حتى منتصف هذا القرن تقريباً، كان هناك اعتقاد عام بأن نصف المصابين بمرض التليف الكيسي الرئوي البنكرياسي يعيشون إلى سن الخامسة، ولكن بفضل الله ثم بفضل تطور وسائل التشخيص وطرائق العلاج، فإن نوعية حياة المريض تحسنت كثيراً، حيث يعيش أكثر من نصف الأشخاص المصابين بالألياف الكيسية حتى سن الثلاثينيات، وعديد منهم يعيشون فوق الأربعينيات
، والقليل يتجاوز الخمسين من العمر
. لذلك من المهم جداً تشخيص المرض مبكراً والمواصلة على استمرار العلاج. وفي الوقت نفسه النظر بعين التفاؤل للمستقبل، لأن هناك تطوراً مستمراً في وسائل العلاج.وقد أثبتت المراجع الطبية وجود أطفال حملوا هذا المرض منذ سنة 1705، ولكن أول تقرير يتناوله بشكل علمي كان في سنة 1936، وهو يقع بين حوالي واحد في الألفين من المواليد البيض «المنتسبين لبلاد القوقاز»، ومع ذلك فهو موجود بكل شعب من شعوب العالم، ويكون حدوثه متساوياً في الأطفال الذكور والإناث. وفي أمريكا الشمالية، يوجد شخص في كل 20 يحمل جين الألياف الكيسية ولا تظهر عليهم أعراض المرض الأصلية، أي أن هناك 12 مليون حامل للمرض بالولايات المتحدة الأمريكية وحدها.
وإذا أردنا وضع تعريف مبسط للتليف الكيسي (الرئوي البنكرياسي،) نقول إنه مرض وراثي ينتج عن فشل الغدد في تأدية وظيفتها الطبيعية (الغدد الخارجية الإفراز). وعادة تفرز الغدد الخارجية إفرازات مخاطية: كالدموع، واللعاب وعصارات هاضمة إلى أعضاء مجوفة مثل الأمعاء أو مجاري الهواء (القصبات الهوائية).
بالنسبة للمصابين بهذا المرض، فإنهم يتعرضون لإفرازات كثيفة لاصقة تسد القصبات الهوائية وينتج عنها السعال المتكرر والالتهابات الصدرية المزمنة، وبالتالي تليف الرئتين.من أعراض المرض أيضاً، انسداد الأمعاء بإفرازات كثيفة، وخصوصاً بعد الولادة، ويسمى مغص غائط الجنين، أو يؤدي إلى حبس البراز ويؤدي إلى انسداد جزئي أو كامل للأمعاء.قد تتعرض غدة البنكرياس للانسداد كذلك، مما يؤدي إلى نقص الإنزيمات الهاضمة للدهون والبروتين مسبباً عدم امتصاص هذه المواد، وبالتالي عدم استفادة الجسم منها. وهذا يؤدي، بطبيعة الحال، إلى ضعف في النمو وفقدان الوزن. كما تتأثر الغدد العرقية، كجزء من الغدد الخارجية الإفراز، ويسبب ذلك فقدان كمية غير طبيعية من الملح في العرق، وربما يؤدي إلى جفاف الجلد وخصوصاً في فصل الصيف
. وهذه الخاصية تعد الأساس الذي يستخدم في تشخيص هذا المرض. لا يعتبر مرض التليف الكيسي الرئوي البنكرياسي من الأمراض المعدية، ولا ينقله المريض إلى أحد آخر، حيث إنه اضطراب موروث موجود عند تكوين الجنين. ولكن ليس لهذا المرض أيضاً علاقة بالدماغ، وبالتالي لا يفسد القدرة الذهنية مطلقاً. وراثة المرض من المعروف طبياً، أن الحمل يبدأ عند اتحاد بويضة الأم مع نطفة الأب، كما أن كلاً من البويضة والنطفة تحتويان على ألوف من الجينات. وتعتبر الجينات هي الوحدات الأساسية للوراثة التي تحدد الصفات الكيميائية والجسمانية، مثل العينين، ولون الشعر، وطول الشخص. تلك الجينات توجد بالكروموزومات، وهو شكل شبيه بالخيط موجود في نواة كل خلية بالجسم، وكل كروموزوم يحمل ألوفاً من الجينات المختلفة وهي موجودة على شكل زوجين، كما أن كل أب وأم يعطيان واحداً من الجينات لتكوين زوجين جديدين لجينات الطفل. وبهذه الطريقة فإن الجينات تمر من جيل إلى آخر في العائلة الواحدة.
