لعل الكثيرين قد سبقوني بطرح هذا السؤال منذ عام 1987، عندما قدم الأستاذان علي العميم وعبد السلام الوائل رؤيتهما في مجلة اليمامة، بيد أن نبش هذا الماضي على غلاف مجلة "المجلة" وفي ملف خاص أمر يستدعي وقفة أخرى، خصوصا وأن موقف العميم قد تطور على نحو أكثر تشدداً في افتتاحيته لملف الشيخ ديدات في العدد (1333) بتاريخ 28-8-2005 من "المجلة".
يصف العميم نفسه وزميله عبد السلام الوائل في الفترة التي كُتب فيها المقال الأول بـ "الثوريين جداً في معتقداتنا"، ويعترف بأنهما قد اتفقا على "المناورة" للاحتماء بخطاب يراد منه النيل من خطاب آخر وهو الإسلامي الشائع في حينه. كما يذهب العميم إلى القول بأن تحمس المحرر سعد الدوسري لنشر المقال لم يكن لسبب مهني وحسب وإنما لسبب فكري مُذكراً بأنه "تحرري وحداثي"، وهنا لا بد من وقفة للتساؤل عن جدوى ادعاء موضوعية الكاتبين والمحرر أمام الاعتراف بأسبقية التوجه من جهة، واعتماد أسلوب المناورة والاحتماء بخطاب يراد منه النيل من الخطاب المستهدف من جهة أخرى!
قد يملك العميم الحق كاملا في الامتعاض من تصرف إدارة مجلته التي تعمدت إغفال موقفه في "المناظرة" التي تلت حملة الانتقادات الواسعة على مقالته، والأمر ذاته بالنسبة لتعرضه للأضرار الكثيرة التي ذكرها كالمشادة العنيفة التي كاد أن يذهب ضحيتها في كلية الدعوة والإعلام حيث كان طالباً آنذاك، ولكن هذا لا يعطيه الحق في المقابل للتحامل على ديدات بالشكل الذي لم يخفِه كما سنرى، بل إن اعترافه بما حمل له المقال من "ذكريات ثقيلة ومزعجة ومنغصة"، وبمحاولته لنسيان "شيء اسمه ديدات"، قد لا يكون في صالح ادعائه الموضوعية التي ما فتئ يزهو بها، كتصنيفه لطرفي المناظرة سالفة الذكر بأنها جرت بين "منطق ديني دعوي ومنطق عقلاني تاريخي"، ثم عدم التسليم بالأول بل وعدّه مغرقاً في البساطة!
بالعودة إلى مقال العميم والوائل القصير والمثير، والذي أعادت (المجلة) نشره ضمن ملفها المذكور، نتلمس إصرار الكاتبين على تأكيد الادعاءات السابقة منذ السطر الأول الذي يصف تحليلهما بالعقلاني الذي لا يخرج عن إطاره الصارم، كما يصف وقفتهما بالموضوعية، وهو ما سنحاول التحقق منه، بدءاً بلفت الانتباه إلى الانزعاج الواضح من الاحتفاء الجماهيري العربي بالمناظرة والذي وُصف بأنه "احتفاء يغيب عنه الحكم الموضوعي". وبما أننا نرى أن خطاب العميم والوائل هو الذي يصح أن يُنعت بهذا،
فإليك أخي القارئ ما يدفعنا لترجيح هذا الرأي:
1- الادعاء المغلوط بأن هذه المناظرة وأمثالها تؤدي إلى فتنة طائفية في العالم العربي، وهو الأمر الذي فنده ياسر محمد غريب في مقاله في الملف نفسه، ولا أقصد هنا استشهاده بمواقف التنصيريين الجارحة في العالم العربي، بل تهافت هذه الدعوى من حيث تجاهل كونها غير موجهة إلى العرب أصلاً، فهي لم تجر على أرضهم ومع منصريهم ولم تُدر بلغتهم، وإذا كان احتفاء المسلمين على أرضهم بانتصار دينهم في مناظرة علمية جرت في أقاصي الأرض يعدّ إهانة للأقلية غير المسلمة المقيمة بينهم، فبأي صورة يقترح الكاتبان استقبال هذا الخبر؟
2- الحمل على منهج ديدات في التعرض لأصول العقيدة النصرانية، انطلاقا من أن التاريخ لم يشهد اندثار أي عقيدة عبر الجدل، وهو موقف محير من كتاب يدّعون الموضوعية ويدعون إلى الحوار، إذ ما جدوى الحوار الحضاري الداعي إلى التعايش السلمي في ظل إصرار كل ذي رأي على التمسك برأيه، اللهم إلا إذا كان صاحبانا من المؤمنين بصحة معتقد كل من يهوى التشبث بمعتقده، وهو أمر لا يستقيم مع أبسط قواعد المنطق فضلا عن الإسلام! وإذا كان من غير المسموح للداعية المسلم أن يقدم دينه الذي هو أمانة في عنقه إلى غير المسلمين عبر المناظرة والجدل، فما هي الطريقة المثلى للدعوة في رأي الأستاذين الفاضلين؟
