يميل الذين يريدون إحراج الدكتور البرادعى أو غيره من دعاة التغيير إلى تكرار السؤال الآتى: ما موقفك من المادة الثانية من الدستور التى تنص على أن الإسلام دين الدولة، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، بالإضافة إلى النص على أن اللغة العربية لغة الدولة الرسمية؟ وقد اشتعلت شهوة البعض– ومن بينهم عدد من الصحفيين الأمريكيين- فى مباغتة البرادعى بهذا السؤال بعد تنسيقه مؤخراً مع جماعة الإخوان من أجل العمل على تغيير الدستور والمطالبة بحياة ديمقراطية حقيقية.
وفى تقديرى أن جميع الأطراف التى تطرح أسئلة حول هذه المادة لا تستهدف سوى نصب «فخ» للرجل، فإذا أجاب بأنه يؤيد استمرارها غضب منه الأقباط والعلمانيون وتوجس منه الغرب، وإذا أجاب بأنه لا يؤيد استمرارها ثار ضده الإسلاميون.
وبصفة عامة، فإن طرح هذا السؤال لا يعبر عن دفاع عن الإسلام لمن يريد تثبيتها أو احتفاء بالعلمانية لمن يريد إقالتها، بل يعكس حالة من حالات الالتفات إلى الهامشى وإهمال ما هو جذرى عند النظر فى الكيفية التى يمكن أن تنهض بها بلادنا من عثرتها. فما معنى أن نقـــول إن للدولة ديناً؟ وما مغزى أن نقول إن لها لغة معينة؟ فهل للدولة دين أو لغة؟ إن الدين هو دين الأفراد، واللغة لغتهم، فهم فقط القادرون على تقرير العقيدة التى ينتمون إليها واللغة التى يتحدثون بها. وما الدولة إلا تعبير عن فكرة اعتبارية تخيلية، وبالتالى يكون من الصعب أن ننسب إليها ديناً أو لغة.
فالنص على أن اللغة العربية هى لغة الدولة لم يمنع من انتشار التعليم باللغات الأجنبية فى مصر، والكل يعلم أن المصريين يتنافسون فيمـا بينهم على إلحاق أبنائهم بمدارس اللغات، وما أكثر أن تجد أحدهم يتحدث بمنتهى الفخر عن أن ابنه «مبيعرفش يكّلم عربى» ودائم «الرطن» بالإنجليزية مع إخوته وأصدقائه. وهناك طبقة كاملة فى مصر تزهد فى التواصل فى حياتها اليومية باللغة العربية وتفضل عليها الإنجليزية أو الفرنسية.
والكثير من صغار الطبقة المـتوسطة وأبناء الطبقة الفقيرة المضطرين إلى إلحاق أبنائهم بالمدارس «العربى» يحلمون بيوم يتمكنون فيه من توفير مصروفات المدرسة اللغات حتى ينقذوا أبناءهم من براثن التعليم العربى الذى لا يُمكّن خريجيه من الالتحاق بأى وظيفة ذات قيمة بسبب عدم احترامنا كأفراد للغتنا القومية التى نزل بها القرآن الكريم. وقد شهدت بلادنا هذا التحول فى ظل النص الدستورى على أن العربية هى لغة الدولة، مما يدلل على أن العبارة لا تعبر بدقة عن الواقع، بل تساق على سبيل المجاز أو التعبير الخيالى.
وينسحب على عبارة «الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع» ما ينطبق على اللغة، فالحكومة غيبت منذ سنين مشروع تقنين الشريعة الإسلامية الذى طُرح فى أواخر السبعينيات. ومن المؤكد أن أى شخص سوف تعتريه الدهشة إذا قلت له إن الحكومة قررت تطبيق شرع الله بقطع يد السارق، لأنه لن يصدق بحال أن يأتى ذلك اليوم الذى يجد فيه مسؤولى الحكم وقد أمسك كل واحد منهم بسكين فى يده ليقطع بها يد من سرق، وأن يعيش فى ظل حكومة «الأيدى المقطوعة»!. ولكى نكون منصفين فإن المسألة لا تنطبق على الحكومة فقط، بل تنطبق أيضاً على الشعب.