ومن المهم هنا لفت الانتباه، إلى أن الوالدين لا يمكنهما ضبط الجينات التي تنقل إلى أطفالهم. غير أن عند اتحاد نطفة الرجل الحامل للجين مع بويضة المرأة الحاملة للجين، فإن النتيجة تكون طفل يحمل اثنين من جينات الألياف الكيسية، وبالتالي يتعرض الطفل لمرض التليف الكيسي الرئوي البنكرياسي.أما عند اتحاد نطفة لا تحمل جين الألياف الكيسية مع بويضة بها جنين الألياف الكيسية، فإن النتيجة هي طفل حامل لمرض الألياف الكيسية .
.وهناك طريقة أخرى ينتج عنها طفل حامل لمرض الألياف الكيسية، هي عند اتحاد نطفة بها جين الألياف الكيسية مع بويضة لا يوجد بها. في حين أنه إذا اتحدت بويضة لا تحمل الجين مع نطفة لا تحمل الجين أيضاً، فإن النتيجة هي طفل لا يرث الجين ولا يحمله أيضاً، أي طفل سليم تماماً.وبناء على ذلك، عندما يكون كلا الوالدين حاملين لجين الألياف الكيسية فإن كل ولادة بها
فرصة (25%) من ولادة طفل به ألياف كيسية
فرصة (50%) من ولادة طفل حامل لجين الألياف الكيسية ولا 1.يوجد به المرض
فرصة (25%) أن الطفل سليم تماماً ولا يحمل جين الألياف الكيسية ولا يوجد به أي أعراض لهذا المرض.
إن هذا المرض يظهر عند الحمل وتكوين الجنين، ولكن المشكلات الصحية المتسببة عن الألياف الكيسية لا تظهر إلا بعد مدة، ووقت ظهور الأعراض يختلف من شخص إلى آخر. وعند كل الأشخاص المصابين بالألياف الكيسية، فإن التشخيص يمكن عمله في الثلاث سنوات الأولى.
ومن الممكن إيراد قائمة لأكثر أعراض هذا المرض شيوعاً وهي:
(صفير متكرر. سعال مستمر وزيادة إفراز البلغم الكثيف. التهابات مزمنة بالرئة، نقص الوزن بالرغم من وجود شهية جيدة، جفاف الجلد المتكرر ولاسيما بفصل الصيف. حركات معوية غير طبيعية كإسهال مزمن، براز متكرر برائحة رديئة ويحتوي على دهون، مذاق مالح للجلد، لحمية بالأنف، تضخم وتعرج الأظفار وأطراف أصابع اليدين والرجلين.
التشخيص والعلاج
يعتبر العرق هو أسهل طريقة يمكن الاعتماد عليها لتشخيص هذا المرض، وهو قياس كمية الملح بالعرق، وهو فحص غير مؤذ أو مضر، ويحتاج من 15 إلى 30 دقيقة تقريباً. وإذا كانت كمية الكلورايد بالعرق عالية (أي أعلى من 60) فإنه يجب قياس كمية الكلورايد وعمل اختبار العرق لجميع أشقاء المريض وإن لم يكن لديهم أعراض المرض، وكذلك الأقرباء إذا كان لديهم جزء من أعراض هذا المرض. والأهم من ذلك، هو وجود الأعراض المتعددة التي ذكرناها من قبل والتي تجعل الصورة واضحة أمام الطبيب. ولكن تختلف كيفية العلاج باختلاف الجزء المتأثر من الجسم. فبالنسبة للجهاز التنفسي، فهناك عدة أنواع من البكتيريا الشائع وجودها، والتي يمكن اكتشافها عن طريق زراعة الإفرازات أو البلغم، وهي: - بكتيريا عنقودية (Staply Lococcus-aureus).،هيموفلس أنفلونزا (Hemophilus influenza)،سودوموناس (Pseudomonas Aureginosa) وهذه البكتيريا موجودة في سن مبكرة ولذلك يجب علاجها فوراً عند وجود أي تغيير بأشعة الصدر أو السعال المتكرر، ويجب أن يأخذ المريض المضاد الحيوي يومياً عن طريق الفم. وفي بعض الأحيان يتوجب الدخول إلى المستشفى لأخذ المضاد الحيوي عن طريق الوريد للتقليل من انتشار البكتيريا إلى الأجزاء السليمة من الرئتين.
