الحمد لله، الحمد لله الذي حث على الحج إلى بيته الحرام، أحمده سبحانه وأشكره على الدوام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك القدوس السلام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، خير من صلى وحج وصام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما صام صائم وحج حاج ولله قام.
أمّا بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: }يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ{[آل عمران:102].
شرع الله العباداتِ لحِكَمٍ عظيمة ومصالحَ عديدة، أجلُّها تحقيقُ عبودية الله سبحانه والخضوع له فيما أمر ونهى، ومنها تزكيةُ النفس وترويضها على الفضائل.
الحجُّ في حياةِ المسلمين مدرسةٌ عظيمةُ العطاء واسعةُ الأثر بليغةُ العبرة، موسمٌ تسمو فيه الأرواح وتشرِق النفوس. الحجّ ملتقًى كبيرٌ يفِد إليه الحجّاجُ من أنحاء المعمورة إلى الأرض المقدّسة، ألوانٌ مختلفة وأجناسٌ متعدِّدة وألسُنٌ متباينة، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((انظروا إلى عبادي، أتَوني شُعثًا غُبرًا)) أخرجه أحمد.
يحكي القرآنُ دعاءَ إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: }رَبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلوٰةَ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مّنَ ٱلثَّمَرٰتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ{[إبراهيم:37]. ويستجيبُ الله دعاءَ خليله، وتمضي الأفئدةُ تهوي إلى هذا المكان لتعمِّره، مُلبِّين مكبّرين خاضعين متذلِّلين، جموعٌ لا تُعَدُّ ولا تُحصى، تطوف وتَسعى، ويستمرّ الطوافُ لا ينقطع مهما بلغ حرُّ النهار أو بردُ الليل، ويبقى البيت العتيقُ مفتوحًا ليلاً ونهارًا.
في الحجّ يشهَد الحاجّ مهبطَ الوحي، ويترسّم خطواتِ النبي صلى الله عليه وسلم ، يستروح الذكرياتِ والمعاني، ويرى التأريخ أمامه على أرضِ التاريخ، كلُّ حبَّةِ رملٍ في هذه البقاع تحمل تأريخًا مشرقًا وتنطق بحضارةٍ أضحى عطاؤها للبشرية متحقِّقا.
على المسلم التوبةُ النصوح وتجديدها عند الدخول في هذه المناسك، يعاهِد ربَّه على عبادته، يطيعه ولا يعصيه، يؤدّي الصلوات، يترك السيّئات، يبتعِد عن المحرّمات، فالحجّ ملاذ كلِّ المسلمين، العابدون يزدادون قربًا من مولاهم، والعصاةُ يستروِحون عَبَق الرحمات، في هذه الأجواءِ الإيمانية الآمنة يُقرّون بذنوبهم، يلتمسون عفوَه ومغفرته ورحمتَه ورضوانه، قال الله تعالى: }لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ{[الحج:37].
وفي سياقِ آيات الحجِّ يقول تعالى: }وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ{[البقرة:196]، العملُ كلُّ العمل في هذه الدنيا يُراد به وجهُ الله، فمن شروط قَبول الأعمال تحقيقُ الإخلاص لله، أي: أن تقصد ـ أيّها الحاج ـ بعملك وجهَ الله، لا رياءَ ولا سمعة ولا مباهاة، أن تبتغيَ برحلتك المباركة وجهَ الله للفوز بنعيم الجنّة. إن كلَّ حركةٍ ومشهَدٍ ونفقةٍ تؤدِّيها في رحلة الحجّ تقرّبك إلى الله وتزيد في حسناتك، قال صلى الله عليه وسلم: ((الحُجَّاج والعُمّار وفدُ الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفرَ لهم)) أخرجه ابن ماجه. ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربَّه الإخلاصَ قائلاً كما في حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا: ((اللهم حجّة لا رياءَ فيها ولا سُمعة))أخرجه ابن ماجه.
