وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ
القول في تأويل قوله تعالى : { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } اختلفت القراء في قراءة ذلك , فقرأته القراء في الأمصار جميعا " كاتبا " , بمعنى : ولم تجدوا من يكتب لكم كتاب الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى " فرهان مقبوضة " . وقرأ جماعة من المتقدمين : " ولم تجدوا كتابا " , بمعنى : ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين سبيل , إما بتعذر الدواة والصحيفة , وإما بتعذر الكاتب وإن وجدتم الدواة والصحيفة . والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا هي قراءة الأمصار : { ولم تجدوا كاتبا } بمعنى : من يكتب , لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين , وإن كنتم أيها المتداينون في سفر بحيث لا تجدون كاتبا يكتب لكم , ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى بينكم الذي أمرتكم باكتتابه والإشهاد عليه سبيل , فارتهنوا بديونكم التي تداينتموها إلى الأجل المسمى رهونا تقبضونها ممن تداينونه كذلك ليكون ثقة لكم بأموالكم . ذكر من قال ما قلنا في ذلك : 5050 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا أبو زهير , عن جويبر , عن الضحاك قوله : { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } فمن كان على سفر فبايع بيعا إلى أجل فلم يجد كاتبا فرخص له في الرهان المقبوضة , وليس له إن وجد كاتبا أن يرتهن . 5051 - حدثت عن عمار , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع قوله : { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا } يقول : كاتبا يكتب لكم , " فرهان مقبوضة " . * - حدثني يحيى بن أبي طالب , قال : أخبرنا يزيد , قال : أخبرنا جويبر , عن الضحاك , قال : ما كان من بيع إلى أجل , فأمر الله عز وجل أن يكتب ويشهد عليه وذلك في المقام , فإن كان قوم على سفر تبايعوا إلى أجل فلم يجدوا كاتبا , فرهان مقبوضة . ذكر قول من تأول ذلك على القراءة التي حكيناها : 5052 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا هشيم , قال : أخبرنا يزيد بن أبي زياد , عن مقسم , عن ابن عباس : فإن لم تجدوا كتابا , يعني بالكتاب : الكاتب والصحيفة والدواة والقلم . 5053 - حدثني يعقوب , قال : ثنا ابن علية , قال : أخبرنا ابن جريج , قال : أخبرني أبي , عن ابن عباس أنه قرأ : " فإن لم تجدوا كتابا " , قال : ربما وجد الرجل الصحيفة ولم يجد كاتبا . 5054 - حدثني يعقوب , قال : ثنا ابن علية , قال : ثنا ابن أبي نجيح , عن مجاهد , كان يقرؤها : " فإن لم تجدوا كتابا " , ويقول : ربما وجد الكاتب ولم توجد الصحيفة أو المداد , ونحو هذا من القول . 5055 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كتابا " يقول : مدادا , يقرؤها كذلك , يقول : فإن لم تجدوا مدادا , فعند ذلك تكون الرهون المقبوضة , { فرهان مقبوضة } قال : لا يكون الرهن إلا في السفر . 5056 - حدثني المثنى , قال : ثنا الحجاج , قال : ثنا حماد بن زيد , عن شعيب بن الحبحاب , قال : إن أبا العالية كان يقرؤها : " فإن لم تجدوا كتابا " , قال أبو العالية : توجد الدواة ولا توجد الصحيفة . واختلف القراء في قراءة قوله : { فرهان مقبوضة } فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق : { فرهان مقبوضة } بمعنى جماع رهن , كما الكباش جماع كبش , والبغال جمع بغل , والنعال جمع نعل . وقرأ ذلك جماعة آخرون : " فرهان مقبوضة " على معنى جمع رهان ورهن جمع الجمع , وقد وجهه بعضهم إلى أنها جمع رهن مثل سلف وسقف . وقرأه آخرون : { فرهن } مخففة الهاء , على معنى جماع رهن , كما تجمع السقف سقفا ; قالوا : ولا نعلم اسما على فعل يجمع على فعل وفعل إلا الرهن والرهن والسقف والسقف . والذي هو أولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأه : { فرهان مقبوضة } لأن ذلك الجمع المعروف لما كان من اسم على فعل , كما يقال حبل وحبال وكعب وكعاب , ونحو ذلك من الأسماء . فأما جمع الفعل على الفعل أو الفعل فشاذ قليل إنما جاء في أحرف يسيرة , وقيل سقف وسقف وسلف , وقلب وقلب وقلب من قلب النخل , وجد وجد . للجد الذي هو بمعنى الحظ . وأما ما جاء من جمع فعل على فعل فثط وثط , وورد وورد , وخود وخود . وإنما دعا الذي قرأ ذلك : " فرهن مقبوضة " إلى قراءته فيما أظن كذلك مع شذوذه في جمع فعل , أنه وجد الرهان مستعملة في رهان الخيل , فأحب صرف ذلك عن اللفظ الملتبس برهان الخيل , الذي هو بغير معنى الرهان , الذي هو جمع رهن , ووجد الرهن مقولا في جمع رهن , كما قال قعنب :
بانت سعاد وأمسى دونها عدن
وغلقت عندها من قلبك الرهن
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ
