حين يقرأ المرء أن الحكومة السورية شكلت لجنة لإعداد قانون جديد للانتخابات «يحاكي أفضل قوانين العالم» (الحياة اللندنية 12/5) فإنه لا يعرف بالضبط ما إذا كان عليه أن يضحك أم يبكي.
ذلك أننا بهذا الإعلان نصبح أمام وضع غاية في الغرابة. فسوريا منذ أربعين عاما على الأقل لم تعرف أي انتخابات عامة حرة. وبعد تلك المدة الطويلة نفاجأ بأن حكومتها بصدد إعداد قانون جديد من أفضل ما عرفته الكرة الأرضية. علما بأننا لا نعرف بالضبط مدلول العبارة، لأن الانتخابات إما أن تكون حرة أو مزورة ومغشوشة. وليست هناك انتخابات حرة فقط وأخرى حرة جدا وثالثة حرة جدا جدا.
والذي يحدِّث الناس عن انتخابات من الدرجة الممتازة يستغفلهم ويستخف بعقولهم. وهذا الاستخفاف يبلغ درجة العبث حين يطلق الوعد بعد تغييب للانتخابات والديمقراطية طوال أربعين عاما. لأنه لا يريد أن يقنعنا بأن النظام يريد أن ينتقل من زيرو ديمقراطية إلى أعلى درجات الخبرة البشرية في الممارسة الديمقراطية. في الوقت الذي يواصل فيه قتل المتظاهرين وحصار المدن كل يوم.
هذه المزايدة على التحول الديمقراطي تعني أن النظام السوري يحاول من خلال اللغة تحسين الصورة في الخارج، واستخدام أفعال التفضيل لدغدغة مشاعر الناس وامتصاص غضبهم في الداخل. وتعني أيضا أنه لا شيء سيتغير على الأرض، حيث ستظل الأوضاع كما هي. وليس ذلك من قبيل التخمين وإساءة الظن، لأن تعامل النظام السوري مع الاحتجاجات الداخلية التي تجاوزت أسبوعها الثامن لا تدع لنا فرصة لإحسان الظن بسياسته،
ليس ذلك فحسب، وإنما قدم لنا النظام الدليل الذي يقطع بإصراره على إبقاء الأوضاع التي سادت طوال الأربعين سنة الأخيرة دون تعديل يذكر. ذلك أنه حين تصاعدت الحركة الاحتجاجية فإن السلطة أعلنت عن اعتزامها إجراء عدة إصلاحات كان في مقدمتها إلغاء قانون الطوارئ المطبق منذ أربعين عاما. ورغم أن الإلغاء يتم بمجرد صدور قرار ولا يحتاج إلى وقت طويل، إلا أنه بعد مضي نحو عشرة أيام على الإعلان زفت الحكومة إلى الجماهير الخبر، وألغي القانون بالفعل.
ولم يتح لأحد أن يلتقط أنفاسه أو يحسن الظن بالخطوة التي تمت، لأنه في ذات يوم الإلغاء كانت الرصاصات تحصد أرواح السوريين المحتجين وكانت الدبابات والمدرعات تحاصر بعض المدن وتداهم مدنا أخرى. الأمر الذي يعني أن التعامل مع الطوارئ كان لغويا بدوره. فالقانون شطب حقا ولكن حالة الطوارئ ظلت مستمرة، وعقلية الطوارئ بقيت حاكمة، لذلك فلا غرابة في أن يتم التعامل مع الانتخابات بنفس الأسلوب. بحيث تظل التصريحات الرسمية في واد، في حين أن الواقع في واد آخر مختلف ومعاكس تماما.
أما ما يثير الدهشة حقا فهو تصور المسئولين في دمشق أن مثل تلك الوعود التي تلوح بالرغبة في الإصلاح يمكن أن تنطلى على الناس، رغم أنه لم يتح لهم أن يلمسوا على أرض الواقع ما يمكن أن يؤيد صدقيتها. صحيح أن السوريين تفاءلوا خيرا حين لوح الرئيس بشار الأسد بوعود الإصلاح منذ تولى المسئولية قبل أحد عشر عاما،
وصحيح أيضا أن البلد شهد تطورا نسبيا في الأوضاع الاقتصادية وقطاع الاتصالات والمعاملة في السجون. لكن دائرة الإصلاح السياسي ظلت مغلقة، أعني بذلك ما يتعلق بالحريات العامة وحق الناس في المشاركة في السلطة ومساءلة القائمين عليها. وحين يغلق ذلك الباب فإنه لا يعني فقط موت السياسة، لكنه يعني أيضا ــ وخبرتنا في مصر شاهدة ــ إطلاق يد أجهزة الأمن في إدارة البلد وقمع الناس. وذلك ما حدث في تعامل السلطة مع الاحتجاجات التي انطلقت من درعا قبل شهرين تقريبا.
إذ منذ لاحت بوادرها في الأفق ثم تناثرت شراراتها في بقية المحافظات، فإن وعود الإصلاح كانت تدبج وتطلق في الفضاء من دمشق. في حين كانت عمليات السحق والقمع الأمنيين تتواصل بشكل حثيث على الأرض في طول البلاد وعرضها.
أدري أن للنظام السوري خبرة عريضة في القضاء على الاحتجاجات وسحق أصحابها، مارسها في حماة عام 1982، لكنني أستغرب أن يتبع النظام ذات الأسلوب القمعي بعد نحو ثلاثين عاما. متجاهلا أن كل شيء تغير في داخل سوريا وفي العالم الخارجي.
ولا أخفي دهشة من أن تتصرف السلطة بذكاء مشهود في سياستها الخارجية، وبعقلية معاكسة تماما في السياسة الداخلية. بما يعني أنها معنية بشكل النظام بأكثر من عنايتها بشعبيته.
وحين يحدث ذلك في مرحلة من التاريخ العربي ارتفع فيها صوت الشعوب مدويا، فذلك يعني أن النظام السوري صار يعاند التاريخ بمثل ما عاند شعبه، الأمر الذي يجعله منتهى الصلاحية من الناحية السياسية، ومن ثم فاقدا للشرعية. وتداعيات هذا المصير لن تكون مقصورة على سوريا، وإنما ستكون لها أصداؤها القوية في الدول المحيطة بها، ولبنان أولها.
...................