3- الحمل على ديدات في انتقاده للنصارى الذين لا يصدقون بولادة المسيح بالكيفية المسيحية على اعتبار تجاهله لكون غير المصدقين من أصحاب الديانات الأخرى أو من اللادينيين، إيماناً من الكاتبين بعلمانية المجتمع الغربي. وهذا ادعاء غير منصف، إذ أكد استطلاع للرأي أجرته صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 27-2-1993 أن 96% من الأمريكيين يؤمنون بالله، وهو ما أكده استطلاع آخر أجرته مجلة US news and world report بتاريخ 4-4-1994 عندما أقر 93% بأنهم مؤمنون مقابل 5% فقط ممن وصفوا أنفسهم باللادينيين. أما التفسير الأقرب - في رأينا- لمقولة الشيخ ديدات فهو حقيقة ازدواجية المعتقد لدي معظم الغربيين – والأمريكيين منهم على وجه الخصوص-
حيث يجمع المسيحي الغربي بين إيمانه بالمسيحية كمرجعية دينية توفر له الغذاء الروحي والانخراط في مجتمع يحمل هوية دينية مميزة وذات تاريخ عريق بالمقارنة مع المجتمعات الأخرى، وبين علمانيته التي يلتجئ إليها إزاء تهافت الكثير من دعاوى الكنيسة التي تفقد مصداقيتها في حكم العقل والعلم. يقول كرومر رداً على موقف العلماني العربي اللاهث للحاق بالغرب: "إنه يجهل أنه لا يستطيع أن يجاري زميله الغربي ويكون نداً له، فإن المسيحي المتحضر وإن لم يكن راسخاً في دينه، فإنه إلى حد كبير نتاج المسيحية، فإن لم تكن المسيحية التي مضى عليها ألف وتسع مائة سنة رصيده وسنده، لم يكن قط حيث هو الآن" [مصر الحديثة، كرومر، 2/ 232].
4- انتقاد ربط ديدات بين بعض نصوص الإنجيل وبين الانحلال الأخلاقي في المجتمعات المسيحية، وربطها بالأحرى بمشاكل اقتصادية واجتماعية تعيشها تلك المجتمعات دون تفصيل لهذه المشكلات. مع أنه من الواضح أن وجود أمثال هذه النصوص في الكتاب المقدس لأي أمة لا بد وأن يؤدي إلى نتائج كهذه، مما دفع برناردشو لاقتراح منع الشباب من قراءتها، ولسنا الآن بصدد دراسة التناقضات في سلوك الرهبنة وما ينسب إلى الكثير من أصحابها من مخالفات [انظر مقال مجلة النيوزويك –الطبعة العربية بتاريخ 20 أبريل 2004، ص56: 40% من رجال الدين في أمريكا يزورون مواقع إباحية على الإنترنت]، ولكن الاستشهاد بالمجتمعات المسيحية التي تقيم خارج العالم الغربي قد لا يكون أيضا في صالح صاحبي المقال فالتفاوت واضح حتى في هذا المثال، وأما الادعاء بإمكانية تذرع أحدهم بالشذوذ الجنسي لمجرد ورود قصة قوم لوط في القرآن الكريم، فهو أشبه بتصور إلحاد أحدهم لمجرد ورود مجادلة الدهريين في القرآن الكريم مع ما توعدهم به من عذاب!
5- الأمر ذاته ينسحب على استنكار تعرض ديدات لشرب الخمور في الغرب، مع إغفال كون شرب الخمر في الغرب من الطقوس الدينية المقدسة، مقارنة بالحديث: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" دفعاً لأي ذريعة. أما استشهاد الشيخ "المثالي" بواقع المسلمين اليوم دون ذكر للإحصاءات كما فعل في حديثه عن الغرب، فلا يحتاج إلى أكثر من التذكير بأن الخمور والمخدرات لم تنتشر في المجتمع المسلم إلا كنتيجة للانفتاح على الغرب، مع تفهم العلاقة بين الشرب والعبادة هناك، أو عدم حرمته على أقل تقدير.