القول في تأويل قوله تعالى : { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه } يعني بذلك جل ثناؤه : فإن كان المدين أمينا عند رب المال والدين فلم يرتهن منه في سفره رهنا بدينه لأمانته عنده على ماله وثقته , فليتق الله المدين ربه , يقول : فليخف الله ربه في الذي عليه من دين صاحبه أن يجحده , أو يلط دونه , أو يحاول الذهاب به , فيتعرض من عقوبة الله ما لا قبل له به , وليؤد دينه الذي ائتمنه عليه إليه . وقد ذكرنا قول من قال هذا الحكم من الله عز وجل ناسخ الأحكام التي في الآية قبلها من أمر الله عز وجل بالشهود والكتاب , وقد دللنا على أولى ذلك بالصواب من القول فيه فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . وقد : 5057 - حدثني يحيى بن أبي طالب , قال : أخبرنا يزيد , قال : أخبرنا جويبر , عن الضحاك في قوله : { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته } إنما يعني بذلك في السفر , فأما الحضر فلا وهو واحد كاتبا , فليس له أن يرتهن ولا يأمن بعضهم بعضا . وهذا الذي قاله الضحاك , من أنه ليس لرب الدين ائتمان المدين وهو واحد إلى الكاتب والكتاب والإشهاد عليه سبيلا وإن كانا في سفر , فكما قال لما قد دللنا على صحته فيما مضى قبل . وأما ما قاله - من الأمر في الرهن أيضا كذلك مثل الائتمان في أنه ليس لرب الحق الارتهان بماله إذا وجد إلى الكاتب والشهيد سبيلا في حضر أو سفر - فإنه قول لا معنى له لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه : " اشترى طعاما نساء , ورهن به درعا له " . فجائز للرجل أن يرهن بما عليه , ويرتهن بماله من حق في السفر والحضر , لصحة الخبر بما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأن معلوما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حين رهن من ذكرنا غير واجد كاتبا ولا شهيدا , لأنه لم يكن متعذرا عليه بمدينته في وقت من الأوقات الكاتب والشاهد , غير أنهما إذا تبايعا برهن , فالواجب عليهما إذا وجدا سبيلا إلى كاتب وشهيد , وكان البيع أو الدين إلى أجل مسمى أن يكتبا ذلك ويشهدا على المال والرهن , وإنما يجوز ترك الكاتب والإشهاد في ذلك حيث لا يكون لهما إلى ذلك سبيل .
وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ
القول في تأويل قوله تعالى : { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } وهذا خطاب من الله عز وجل للشهود الذين أمر المستدين ورب المال بإشهادهم , فقال لهم : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا , ولا تكتموا أيها الشهود بعد ما شهدتم شهادتكم عند الحكام , كما شهدتم على ما شهدتم عليه ; ولكن أجيبوا من شهدتم له إذا دعاكم لإقامة شهادتكم على خصمه على حقه عند الحاكم الذي يأخذ له بحقه . ثم أخبر الشاهد جل ثناؤه ما عليه في كتمان شهادته وإبائه من أدائها والقيام بها عند حاجة المستشهد إلى قيامه بها عند حاكم , أو ذي سلطان , فقال : { ومن يكتمها } يعني ومن يكتم شهادته , { فإنه آثم قلبه } يقول : فاجر قلبه , مكتسب بكتمانه إياها معصية الله . كما : 5058 - حدثني المثنى , قال : أخبرنا إسحاق قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع في قوله : { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } فلا يحل لأحد أن يكتم شهادة هي عنده , وإن كانت على نفسه والوالدين , ومن يكتمها فقد ركب إثما عظيما . 5059 - حدثني موسى , قال : ثنا عمرو , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قوله : { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } يقول : فاجر قلبه . 5060 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس , قال : أكبر الكبائر الإشراك بالله ; لأن الله يقول : { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار } 5 72 وشهادة الزور , وكتمان الشهادة , لأن الله عز وجل يقول : { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول : على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ويخبر بها حيث استخبر . 5061 - حدثني المثنى , قال : ثنا سويد , قال : أخبرنا ابن المبارك , عن محمد بن مسلم , قال : أخبرنا عمرو بن دينار , عن ابن عباس , قال : إذا كانت عندك شهادة فسألك عنها , فأخبره بها , ولا تقل : أخبر بها عند الأمير ; أخبره بها لعله يراجع أو يرعوي .
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
وأما قوله : { والله بما تعملون عليم } فإنه يعني بما تعملون في شهادتكم من إقامتها والقيام بها أو كتمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إليها , وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها , { عليم } يحصيه عليكم ليجزيكم بذلك كله جزاءكم , إما خيرا , وإما شرا على قدر استحقاقكم .