كم للنية الخالصةِ في الحجّ من أثرٍ عظيم في زكاةِ النفس وفلاحها، تأمّل هذا الفضل العظيم في قوله صلى الله عليه وسلم: ((الحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
ومن صفاتِ هذا الحجّ أن يكونَ خالصًا لله، والإخلاصُ ليس بالأمر الهيّن، قال أحدُ السلف: "تخليص النيات على العُمّال أشدُّ عليهم من جميعِ الأعمال"، وقيل لأحدهم: أيّ شيء أشدّ على النفس؟ قال: "الإخلاص، إذ ليس لها فيه نصيب"، وقال بعضهم: "إخلاصُ ساعة نجاةُ الأبد".
فالإخلاصُ عزيز، ولا يتخلّص الإنسانُ من الشيطان إلا بإخلاص، كما في قوله تعالى حكايةً عن إبليس: }قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ{[ص:82، 83].
وفي سياق آيات الحجّ يقول الله تعالى: }وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ{[البقرة:197]. خير ما يتزوّد به الحاجّ في الحجّ التقوى.
التقوى غايةُ الأمر وجِماع الخير، هي فعلُ الطاعات واجتناب المحرّمات، وليس السّفر من الدنيا بأهونَ من السفر في الدنيا، وهذا لا بدّ له من زادٍ فكذا، وإذا كان زادُ الدنيا يخلِّصُ من عذاب منقطعٍ موهوم فإنّ زادَ الآخرة يقي من عذابٍ أبديّ معلوم.
}وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ{تنبيهٌ للحاجّ لاستصحابِ التقوى في قلبه في كلّ خطوةٍ يخطوها، بل ويضاعِف تقواه في السرّ والعلَن، في الحِلّ والحرم، في نفسه ومع غيره، ومن التقوى كفُّ الأذى عن الناس بالقول أو الفعل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده))أخرجه البخاري.
قال تعالى: }ذٰلِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـٰئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ{[الحج:32]. تعظيمُ أعمال الحجّ ومناسك الحجّ من تقوى القلوب، يكون ذلك بإجلالها بالقلبِ ومحبّتها وتكميل العبودية فيها، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزال هذه الأمّة بخيرٍ ما عَظَّموا هذه الحرمةَ حقَّ تعظيمهاـ يعني الكعبة ـ، فإذا ضيّعوا ذلك هلكوا))أخرجه ابن ماجه.
وفي سياق آيات الحجّ يقول تعالى: }وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً{[الحج:27]. إنّ هذا النداءَ يُبرِز عالميّة الإسلام، فهو يدعو الأنام كلَّهم إلى الإسلام ليحرِّرهم من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضِيق الدنيا إلى سَعَة الآخرة، قال تعالى: }وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ{[الأنبياء:107].
الإسلامُ دينٌ عالمي، فقد جمع بين أبي بكر العربيّ وصهيبٍ الروميّ وبلال الحبشيّ وسلمان الفارسيّ وغيرهم من شتّى القبائل والبلدان، وقال صلى الله عليه وسلم: ((وكونوا عبادَ الله إخوانًا)) متفق عليه.
إن الناظرَ إلى شعائر الحجّ يجدها تدعو إلى محوِ فوارق اللون واللغةِ والجنس، تجلّى ذلك واضحًا في خطبة يوم عرفة بإعلان مبادئ وحقوقِ الإنسان. دينٌ عالميّ؛ لأنه من عند الله وفيه من الكمال والشمول ما لم يوجد في غيره.
حجّاجَ بيت الله، تصطفّ هذه الجموع المباركةُ في هذه البقاع الطاهرة من آفاق الدنيا كلِّها قائلةً: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، تجمعهم أخوّةٌ إيمانية صادقة ووحدة صافيةٌ ومساواة عادِلة، ذابت بينهم الفوارق العِرقية وتبدّدت كلُّ مظاهر الاعتزاز بالجنس أو اللون.
