتنا الأرملة وأسرعت تقول وقد ألقت بجسمها الثقيل إلى جوار أمي:‏

     

    -مبروك..مبروك.‏

     

    فتحت أذني وعيني وفمي،ووقفت مذهولا تتملكني حيرة وتتصارع في نفسي مشاعر شتى..فما الذي تعرفه الجارة ولا أعرفه أنا.‏

     

    سألت بلهفة:ماذا جرى ياأمي؟‏

     

    لم أسمع جوابا.‏

     

    ابتسمت والدتي وقالت تخاطب جارتها:‏

     

    -بارك الله بك،عسى أن يرزقك بابن الحلال.‏

     

    قالت الجارة كمن تتمنع وهي راغبة:‏

     

    -لا..أنت تعلمين اني لا أفكر بالزواج..المهم،دعينا من هذه السيرة وأرني اياها.‏

     

    رفعت أمي كمي ثوبها فرأيت بريق الذهب الأصفر،كاصفرار وجوهنا..كلون الدم الذي يجري في عروقنا..رأيت سوارين من الذهب يحيطان بمعصمي أمي..استغربت،هل أصدق ما أرى..وكيف؟! يدفعني الفضول للمسهما وتأملهما عن كثب،ويصدني عنهما شعور بالقهر والحرمان يتأجج في صدري.‏

     

    أدركت أن والدي قد قبض تعويضه فاشترى لأمي هاتين الحديدتين.‏

     

    سألت الجارة مستفسرة:كيف..كيف استطعت أن تقنعيه..؟!‏

     

    ردت والدتي:‏

     

    -هي دين لي بذمته..لقد وعدني بهما منذ زمن طويل..عندما باع سواري القديمين وسدد بثمنها بعض الديون.‏

     

    قالت الأرملة وعيناها معلقتان بالذهب:‏

     

    -خيرا فعلت والا..‏

     

    تلفتت حولها واستطردت بصوت منخفض:أنت تعرفين،الدهر خوان والرجال ليس لهم أمان.‏

     

    كل هذا حدث أمامي..أرى وأسمع وكأنني لا أرى ولا أسمع .لا أدري..ربما اعتقدتا انني لا أفهم أو أن الأمر لا يعنيني ولن ينطبع في ذاكرتي ويترك بصماته على مسيرة حياتي.‏

     

    التفتت الي والدتي تلومني بنظراتها ثم أشارت الى السوارين وقالت مثل طفلة تفرح بلعبة جديدة:‏

     

    -يجدر بك أن تراهما منذ اللحظة الأولى .ان بريقهما يخطف البصر..أم انك لا تريد أن تبارك لأمك.‏

     

    جمدت في مكاني عاجزا عن الكلام.‏

     

    واستطردت أمي تقول مؤنبة:‏

     

    -منذ زمان وأنا أقول انك تختلف عن بقية الأولاد..‏

     

    لايعجبك العجب ولا الصيام في رجب.‏

     

    ردت الجارة ،ولا أدري ان كانت تتهمني أو تدافع عني:لا عليك،ما هو الا ولد.‏

     

    نظرت الى يدي أمي اللتين طوقتا بسوارين من ذهب.‏

     

    صنعا على شكل ثعبانين..رأيتهما يكبران ويكبران...‏

     

    يمتدان،يلتفان،يحيطان بأعناقنا ثم يضغطان..يضغطان بقوة..أكاد أختنق،لاأستطيع أن أتنفس..جسمي يرتعد..يداى ترتجفان،قلبي يدق بقوة،شفتاى ترتعشان،لساني يتلجلج في فمي ولا أستطيع الكلام.‏

     

    ثم..‏

     

    هدأت ثورتي وتصبب العرق مني باردا،بلل جسمي وثيابي،فشعرت بالوهن والاعياء..لفتني غمامة قاتمة،سالت من عيني دمعتان ساخنتان،ثم لملمت أفكاري المشتتة..‏

     

    قاومت ضعفي،استجمعت ما بقي عندي من قوة وقلت ببرود وقد أشحت بوجهي عنها:‏

     

    -أجل يا أماه..مبروك.‏

     

    ثم انطلقت أعدو..‏

     

    وأذكر فيما أذكره اليوم انني سألت أمي بعد أيام وأنا أطيل النظر الى السوارين:‏

     

    -ما جدوى أن يملك الانسان ذهبا،ومعدته فارغة من الطعام.‏

     

    أجابت وهي تشير اليهما:هذان ذخيرة للمستقبل،أمان من غدر الزمان،نحتفظ بهما لوقت عوز وحاجة..للأيام،حلوها ومرّها..سوف ترى اني على حق فيما أقول وتتذكر كلماتي هذه،وتقول..أمي قالت.‏

