بتـــــاريخ : 11/18/2008 5:58:54 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1356 0


    الـوداع الأخــير

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمـــود زعـــرور | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    (إلى الصديق الراحل القاص هيثم الخوجة)‏

    وددت لو أنك تستطيع البكاء لكنت فعلت ذلك بغير إبطاء، وبكل ما تختزنه من حسرة ولوعة، ولا يهمك إن ضج صوتك نائحاً، لأن هذا سيريحك حتماً، ويفرج عنك هذا الضيق الذي أنت فيه.‏

    لكن أن تبقى، هكذا، أسير نشيجك الصامت المقيد بألف وثاق إلى داخلك الآسيان، فهذا يعني لك الاختناق في غيظك تماماً.‏

    وتستغرب ذلك، ولا تجد له أي تفسير يقنعك، وهذا مما يزيد من عذابك، ويضاعف من حزنك.‏

    تمشي بخطوات ثقيلة، وتعاني ألماً مبرحاً في جرجرة قدميك، وتشعر أنهما قد انفصلا عن جسدك، وليست لك القدرة في السيطرة عليهما، كما في السابق من الأيام.‏

    وتنظر إلى أرجاء الباحة فترى الجميع يسيرون فرداً فرداً، غارقين في الأسى، كأنهم اتفقوا جميعاً، وبدون إعلان، أنْ ينسحبوا كلهم إلى ذواتهم، كي يعيش كل منهم برهته الخاصة، والاستثنائية، في التفجع، والتذكر، والوحدة.‏

    ورحتَ تتخيلهم يمشون في صفوف منتظمة، مشدودة، مترابطة، كأنهم يشيّعون جنازته في وداعٍ أخير، وإلى الأبد.‏

    كان الكل صامتين، خاشعين، في سيرهم وراء تلك الجنازة التي تقطع طريقها وصولاً إلى المقبرة.‏

    سيرقد النعش قليلاً على الأرض، قرب القبر المهيّأ للتو، وستلقى نظرات الوداع الأخيرة، النظرات الجريحة، وسيبكي ذووه، وأصدقاؤه الخُلّص بحرقة.‏

    أما هنا في هذه الباحة فلا بكاء ولا همسات وما من صوت لوقع خطاهم الوئيدة.‏

    منذ يومين كانوا يملؤون الباحة لعباً وضجيجاً وصخباً متعالياً، وكنت بينهم، تتابع بشغف لعبة كرة القدم تلك اللعبة التي تضفي على الدوام في تلك الساعة اليومية في الباحة نكهة خاصة، مميزة، تستمتع بتأثيرها المبهج، وهذا السرور كان لا يقل عن سرورك في الأحاديث المختلفة، والنقاشات المتعددة، التي تطال كل شيء، من أخبار الأهل والأصدقاء في الخارج، والكتب التي وصلت حديثاً، إلى أصداء الحرب العراقية- الإيرانية، وردود الفعل المختلفة على الانتفاضة الفلسطينية في الأراضي المحتلة.‏

    ويوم علمتم نبأ موته أمس، وكان يوم الخميس يوم الزيارات الأسبوعية المعتادة، خيم على الفور سكون رهيب فوق الجميع وحل صمتٌ قاسٍ وكئيب في الغرف، أشبه بصمت مقبرة.‏

    وعندما بدأتم بتبادل التعازي فيما بينكم كنت تشعر أن كل واحد منكم كان يقدم العزاء لنفسه أولاً.‏

    لم تكن مستعداً لتصديق ذلك النبأ القاتل، وتساءلت في نفسك:‏

    - (هل سيغيب وجهه إلى الأبد).‏

    وصوته الغاضب الذي كان يدوي بعبارته الشهيرة "الفأس يا امرأة؟" هل سيختفي نهائياً؟!.‏

    والأغاني الحزينة في سهرات رأس السنة، كانت تأخذ بعداً حميمياً، واستثنائياً، عندما يغني بلوعة وحرقة لحبيبته المنتظرة، هل يموت صداها الدامي، ورجعها الحنون؟!.‏

    كان غناؤه ملح حياتكم هنا، وستذكر طويلاً "يا ديرتي مالك علينا لوم" وسترحل دائماً إلى الأمداء الواسعة، والبراري التي بلا حدود، والوجود البعيدة، كلما تذكرت نداءاته التي يطلقها، وبوحه الذي يرسله كل مساء.‏

    في صف طويل تخرجون من الباحة، وتدخلون مقهورين إلى الغرف الباردة، ومجدداً تغرقون في صمت حزين ويساوركم آسى بلا حدود.‏

    ترنو إلى النوافذ المتجاورة، وتتخيله يرقب منها الدروب الطويلة، والأفق الأزرق.‏

    كان طول الوقت يذوي ويتآكل من داخله كأنه كان على موعد مع الرحيل المبكر، ولم تكن لتدرك ذلك!.‏

    وعبارة(الفأس يا امرأة) تغدو عند الجميع شارة خاصة، ورمزاً غريباً، وكان يصر عليها.‏

    تنهض، تتجه إلى النافذة، وتصرخ باكياً:‏

    - "الفأس يا امرأة".‏

    لقد أدركت الفرق منذ مدة بين الفأس وبين الكأس، وعلى الفور، وما أن تنزل عائداً إلى مكانك، وتتطلع في الوجوه الساجية حتى تقر بما أدركت، وتعيش حالة من تفجع لن تنتهي، وستعتاد حزنك، وسيلازمك البكاء، كلما أتتك أصداء أغنياته.‏

    ورحت تتفحص الأمكنة، وتتلهى بذكر الأسماء، صامتاً وبطريقة مفاجئة حاولت أن تمسح الوجوه بسرعة، وعندما حط بصرك على مكانه المعتاد، وهاجمك الفراغ بكل شراسته أدركت معنى الوداع الأخير.‏

    وكانت غفوتك الطويلة وبكاؤك المخنوق وصوتك الذي يختلج، حالات يومية تلازمك، وتضعط على روحك ووجدانك مثل كابوس لا ينقضي

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()