رابعا : عبوديته - صلى الله عليه وسلم - شرف وفضيلة: فقد ثبت في الصحيحين: عن عمر -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله . يقول الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمه الله- على هذا الحديث في شرح التوحيد صفحة: 272 قوله: إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله . أي لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى فادعوا فيه الربوبية، وإنما أنا عبد الله فصفوني بذلك كما وصفني به ربي، وقولوا: عبد الله ورسوله. فأبى عباد القبور إلا مخالفة لأمره وارتكابا لنهيه، وناقضوه أعظم المناقضة، وظنوا أنهم إذا وصفوه بأنه عبد الله ورسوله، وأنه لا يدعى ولا يستعان به، ولا ينذر له، ولا يطاف بحجرته، وأنه ليس له من الأمر شيء، ولا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، أن في ذلك هضما لجنابه، وغضا من قدره، فرفعوه فوق منزلته، وادعوا فيه ما ادعت النصارى في عيسى أو قريبا منه، فسألوه مغفرة الذنوب وتفريج الكروب. وقد ذكر شيخ الإسلام في كتاب: الاستغاثة عن بعض أهل زمانه، أنه جوز الاستغاثة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يستغاث فيه بالله، وصنف فيه مصنفا ، وكان يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله. وحكى عن آخر من جنسه يباشر التدريس، وينسب إلى الفتيا أنه كان يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر الله عليه، وأن هذا السر انتقل بعده إلى الحسن ثم انتقل إلى ذرية الحسن إلى أبي الحسن الشاذلي . وقالوا: هذا مقام القطب الغوث الفرد الجامع، ومن هؤلاء من يقول في قول الله تعالى: وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يسبح بكرة وأصيلا. ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله. فيجعلون الرسول معبودا. قلت: قال البوصيري:
فجعل الدنيا والآخرة من جوده، وجزم بأنه يعلم ما في اللوح المحفوظ، وهذا هو الذي حكاه شيخ الإسلام عن ذلك المدرس، وكل ذلك كفر صريح. ومن العجب أن الشيطان أظهر لهم ذلك في صورة محبته -عليه السلام- وتعظيمه ومتابعته، وهذا شأن اللعين، إذ لا بد وأن يمزج الحق بالباطل ليروج على أشباه الأنعام أتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق؛ لأن هذا ليس بتعظيم، فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح، وهم أبعد الناس منه، فإن التعظيم بالقلب: ما يتبع اعتقاد كونه عبدا رسولا، من تقديم محبته على النفس والوالد والولد والناس أجمعين، ويصدق هذه المحبة أمران: أحدهما: تجريد التوحيد، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان أحرص الخلق على تجريده، حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت. قال
رواه أحمد . ونهى أن يحلف بغير الله، وأخبر أن ذلك شرك، ونهى أن يصلى إلى القبر أو يتخذ مسجدا أو عيدا، أو يوقد عليه سراج، بل مدار دينه على هذا الأصل الذي هو قطب رحى النجاة، ولم يقرر أحد ما قرره - صلى الله عليه وسلم - بقوله وفعله وسد الذرائع المنافية له، فتعظيمه -صلى الله عليه وسلم- بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه. الثاني: تجريد متابعته وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من أصول الدين وفروعه، والرضا بحكمه والانقياد له، والتسليم والإعراض عما خالفه، وعدم الالتفات إلى ما خالفه، حتى يكون وحده هو الحاكم المتبع المقبول قوله، المردود ما خالفه كما كان ربه تعالى وحده هو المعبود المألوه المخلوق المستغاث به، المتوكل عليه الذي إليه الرغبة والرهبة، الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد ومغفرة الذنوب، الذي من جوده الدنيا والآخرة، الذي خلق الخلق وحده، ورزقهم وحده، ويبعثهم وحده، ويغفر ويرحم ويهدي ويضل، ويسعد ويشقي وحده، وليس لغيره من الأمر شيء كائنا من كان، لا النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا جبريل -عليه السلام- ولا