المبيت بمزدلفة إلى ما بعد منتصف الليل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الوقوف بمزدلفة من مشاعر الحج المتفق عليها بين أهل العلم، وقد تكلم العلماء في حد مزدلفة، وما يدخل فيها وما لا يدخل، فذكروا أن حدَّ المزدلفة ما بين وادي محسر ومأزمي عرفة، وليس الحدَّان منها، ويدخل في المزدلفة الشعاب والجبال الداخلة في الحد المذكور.
ولها ثلاثة أسماء: مزدلفة، جَمْع، المشعر الحرام(
).
والصحيح أن المشعر الحرام أخص من مزدلفة، وأنه جزء من مزدلفة قال الإمام النووي: "المشعر الحرام المذكور في القرآن الذي يؤمر بالوقوف عليه هو قزح جبل معروف بالمزدلفة هذا مذهبنا، وقال جمهور المفسرين، وأصحاب الحديث والسير: المشعر الحرام جميع المزدلفة"(
).
حكم المبيت بمزدلفة:
المعلوم أن المجيء إلى مزدلفة يكون بعد إفاضة الحجاج من عرفات بعد غروب الشمس، فيصلون المغرب والعشاء في مزدلفة جمع تأخير، ويذكرون الله ويدعونه كما قال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}(البقرة:من الآية198).
ومعلوم أيضاً عند أصحاب المذاهب أن من ترك الوقوف بمزدلفة بالكلية لزمه دم، ولكن هل يجب المبيت في مزدلفة، أم يكفي الوقوف بها؟ وهل يجزئ المرور بها دون مبيت ولا وقوف؟
للفقهاء في ذلك عدة أقوال نوجزها في الآتي:
الأول: قول الحنابلة أن المبيت بمزدلفة واجب من تركه فعليه دم، وهذا قول عطاء والزهري، وقتادة والثوري، وإسحاق وأبي ثور، وهو أصح القولين عند الشافعية(
).
وقالوا: إن هذا المبيت يتحقق بالحضور بمزدلفة في ساعة من النصف الثاني من الليل - ليلة النحر -، ومن خرج من مزدلفة قبل منتصف الليل ولو بوقت يسير ولم يعد إلى مزدلفة فقد ترك المبيت، ولزمه دم، ولكن إذا عاد إلى مزدلفة قبل طلوع الفجر أجزأه ذلك، ولا شيء عليه.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بمزدلفة وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لتأخذوا عني مناسككم)) رواه مسلم (1297)، واستدلوا بحديث أسماء: ((أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة، فقامت تصلي، فصلت ساعة، ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: لا، فصلت ساعة، ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: نعم، قالت: فارتحلوا، فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت: لها يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا، قالت: يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن)) رواه البخاري (1595)، ومسلم (1291)، وهذا يعني أن المبيت واجب.
الثاني: قول الحنفية: المبيت بمزدلفة ليس بواجب وإنما هو سنة، والواجب هو الوقوف فيها فيما بين طلوع الفجر من يوم النحر وطلوع الشمس، فمن حضر بمزدلفة في ذلك الوقت فقد أدرك الوقوف فيها سواء بات فيها أو لم يبت، وسواء وقف فيها أو لم يقف، وإنما مرَّ مروراً بها؛ وذلك لأن ركن الوقوف وحقيقة كينونته بمزدلفة، وإن قل مكثه فيها، فإذا لم يحصل له شيء من هذا الحضور فيها في هذا الوقت فقد فاته الوقوف بمزدلفة()، واستدلوا بحديث عروة بن مضرس أنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله إني جئت من جبل طيء أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع؛ وقد وقف بعرفة قبل ليلاً أو نهاراً فقد أتم حجه، وقضى تفثه))(
).
الثالث: قول المالكية: أن الواجب هو نزول الحاج بمزدلفة، ومكثه فيها بقدر ما يكفي من الوقت لحط رحاله، وأدائه صلاة العشائين: المغرب والعشاء، وتناوله شيئاً من طعام وشراب، فإن لم ينزل ويمكث هذا القدر من الوقت فعليه دم، وإن نزل ومكث القدر المذكور فلا دم عليه في أي وقت خرج من مزدلفة، وأما المبيت فيها فقد قالوا: هو مندوب(
).
وقد سئل الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله: "ما حكم الوقوف بمزدلفة، والمبيت فيها، وما قدره ومتى يبدأ الحاج الانصراف منها؟
فأجاب: المبيت بمزدلفة واجب على الصحيح، وقال بعضهم: إنه ركن، وقال بعضهم: مستحب، والصواب من أقوال أهل العلم أنه واجب من تركه فعليه دم، والسنة أن لا ينصرف منها إلا بعد صلاة الفجر، وبعد الإسفار يصلي فيها الفجر، فإذا أسفر توجه إلى منى ملبياً، والسنة أن يذكر الله بعد الصلاة، ويدعو، فإذا أسفر توجه إلى منى ملبياً.
ويجوز للضعفة من النساء والرجال والشيوخ الانصراف من مزدلفة في النصف الأخير من الليل رخَّص لهم النبي عليه الصلاة والسلام، أما الأقوياء فالسنة لهم أن يبقوا حتى يصلوا الفجر، وحتى يذكروا الله كثيراً بعد الصلاة، ثم ينصرفوا قبل أن تطلع الشمس، ويسن رفع اليدين مع الدعاء في مزدلفة مستقبلاً القبلة كما فعل في عرفة، ومزدلفة كلها موقف"(
).
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ما الدليل على وجوب المبيت بمزدلفة؟
فأجاب رحمه الله بقوله: "الدليل على وجوبه قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}(البقرة: من الآية 198)، والأصل في الأمر الوجوب حتى يقوم دليل على صرفه عن الوجوب، ولحديث عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله إني جئت من جبل طيء أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع؛ وقد وقف بعرفة قبل ليلاً أو نهاراً فقد أتم حجه، وقضى تفثه))(
).
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص للضعفة أن يدفعوا من مزدلفة في آخر الليل، والترخيص يدل على أن الأصل العزيمة والوجوب، بل إن بعض أهل العلم ذهب إلى أن الوقوف بمزدلفة ركن من أركان الحج، ... ولكن القول الوسط من أقوال أهل العلم أن المبيت بها واجب وليس بركن، ولا سنة"(
). انتهى.
وإذا تبين هذا فليحرص الحاج في تلك الليلة أن ينام مبكراً; ليكون نشيطاً لأداء مناسك الحج يوم النحر، فإذا تبين الفجر الثاني صلى الفجر مبكراً، ثم يقف عند المشعر الحرام، ويستقبل القبلة، ويدعو الله, ويكبره, ويهلله, ويوحده، ويكثر من الدعاء ويرفع يديه, ويستحب له أن يستمر على ذلك حتى يسفر جداً، ويدل على هذا حديث جابر رضي الله عنه في وصفه لحجة النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاء فيه: ((... حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعاه وكبره، وهلله ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس)) رواه مسلم (1218).
وحيثما وقف من مزدلفة أجزأه ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: ((وقفت ههنا، وجمع كلها موقف)) رواه مسلم (1218)، وجمع هي مزدلفة.
نسأل الله تعالى أن يتقبل من حجاج بيت الله الحرام حجهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
انظر بدائع الصنائع (2/136، وما بعدها.
انظر حاشية الصاوي على الشرح الصغير (3/423).
مجموع فتاوى ابن باز (17/277-278).
مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (23/51).