الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربي هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليَلِ ويرى نياط عروقها في مخها والمخ في تلك العظام النُحلِ اغفر لعبد تاب من زلاته ما كان منه في الزمان الأولِ سُئل موسى عن ربه فقال: ((رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)). وسُئل إبراهيم عن مولاه، وعن مميته، وعن محييه فقال: ((الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ)). والله يقول لرسولنا صلى الله عليه وسلم: ((طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)). فالله يعرف رسوله صلى الله عليه وسلم بنفسه بأنه: الله الذي لا إله إلا هو. الكون كل الكون يشهد أن لا إله إلا الله، السماء والأرض والجبال والزهرة والغدير والجدول والشجرة والهواء والضياء. ((طه))، حرفان متقطعان وليس اسم له صلى الله عليه وسلم كما يظن بعض المفسرين، ولكن ((طه))،كـ ((حم)). وكأن المراد من هذه الحروف: أن الله تكلم بالقرآن بهذه الحروف التي عند العرب، فهل تستطيع هذه الأمة أن تأتي بمثله، والمادة عندها؟ فهو تحد بليغ ((قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)). ((مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى))، أي: لنخرجك بالقرآن من الظلمات إلى النور، ونخرج أمتك بالقرآن من الظلمات إلى النور، ونرفع رؤوسكم بالقرآن من أمة كانت تسجد للوثن، وتعبد الصنم وتقدّس الخرافة وتسجد للوثنية وتركن للأمم وتقاد بالحبال كما تقاد الشياه، إلى أمة ترفع رأسها وتسجد لله. ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيّا ((مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى))، لكن، واللّه، لتسعد، وليشرح بالك، وليستنير قلبك، وليرتفع رأسك. وكل مخلوق لا يهتدي بهذا القرآن فهو مخذول، فقلبٌ بلا إيمان كتلة لحم ميتة، وعين بلا إيمان مقلة عمياء، وأذن بلا إيمان إشارة خاطئة، ومجتمع بلا إيمان قطيع من الضأن. كنا أمة عربية ضائعة تعرف الزنا، والسرقة، والخنا، والغدر، والخيانة، والفحش، والتفلت على أمر الله، فأتى محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن فبعثها من جديد. أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأموات أحياه أتى ليقول: الربا حرام، الزنا حرام، الكذب حرام، الغناء حرام، الانهزام حرام، التخلف حرام، والتبعية لغير الله حرام، إعطاء الولاء لغير الله حرام. فترك الأمة رائدة يرتفع علمها، ويرفرف على المحيط الأطلنطي بقيادة عقبة بن نافع ، وعلمها الآخر يدخل كابول مع قتيبة بن مسلم ، والثالث مع محمد بن القاسم في الهند و السند ، والرابع مع طارق بن زياد في إسبانيا . ((إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى))، فالذي يخشى هو الذي يقرأ القرآن، ويعمل بالقرآن، وهو الذي يعيش مع القرآن، وهو الذي يهنأ، وهو الذي يسعد في الدنيا والآخرة. أما من يعرض عن القرآن، ويستبدله بالأغنية الماجنة، وبالمجلة الخليعة، والتصفيق في الملاعب، والتشجيع والتطبيل، فهذا لا يكون القرآن له تذكرة. بل يكون ممن قال الله فيهم: ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)). ((تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى))، ألا سألت الأرض من خلقها؟ والسماء من رفعها؟ والجبال من أرساها؟ والزهرة من جملها؟ والنسيم من أجراه؟ والليل من كساه؟ والتل من غطاه؟ والغدير من أجراه ووسعه؟ والمجتمع من حماه؟ إنه سوف يقول: (الله). وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))، انظر إلى القرآن كيف يصل القلوب بالرحمن بعقيدة لا تعقيد فيها ولا أحاجي ولا ألغاز ولا صعوبات. فهي عقيدة سهلة كالماء، خفيفة كالهواء، أصيلة كالصدف، واضحة كالفجر. ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))، ومع هذا كله ((الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)). على العرش: ويعلم نيتك وخطراتك وسكناتك. على العرش: يعلم صدقك ويرى نظرتك وتحركك. ((وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)). * أراد فضالة ، أحد العرب، أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ خنجراً فطاف معه في الطواف، وظن أن الذي على العرش استوى لا يعلم رسوله، فأخبره وقال له: انتبه من فضالة فهو غادر يريد قتلك. فأتى صلى الله عليه وسلم إلى فضالة ، وهو يطوف. فقال: ما تقول يا فضالة ؟ . قال: أستغفر الله، وأتوب إليه، أسبح، وأهلل. قال: تب إلى الله يا فضالة ، بل أتيت بخنجرك لتقتلني وما كان الله ليسلطك علي. قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله (1) . * جاءت خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت تشكو زوجها، فدخلت على المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو في بيت عائشة ، فأخذت تخفض صوتها، لئلا تسمع عائشة الصوت، ولكن الرحمن الذي على العرش استوى سمع الصوت. قالت عائشة : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، فقد كان يخفى علي كلامها، وهي في طرف البيت. فأنزل الله: ((قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)) (1) . ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))، يراك وأنت وراء الحيطان وأنت بين الجدران: وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان فاستحيي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني وقال آخر: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل طرفة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب * أورد أهل العلم: أن رجلاً خلا في غابة بمعصية، وظن أنه لا يراه أحد، فقد رأى الشجر قد غطاه، ورأى الليل قد حماه وتكنفه وآواه، ونسي الله، الذي لا يغفل ولا ينام، ولا تحجب رؤيته الظلمات. فقال في نفسه، وقد أقبل على المعصية: لا يراني أحد، ولا يعلم بي أحد. فسمع هاتفاً يقول: ((أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)). * مر عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه وأرضاه، براعي غنم في طريق المدينة ، فقال له عمر : بع لي شاة من غنمك. قال: الغنم لسيدي وأنا مولى عنده. قال: إذا سألك عن الشاة فقل أكلها الذئب -يريد أن يختبر إيمانه-. قال: لا إله إلا الله، فأين الله؟ فجلس عمر يبكي ويقول: نعم.. أين الله؟ فهل سأل كل منا نفسه أين الله؟ هل سأل المسؤول نفسه في الدائرة، وفي العمل، وفي المؤسسة، أين الله؟ فحاسب نفسه على الساعات، وحاسب نفسه على المعاملات، وحاسب نفسه على الإجراءات. هل سأل نفسه عن الذين أوقفهم، وأتعب أحوالهم، من الذين أتوا من القرى، والبوادي، فترك معاملاتهم، وإجراءاتهم، وأوراقهم، فعذبهم؛ لأنه نسي الذي على العرش استوى. وهل سأل الموظف نفسه يوم يأخذ مالاً حراماً، ومرتباً حراماً، ويكدس معاملات الأمة، فيخون الله، ويخون ولاة الأمور، ويتعب الناس، فهل تذكر الرحمن الذي على العرش استوى؟ سوف يسأله عن هذه المعاملات، وعن هذه المسؤوليات، وعن هذه المرتبات، وعن هذه الأوقات. وهكذا غيرهم من الناس ممن استرعي على أمانة، لا رقيب عليه فيها إلا الله. فليتذكر كل منا: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))، ولكنه يعلم كل حركاتنا وسكناتنا. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربي هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليَلِ
ويرى نياط عروقها في مخها والمخ في تلك العظام النُحلِ
اغفر لعبد تاب من زلاته ما كان منه في الزمان الأولِ
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيّا
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأموات أحياه
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحيي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل طرفة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب