ما معنى قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ[البقرة:284]؟ وكيف نجمع بين معناها وبين الحديث الشريف الذي معناه: (أن الله تعالى تجاوز عن أمة محمد ما حدثت به أنفسها ما لم تفعله أو تتكلم به)؟
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فهذه الآية قد أشكلت على كثير من الصحابة -رضي الله عنهم- لما نزلت، وهي قوله -تعالى-: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[البقرة: 284]، شق عليهم هذا الأمر وجاءوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذكروا أن هذا شيء لا يطيقونه، فقال لهم -صلى الله عليه وسلم-: (أتريدون أن تقولوا كما قال من قبلكم سمعنا وعصينا، قولوا سمعنا وأطعنا، فقالوا: سمعنا وأطعنا فلما قالوها وذلت بها ألسنتهم أنزل الله بعدها قوله -سبحانه- آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا......الآية[البقرة: 286]، فسامحهم الله وعفا -سبحانه وتعالى-، ونسخ ما دل عليه مضمون هذه الآية، وأنهم لا يؤاخذون إلا بما عملوا وبما أصروا عليه وثبتوا عليه، وأما ما يخطر من الخطرات في النفوس والقلوب فهذا معفو عنه، ولهذا صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم)، فزال هذه الأمر والحمد لله، وصار المؤمن غير مؤاخذ إلا بما عمله أو قاله أو بما أصر عليه بقلبه، عملاً بقلبه، كإصراره على ما يقع عليه من الكبر والنفاق ونحو ذلك، أما الخواطر التي تعرض، والشكوك التي تعرض ثم تزول بالإيمان واليقين هذه لا تضر، بل هي عارضة من الشيطان ولا تضر، ولهذا لما قال الصحابة يا رسول الله إن أحدنا يجد في قلبه ما لا أن يخر من السماء أسهل عليه من أن ينطق به أو كما قالوا، قال: (ذاك صريح الإيمان) وفي لفظ: (تلك الوسوسة) فهي من الشيطان، إذا رأى من المؤمن الصدق والإخلاص وصحة الإيمان والرضى بما عند الله وسوس عليه بعض الشيء، وألقى في قلبه خواطر خبيثة، فإذا جاهدها وحاربها بالإيمان والتعوذ بالله من الشيطان سلم من شرها، ولهذا جاء في الحديث الآخر يقول -عليه الصلاة والسلام-: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خلق كل شيء فمن خلق الله، فمن وجد ذلك فليقل آمنت بالله ورسله)، وفي لفظ: (فليستعذ بالله ولينته) هذا يدلنا على أن الإنسان عرضه للوساوس الشيطانية، فإذا عرض عليه وساوس خبيثة وخطرات منكرة فليبتعد عنها، وليقل: آمنت بالله ورسله، وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولينته، ولا يلتفت إليها فإنها باطلة ولا تضره، وهي الخطرات التي عفى الله عنها -سبحانه وتعالى-.