في لحظة ما، أدركت قيادة الجيش السوري الحر (المنشق على الجيش الأسدي) أن عليها أن تؤسس قيادتها بحيث تضمن ـ في تصوري الشخصي ـ ألا يتغير هيكلها القيادي بانضمام من هم أعلى رتبة في الجيش من العقيد رياض الأسعد ورفاقه في آخر لحظة وتوليهم المهمة لأسباب تتعلق بالتراتبية النظامية..
كانت التفاتة ذكية من قيادة الجيش.. لا أدري لماذا استدعيتها عندما استمعت إلى رسالة العميد الركن مصطفى الشيخ المتلفزة يعلن فيها انشقاقه عن الجيش السوري الأسدي، حيث لاحظت أن الرجل لم يعلن انضمامه إلى الجيش السوري الحر، وردد أكثر من مرة مناداته بدولة "مدنية"؛ فتصارع في داخلي الشعور بالفرحة لانشقاقه عن نظام المجرم بشار، والشعور بالقلق لاسيما أنني لم ألحظ حتى الآن أية إشارات في صفحة الجيش السوري الحر على الفيس بوك، ولا المواقع القريبة منه تدل على ترحيبها بالرجل وبخطوته غير المسبوقة كصاحب أعلى رتبة تعلن انشقاقها عن الجيش الأسدي وخلعها ربقة الولاء له، بل العكس هو الحاصل؛ فلقد أصدر الجيش السوري الحر بعد ثلاثة أيام من انشقاق العميد ويوم واحد من إعلانه عن تشكيل ما يُسمى بالمجلس العسكري السوري الأعلى، الذي يبدو موازياً للجيش السوري الحر، بياناً جاء فيه "أن قائد الجيش السوري الحر يؤكد على بنية الجيش النتظيمية المعروفة سابقاً، وأنه لايوجد أي تشكيل أو هيئة جديدة تحت أي مسمى كما يؤكد على رفضه لأي تشكيل أو هيئة جديدة إلا ببيان رسمي صادر عن قائد الجيش السوري الحر العقيد رياض موسى الأسعد".
أكتب هذه الكلمات، ولم تزل حتى هذه الساعة ضبابية مشهد الحالة العسكرية الليبية وتغييراتها الغامضة قبيل وبعد الثورة، وفك طلاسم التغييرات العسكرية التي تمت في بنية الجيش الليبي الوليد عصية على الفهم، والغموض سيد..
والواقع أن المنظومة العسكرية التي تعقب الثورات أو الانقلابات هي أهم المفاصل التي تسرع إليها يد التخريب الغربية، وهي هدف كل منظر لأي سياسة تخطط لاستمرار أو استرجاع الولاء الذي تدين به القيادات العسكرية في كثير من الدول العربية والإسلامية وتخضع بموجبه لدوائر التوجيه وصنع القرار في الدول الغربية.
ومن يتابع منظومة الإعلام العربي الموالي للولايات المتحدة، وأشير هنا إلى مجموعة محددة من الصحف والقنوات المرتبطة بشكل وثيق مع الولايات المتحدة، وأشارت إلى بعضها حزمة من وثائق ويكيليكس عن الدعم المالي الموجه إليها، أو تلك المرتبطة بأنظمة تابعة لواشنطن في المنطقة، سيلحظ احتفاءً واضحاً بالعميد المنشق، ومحاولة إدارة عدسات الكاميرات إليه لاعتباره "الأعلى رتبة" دون النظر إلى وجود جيش "حر" قائم بالفعل تكون منذ شهور حينما كان الانشقاق عن الجيش الأسدي يعني التعرض للإعدام ـ كما البطل المغوار حسين هرموش ـ والتنكيل بأسرة المنشق، وحيث كان الانشقاق غضاً بالآحاد والعشرات، ولم يكن كما هو الآن بالآلاف منتظمين في كتائب تزخر بها أرض الشام، يبدي تحدياً لافتاً ـ كما في الزبداني ـ ويكبح جماح الجيش الأسدي ويرده على عقبيه، ويضع جملة من الأهداف الاستراتيجية بين يديه وفي مرامي نيرانه.
ودون النظر إلى نوايا الرجل؛ فالأمر مريب لاسيما أن مباشرة العمل العسكري القيادي على هذا النحو يثير تساؤلاً، لا يقل عنه التساؤلات حول التحديات الأخرى التي تعترض طريق الجيش السوري الحر في وقت يبدو أنه يستعد لشن حملته على النظام الأسدي، وتحول تكتيكه العسكري من الدفاع إلى الهجوم، ومنها هذا الكم الهائل المتوقع من المنشقين الذين بدؤوا بالتدفق، والحاجة إلى إعادة تنظيمهم، وتوقع انضمام العديد من كبار الضباط وأصحاب الرتب الأعلى من رتبة العقيد الأسعد، ومنها طريقة معالجة العلاقة مع المجلس الوطني، الجهة التمثيلية السياسية الأرفع للثورة السورية في الخارج، والأهم من ذلك، كيفية إدارة العلاقات السورية الثورية مع كل من تركيا والاتحاد الأوروبي ـ خصوصاً فرنساـ والولايات المتحدة الأمريكية، وحتى إيران و"حزب الله"، وأخيراً الدول العربية المؤثرة في المعادلة.
ولقد حاولت كثير من الأوساط السياسية تجنب الحديث عن عمليات الجيش السوري الحر، سواء بنية حسنة كالرغبة في عدم عسكرة الثورة السورية أو الإيحاء بذلك، أو بسوء نية كمنع مزيد من الانشقاقات وتقليل تأثير عمليات الجيش السوري الحر، لكن الجيش قد فرض نفسه بجدارة على المعادلة المحلية والإقليمية، وبات من الراجح أن يلعب دوراً محورياً في السياسة السورية القادمة، ويفرض نفسه كرقم لا يمكن محوه أو تجاوزه بسهولة، وبالتالي أضحى من المتحتم على قيادته التفطن إلى حجم التحديات والتغييرات الطارئة على طبيعة عملها، خصوصاً في لحظة الحسم، تلك اللحظة التي لا يمكن للجيش الحر أن يحسمها وحده في ظل تحول حربه إلى حرب إقليمية يشارك فيها الحرس الثوري الإيراني و"جيش القدس" و"جيش المهدي" (مقتدى الصدر) و"حزب الله"، بما يفوق قدرته على الحسم وحده، اللهم إلا إذا انهار الجيش الأسدي فجأة، وبسرعة تتجاوز قدرات المخططين العسكريين على التكهن والتخطيط