     

    لم أنطق بكلمة..لم أجد ردا مناسبا،فسكت ولم اقتنع.‏

     

    مرت شهور واعوام..‏

     

    تجرعنا المر وعانينا من الحرمان..‏

     

    أيامنا الحلوة قليلة..لم تكن أياما،كانت لحظات عابرة.لاندري ان كنا نسرقها في غفلة من الزمان أو ان الدهر يتصدق بها علينا.‏

     

    كبرنا وكبرت معنا الهموم والمآسي،وكلما قلت لأمي وأنا أشير الى السوارين:‏

     

    -أليس هذا يومها.‏

     

    كانت تقول:لا..قلت لك نحتفظ بهما لوقت عوز وحاجة.‏

     

    نمنا على الطوى مرارا،تعرينا،صبرنا على البلاء وظلت أمي تردد عبارتها الشهيرة.‏

     

    مات أبي ..لاأدرى كيف تدبرنا النفقات الا انني أذكر فيما أذكره اليوم اننا بعنا بعض الأثاث وتراكمت علينا ديون جديدة.أما السواران فقد كانا يلمعان في يدي أمي وهي تتقبل التعازى.‏

     

    قلنا لأمي..أنا واخواتي وقد عصرتنا الأيام:‏

     

    -نبيع السوارين ونستثمر ثمنهما..الحياة تتغير والناس يتطورون ونحن كما كنا .‏

     

    هزت رأسها وقالت بأسى وهي ترمقني بنظرة زاجرة : أنت أنت،لم تتغير.‏

     

    بعد أيام فوجئنا بعساكر وموظفين يحملون سجلات ودفاتر، يدقون بابنا بعنف..وكان بينهم ذلك الرجل البغيض الذى وفد الى قريتنا منذ أعوام وامتلك أرضا فيها وبلغونا قرارا بالحجز،اذ ادعى انه دفع ثمنها لأبي،وان لديه سندات بذلك،طلبوا منا أن نوقع..رفضنا،فلصقوا صورة القرار على بابنا،واتهمونا بالممانعةو..وأنذرونا أن نمتثل للأمر،وان كان لنا حق فما علينا الا أن نطرق أبواب المحاكم.‏

     

    كان علينا أن نفعل شيئا فقلنا لأمي وكنا نعتقد أنها قد صحت بعد غفلة،واستيقظت بعد غفوة:‏

     

    -أما حان يومها؟‏

     

    رمتنا بنظرة استنكار وقالت بغضب:‏

     

    -لا..قلت لكم هذه للأيام..حلوها ومرها.‏

     

    سألت بصوت منكسر والألم يعصر قلبي:وهل أكثر مرارة يا امي....؟‏

     

    اختنقت ولم أكمل كلامي.‏

     

    حاولنا إبطال الحجز أو ايقافه،ولكنا كمن يصرخ في قوم لا يسمعون..كل خطوة نخطوها تحتاج الى المال..المحامي، والدعوى،والشهود،فقلنا لها وقد تحلقنا حولها وعيوننا معلقة بالسوارين:‏

     

    -أما حان يومها؟‏

     

    رفعت الينا عينين تبرقان وقالت بحزم:لا.‏

     

    ثم أضافت ساخرة:يارجال.‏

     

    قلنا:الرجولة وحدها لاتكفي.‏

     

    ردت:هل ترون ذلك؟‏

     

    سكتنا ولم نعرف ماذا نقول.‏

     

    مرضت والدتي ورقدت في الفراش،تحملت الألم...‏

     

    قاومت..صبرت وكابرت..‏

     

    قلنا لها:نبيع السوراين..هذا يومها.‏

     

    ردت بصوت كأنه آت من بئر عميق:لا..ليس بعد.‏

     

    وكررت وهي تختنق:قلت لكم نحتفظ بها لوقت عوز وحاجة.بعد أعوام ماتت والدتي،والموت مكلف كما هي الحياة،أصبنا بالذهول.وقعنا في حيرة..تساءلنا:ماذا نفعل وكيف نتصرف.؟!تبادلنا النظرات..كانت عيوننا تقول شيئا واحدا..‏

    بعنا السوارين وتفرق ثمنها بين الكفن والمقرئ،وحفار القبور والمأتم ،والبائسين الذين اعتادوا العيش على الصدقات،والسيارات التي حملتها الى مثواها الأخير.

    كلمات مفتاحية  :
    قصة القيد ابراهيم خرّيط

    تعليقات الزوار ()