6- استنكار موقف ديدات في الهجوم على معتقدات المسيحيين على اعتبار كون ذلك استفزازاً لمشاعرهم، وهو استنكار غير مفهوم إذا ما أدركنا طبيعة المناظرة التي تتعمد مناقشة المعتقدات من الجذور بحثاً عن الحقيقة، أما القول بحرص سواجارات على أن يكون ودوداً فيتناقض أولاً مع تصريحات سواجارت المعروفة ضد الإسلام ومقدساته والتي لم يجرؤ على البوح بها في حضرة خصمه القوي، ثم يتناقض ثانياً مع اعتراف الكاتبين في الهامش بإسقاطهما للرجل من النقاش لأنه "كان يتبع في المناظرة أسلوباً عاطفياً متهالكاً يذكرنا بهزالة المنطق التبشيري" (!)، وأغلب الظن أن هذا التهرب من مناقشة أسلوب الرجل ليس إلا لإفساح المجال لنقد خصمه ديدات!
7- الحمل على المجتمع الإسلامي برمته لاحتفائه بانتصار ديدات على خصمه، والذي يُنسب - في رأييهما- إلى سطحية الرأي العام الذي يفضل أطروحات أنور الجندي على أطروحات مالك بن نبي، وهي تهمة لا تقتصر - إن صحت - على المجتمع المذكور دون غيره، بل إن المجتمع الذي احتفى بسواجارت ودفعه إلى أعلى مراتب النجومية، وجعل دخله يرتفع إلى 140 ألف دولار سنوياً، أكثر عرضة لهذه التهمة، خصوصاً وأن الكاتبين قد نعتا -كما سبق - أسلوب الرجل بالعاطفي المتهالك! فلماذا يُنتقد المجتمع الإسلامي في سطحيته دون غيره؟ ثم هل يمكن القول بأن احتفاء بسطاء الناس بهذا النصر أو ذاك يُعد تهمة لعقيدتهم ذاتها؟ أم أن التهمة يجب أن توجه للمفكر الذي لا يُتقن صياغة أطروحاته في قالب يفهمه عامة الناس وخاصتهم؟
كانت هذه بعض الإشارات إلى ما تضمنه المقال المذكور، وهنا يحسن بنا ألا نغفل إصرار الكاتبين على نعت منهجهما بالموضوعي حتى الآن – تكررت كلمة الموضوعية في النصف الأول من المقال خمس مرات- بل إن عبد السلام الوائل يرى في تعقيبه الأخير على هذا المقال أن "مدخلهما العقلي" قد وقف حائلاً دون التمكن من فهم الأبعاد الرمزية الأخرى التي غفلا عنها أثناء حشد كل هذه الانتقادات! وهو أمر يستدعي التساؤل عن مدى مصداقية العميم الذي اعترف في تعقيبه أيضاً بمحاولته تناسي اسم "شيء اسمه ديدات" إزاء ارتياحه لمزاعم قاديانية ديدات،
استناداً إلى دعوى خروج القاديانية من رحم الجدل الديني بين المبشرين والدعاة المسلمين، وإغفالاً لرعاية بريطانيا المستمرة لهذا المذهب والسعي لنشره بشتى الوسائل كحامل للإسلام، وداعماً رأيه بأن الجدل لم يظهر إلا في الهند، مع إغفال "غير موضوعي" لاندماج المسلمين مع المسيحيين في الهند، فضلاً عن حرية الجدل بين الطوائف على عكس العالم العربي كمثال. أما تهافت الدعوى فيبلغ مداه عندما يذهب العميم إلى أن ديدات قد اكتفى بنفي التهمة دون التعرض للعقيدة القاديانية، وكأن عدم تعرضه لليهودية أو البوذية أيضاً يشي بشيء من التأييد(!)،
بل إن إنكار الشيخ انتماءه لهذا المذهب علناً لم يشفع له عند العميم كدليل على انسلاخه منه في حال وقوعه أصلاً، علماً بأن القاديانيين لا يلجؤون في العادة إلى مثل هذه التقية حتى في العالم العربي وفقاً لمعرفتي ببعضهم، فضلاً عن عدم ادعاء أي من القاديانيين أو منظماتهم الناشطة في الهند وأوربا بأن ديدات ذا الشهرة الواسعة ينتمي إلى مذهبهم، وهو مكسب دعائي كبير ما كانوا ليفرطوا به في حال وقوعه. وقد كان من الأجدر بأستاذنا العميم أن يحذو حذو زميله في الترحم على الشيخ الذي لم تشفع له فيما يبدو كل هذه الجهود في الدفاع عن دينه، بدلاً من الانتقام منه بعد موته بهذه الدعوى القائمة على الظن "اللاعقلاني"، ولغرض ذاتي أبعد ما يكون عن "الموضوعية".
|