غيرهما، فهذا هو التعظيم الحق المطابق لحال المعظم، النافع للمعظم في معاشه ومعاده، والذي هو لازم إيمانه وملزومه. وأما التعظيم باللسان فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به عليه ربه، وأثنى على نفسه من غير غلو ولا تقصير، كما فعل عباد القبور، فإنهم غلوا في مدحه إلى الغاية. وأما التعظيم بالجوارح فهو العمل بطاعته، والسعي في إظهار دينه، ونصر ما جاء به، وجهاد من خالفه. وبالجملة: فالتعظيم النافع هو التصديق له فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، والموالاة والمعاداة والحب والبغض لأجله، وتحكيمه وحده، والرضا بحكمه، وأن لا يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقواله، فما وافقها من قوله -صلى الله عليه وسلم- قبله، وما خالفها رده أو تأوله أو أعرض عنه، والله -سبحانه- يشهد -وكفى به شهيدا- وملائكته ورسله وأولياؤه أن عباد القبور خصوم الموحدين ليسوا كذلك، والله المستعان. هذا كلام الشيخ -رحمه الله- وقد حكى ما شاهده في زمانه وقبله من أقوام جهلة بالتوحيد، ادعوا محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- فبالغوا في مدحه حتى وصفوه بما لا يستحقه إلا الله تعالى، من الملك والعلم والتصرف، وحتى صرفوا له خالص حق الله -عز وجل- من الدعاء والرجاء وتفويض الأمور إليه، والاعتماد عليه، وقد ذكر -رحمه الله- في شرح التوحيد صفحة: 186 وما بعدها بعض ما قال أهل الغلو والإطراء في حقه -صلى الله عليه وسلم- وأورد أبياتا من قصيدة البردة للبوصيري، كقوله:
وما بعده من الأبيات، ثم بين ما فيها من الشرك الصريح، وذكر أيضا بعضا من شعر البرعي الذي بالغ فيه وغلا، ووقع في عبادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - صريحا، ونسى ربه -عز وجل- وهكذا ذكر النعمي في (معارج الألباب) صفحة: 169 وما بعدها بعض أقوال الغلاة ومبالغتهم في التعلق بالأموات، ومن ذلك أبيات شعر تتضمن الشرك الواضح بالنبي - صلى الله عليه وسلم- وأولها قوله:
إلى آخر تلك الأبيات الشركية، وعلق عليها -رحمه الله- بقوله: فلا ندري أي معنى اختص به الخالق بعد هذه المنزلة من كيفية مطلب، أو تحصيل مأرب؟!. وماذا أبقى هذا المشرك الخبيث من الأمر؟! فإن المشركين أهل الأوثان ما يؤهلون كل ما عبدوه من دون الله لشيء من هذا، ولا لما هو أقل منه. اهـ. ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخاف على أمته من هذا الغلو، ويحذرهم من أسبابه، فقد روى أبو داود بسند جيد: عن عبد الله بن الشخير -رضي الله عنه- قال:
. وعن أنس -رضي الله عنه-
رواه النسائي بسند جيد . وهذا كثير في السنة كقوله -صلى الله عليه وسلم- إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله رواه الطبراني . وتقدم أنه -صلى الله عليه وسلم-
. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- هو سيد الخلق وأفضلهم وخيرهم، لكنه يكره المدح سيما أمام الممدوح ، حتى قال:
رواه مسلم وما ذاك إلا أن المدح قد يوقع الممدوح في الإعجاب والكبرياء، التي تحبط الأعمال أو تنافي كمال التوحيد. وقد افتخر -عليه الصلاة والسلام- بالعبودية لربه، وهي الذل والتواضع له، وذلك شرف وفضيلة، ولذلك ذكره الله باسم العبد في قوله تعالى :
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا . وفي قوله:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ . وقولـه تعالى:
الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ . وقوله
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ . فإن العبوديه لله تعالى، تقتضي غاية الذل وغاية المحبة، فالتذلل لله تعالى يستدعي الخضوع والخشية والاستكانة لله تعالى، وأن يرى نفسه حقيرا ذميما مقصرا في واجبه، فيرجع إلى نفسه بالمعاتبة، ويعترف لربه بالفضل والإنعام، وكذلك الحب يستدعي محبة ما يحبه الله وكراهة ما يكرهه من الأقوال والأفعال والإرادات، فظهر بذلك كمال صفة العبودية لرب الأرباب.