أما معيارُ المفاضلةِ والتكريم فقد قال سبحانه: }إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ{[الحجرات:13]. فالتقوى هي النسَب، وهي التي ترفع صاحبَها وتُعلي قدرَه، لا فضلَ لعربي على عجميّ ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، وقال سيّد البشر صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبيّة، وليس منا من مات على عصبيّةٍ)) أخرجه أبو داود.
وفي سياق آيات الحجّ يقول تعالى: }لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ{[الحج:28]. في الحجّ منافعُ دينيّة ودنيوية، فهو أعظم فرصةٍ لحلّ مشكلات المسلمين وجمع كلمتهم ولَمِّ شملهم وإحياء مبدأ التراحم والتكافُل والقضاء على الفُرقة والتمزُّق. هذه الوحدَة هي سرّ قوّة الأمّة ورقيِّها وسعادتها، }وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا{[آل عمران:103].
حذّرنا سبحانه من الفُرقة فقال: }وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ{[الأنفال:46]. وتوعّد سبحانه دعاةَ الفرقة بالعذاب فقال سبحانه: }وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ{[آل عمران:105].
لقد أدرك أعداءُ الإسلام أثَر وحدةِ المسلمين في القوّة والمنَعَة، فعملوا على إيقادِ نار العداوة والبغضاء بين المسلمين في كلّ عصرٍ وحين، وهذه مأساةُ المسلمين الكبرى في واقِعهم المعاصِر.
وفي الحجّ يتعلّم المسلمُ الرفقَ بإخوانه المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في منصَرَفه من عرفةَ إلى مزدلفة: ((السكينة السكينة)).
التراحم يُثمِر محبّةً وألفة ومودّة، والقَسوة تولِّد أحقادًا وكراهية، ومن الرفق أن يُعين أخاه ويفسح له الطريق، يحترمَه ويحبّه، لا يظلمه ولا يؤذيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطُفهم مثَل الجسد [الواحد]، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالسّهر والحمّى)) أخرجه مسلم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أمرنا بطاعته ونهانا عن معصيته، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل نعمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعد المتّقين جزيلَ فضله والخلودَ في جنّتِه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمّدًا عبده ورسوله، أنار للسالكين طريقَ سنّتِه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وجميع أمّته.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
وفي سياق آيات الحجّ يقول تعالى: }إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ{[البقرة:158].
كانت هاجَر عليها السلام تسعى بين الصفا والمروة سبعَ مرّات بتصميم وثباتٍ وعدَم يأس، اتخذتِ الأسبابَ، وبذلت جُهدًا مضنيًا مع توكُّلٍ على الله، فالفرج بيده سبحانه وحدَه، مالكِ الملك مقدِّر الأقدار، الجوارحُ تعملُ بالأسباب والقلبُ يناجي ربَّ الأربابِ، هي بهذا ترسم الخُطى في كلِّ عصرٍ ولكلّ جيل لشحذِ الهمّة وبذل الجهد لطرق أبواب الخير مرّةً وثانية وثالثة، بتصميم لا يتردّد وعزمٍ لا يلين مع صدقٍ في التوكُّل على الله سبحانه.
وفي سياق آيات الحجّ يقول سبحانه: }/span>فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـٰسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَـٰقٍ * وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ * أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ{{[البقرة:200-202].
إن هناك فريقين: فريقًا همُّه الدنيا، يجمع حُطامَها بحرصٍ وتعلُق، يذكرها حتى حين يتوجّه إلى الله بالدعاء، فقد امتلأت نفسُه بحبِّها، وأحاطت به من كلّ جانب، هؤلاء قد ينالون نصيبَهم في الدنيا ولا نصيبَ لهم في الآخرة، وفريقًا أفسحُ مجالاً وأوسعُ أُفُقًا وأكبَر نَفسًا؛ لأن همَّه الآخرة ورضوانُ الله، يريد الحسنةَ في الدنيا، ولكنه لا ينسى نصيبَه في الآخرة، هؤلاء لهم نصيبٌ لا يُبطئ عليهم، فالله سريعُ الحساب، قال تعالى: }وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا{[الإسراء:19].
ألا وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: }إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا{[الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...