فما أكثر ما تُحرم المرأة من حقها– المقرر شرعاً– فى الميراث، خصوصاً داخل الصعيد، خوفاً من تسرب الثروات العائلية إلى الأغراب!. وربما يكون من يحرمها من ذلك يصلى ويصوم ويداوم على زيارة البيت الحرام، تماماً مثلما يفعل المسؤول أو رجل الأعمال الذى تجلل «زبيبة الصلاة» جبهته، ويقيم موائد الرحمن فى رمضان، ويبذل المال من أجل تسفير الفقراء للحج والعمرة، لكنه لا يتباطأ عن السرقة والنهب وإهدار الحقوق!
فالدين، إذن، ليس دين الدولة ولا دين المجتمع، بل هو فى الأساس دين الفرد، وعندما تتمكن تعاليم الإسلام وشرائعه من نفس المؤمن به فإنه ليس بحاجة إلى دولة تعينه على تطبيق هذه التعاليم وتلك الشرائع فى سلوكيات حياته اليومية، ولن تمنعه دولة لا تعتقد فى ذلك من أن يسلك فى حياته طبقاً لما يؤمن به. فكثير من المسلمين يعيشون فى دول تنص دساتيرها على أن الكاثوليكية أو البروتستانتية هى مذهب الدولة، فهل منعهم ذلك من التمسك بدينهم؟ وهل المواطن الذى يعيش فى دولة ينص دستورها على أن الإسلام دينها لا يستطيـــع أن ينافق أو يكذب أو يسرق دون أن تكترث به حكومته التى هى على شاكلته؟!
لقد كان للمرشد الثانى للإخوان المسلمين المرحوم «حسن الهضيبى» عبارة نافذة يحسن استحضارها فى هذا المقام، كان يقول فيها: «أقيموا دولة الإسلام فى قلوبكم تقم على أرضكم». والمعنى فى العبارة واضح فالإسلام هو دين الفرد، وإذا صحّ أنه دين الدولة فإن ذلك لا يتحقق إلا بعد أن تكتمل أركانه فى قلب المسلم، وحينئذ سوف تتحول الدولة تلقائياً إلى أن تؤدى بصورة إسلامية متكاملة حتى لو كان دستورها ينص على علمانيتها. ودعونا فى هذا السياق نستشهد بالنموذج التركى بالغ الدلالة.
لقد عاشت تركيا فى ظل العلمانية منذ سقوط الخلافة العثمانية على يد «مصطفى كمال أتاتورك» عام ١٩٢٤ وتواصلت مسيرتها على هذا النحو سنين عددا، اقتصر فيها وجود الإسلام الرسمى فى هذا البلد على المساجد، ومُنعت المرأة من ارتداء الحجاب فى الشوارع،
ومع ذلك ظهر حزب العدالة والتنمية وبدأ يتبنى شعارات إسلامية فى مواجهة الواقع العلمانى، ودخل فى صراع مع الحكومة هناك يشبه الصراع الحاصل فى مصر الآن بين الحكومة والإخوان، وبمرور الوقت أيقن الحزب ضرورة التخلى عن الشعارات الجامدة التى تتحدث عن الدولة الإسلامية، ووضع مثل هذه العبارات فى حجمها الحقيقى وبدأ يقدم نفسه للمجتمع كحزب مدنى يسكن الإسلام قلب من ينتمون إليه، فكانت النتيجة أن استطاع الوصول إلى الحكم مع مطلع الألفية الجديدة.
وها هو الشعب التركى، وكذلك الشعوب العربية، تجنى اليوم ثمرة هذا الجهد العقلانى المتأنى الذى يفهم حقيقة أن الدين دين الفرد وليس دين الدولة. فمن يحلل أقوال وأفعال رجب طيب أردوجان– فى مواجهة الحصار على غزة- لابد وأن يفهم أنها صادرة عن قلب مطمئن بالإيمان وعامر بالإسلام رغم أنه يترأس حكومة دولة ينص دستورها على أنها دولة علمانية.
إننا لو استبدلنا حالة الهوس بالعبارات والشعارات بحماس أكبر من أجل تغيير أنفسنا حتى يغير الله ما يحيط بنا لانصلح حالنا. والبداية بسيطة جداً وهى أن نقول ما نفعل وأن نفعل ما نقول «يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون». صدق الله العظيم وكذب المتنطعون!