ابتداء لا بد أن يُعلَم أن بعض المفسرين يقصدون في مصنفاتهم الجمع المجرد لكل ما يمكن أن يفيد في تفسير الآية الكريمة، دون أن يُمحِّصوا ويفحصوا، ومجرد النقل لا يدل على اعتمادهم لكل ما ذكروه، ومع ذلك فإننا نراهم يُقدِّمون ما هو أولى عندهم بالقبول ويؤخرون ما يرونه ضعيفًا، وقصدهم بذلك أن يجمعوا لمن بعدهم كل ما لديهم من المعلومات حول الآية، وعليه فالنقاش بالقبول والرد ينصبُّ على ما ذكره المفسرون دون النص القرآني.
أما الآية المشتبه عليها فهي تتحدث مع كفار مكة وتُبَيِّن لهم أنه قد وقع مِمَّن سبقهم من الأقوام مكرٌ مثل ما يفعلون هُمْ، وكان عقابهم أن عُذِّبوا في الدنيا قبل الآخرة فخُرِّبت بيوتهم وتهدمت عليهم وجاءهم العذاب من حيث لا يشعرون.
وفى هذه الآية قولان:
الأول: أن المراد بها تمثيل لحالات استئصال الأمم، ففيها استعارة تمثيلية، وهي تشبيه هيئة القوم الذين مكروا في المنعة فأخذهم الله بسرعة وأزال تلك العِزَّة، بهيئة قوم أقاموا بنيانًا عظيمًا ذا دعائم وآووا إليه فاستأصله الله من قواعده فخرَّ سقف البناء دفعة على أصحابه فهلكوا جميعًا.
وعليه فيكون المراد بالذين من قبلهم ما يشمل جميع الماكرين الذين هُدِّم عليهم بنيانهم وسقط في أيديهم. وهذا ما رجَّحه أغلب أهل التفسير. (1) والثاني: قال بعض المفسرين قد يراد بالآية الكريمة التعين أي الحقيقة، فالمراد قوم بعينهم، ثم اختلف المفسرون في هؤلاء القوم مَنْ هم؟ فذكروا أقوالا:
الأول: أن المراد بهم النمرود وقومه.
الثاني: بختنصر وأصحابه.
الثالث :المقتسمين الذي ذكرهم الله في سورة الحجر.
رابعًا: أن المراد بهم قوم لوط عليه السلام.
ومن المفسرين مَنْ لم يستعرض كل هذه الأقوال، ولكنه يذكر احتمال الآية الكريمة للمعنيين السابقين -أي التمثيل أو التعيين-.
وحمل الآية على قصة النمروذ بخصوصها من المفسرين مَنْ لا يرتضيه ويضعِّف هذه القصة لاسيما وقد ورد فيها أقوال لا يستطيع العقل أن يصدق بها، كقولهم: إن البناء الذي بناه النمرود كان سُمْكُه خمسة ألاف ذراع، وقيل: فرسخًا، ورام منه الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها، فالمراد بالمكر في الآية هو بناء الصرح لمقاتلة أهل السماء.
وأما قولهم: إن سبب تسمية بابل بهذا الاسم هو أن الناس بعد الطوفان بنوا مدينة وبرجًا عاليًا ليخلدوا بذلك اسمهم، فعاقبهم الله بأن بلبل ألسنتهم فلم يستطيعوا التفاهم، وكفوا عن البنيان ولذلك سُميت المدينة "بابل" أمر غير مُسَلَّم؛ لأن العلماء ذكروا أن مدينة بابل بناها بيوراسب الجبار، واشتق اسمها من اسم المشتري؛ لأن بابل باللسان البابلي الأول اسم للمشترى (2).
( [1]) تفسير القرطبي (10/98)، وتفسير الألوسي (4/361)، التحرير والتنوير (14/133). بتصرف.
( [2]) معجم البلدان (1/310).
|