وهناك علاجات أخرى شائعة لمعالجة الرئة المصابة بالألياف الكيسية منها:
1- العلاج الطبيعي للصدر: ويستخدم لتقليل المواد المخاطية والإفرازات من الشعب الهوائية وتصريفها، حيث يتمدد المريض في أوضاع مختلفة لتسمح لأجزاء معينة من الرئة بتصريف الإفرازات باتجاه الحلق بمساعدة الجاذبية الأرضية، ثم تخرج بالسعال إلى الخارج. ويجب الاستمرار على هذه التمرينات مرة أو مرتين كل يوم.
2- التمرينات الرياضية: علينا تشجيع الأطفال المصابين بهذا المرض للمشاركة في الألعاب الرياضية مثل ركوب الدراجة، الجري أو السباحة، ويجب تذكيرهم بتناول سوائل وأملاح زائدة عند زيادة التمرينات في الجو الحار.
3 - بخاخات: وهي على شكل رذاذ خفيف يمكن استنشاقه عن طريق كمامة على الوجه، وهي تساعد في تنظيف الأغشية المخاطية وتحريك الإفرازات من الرئتين وتوسعة الشعب الهوائية ليسهل إزالة الإفرازات، وتشمل فنتولين(Ventolin) كبخاخ أو عن طريق جهاز الهواء المضغوط (Air Compressor.
4.الجهاز الهضمي يؤدي نقص إفراز البنكرياس إلى عدم امتصاص البروتينات أو الدهون، وينتج عن ذلك نمو ضعيف للجسم ونقص الفيتامينات، ولذلك يحتاج هؤلاء المرضى إلى عدد كبير من الأدوية لتعويض هذا النقص( إنزيمات البنكرياس) وهي تحل محل الإنزيمات الطبيعية وتؤخذ عن طريق الفم على شكل كبسولات لتساعد على تفتيت الطعام ليسهل امتصاصه والاستفادة منه، ولذلك يجب أخذ الإنزيمات مع كل وجبة طعام، وتزداد بزيادة حجم الوجبة أو تعددها. - 5.الغذاء المتكامل: يحتاج الطفل المصاب بهذا المرض إلى ما يقارب ضعف السعرات الحرارية التي يحتاج إليها أي طفل في مثل سنه، وذلك نتيجة لاستخدام سعرات حرارية كبيرة في التنفس. ويجب أن يحتوي الغذاء على جميع أصناف الطعام وخاصة الدهون، فهي غنية بالسعرات الحرارية ومصدر ضروري للنمو.
- الفيتامينات: إن وجود اضطرابات في امتصاص الدهون يؤدي إلى نقص فيتامينات معينة يجب تعويضها يومياً وهي (أ،د،ي،ك). عقــم تـام توجد بعض الأمراض الأخرى التي تصيب الجهاز الهضمي، وإن كانت أقل شيوعاً مثل: - انسداد الأمعاء: نتيجة وجود المادة الغروية، فإن مغصاً شديداً يحدث للأشخاص البالغين ويمكن علاجه دوائياً في أغلب الأحيان، وإذا تم هذا الانسداد بعد الولادة مباشرة، فإن الأمر يحتاج إلى حقنة شرجية خاصة أو عملية جراحية لإزالة هذا الانسداد. - تليف الكبد: انسداد قنوات الكبد بمادة الصفراء الكثيفة يؤدي إلى تليف كبدي، ويتم تشخيص هذا المرض عن طريق أخذ عينة من الكبد. مرض السكري: ويأتي هذا المرض في سن متقدمة نتيجة انسداد قنوات البنكرياس مما يؤدي إلى نقص إنزيم الأنسولين الذي يساعد على هضم المواد السكرية. فضلاً عن ذلك، فإن الانسداد الذي يحدث للأوعية الناقلة للحيوانات المنوية بالإفرازات الكثيفة ما قبل الولادة (عند تكوين الجنين)، كما أنه لا توجد أي طريقة تساعد على إزالة الانسداد في ذلك الوقت، مما يتسبب في عقم تام لـ98% من الذكور المصابين بهذا المرض
. وفي جزء بسيط جداً من الذكور يكون الانسداد جزئياً مما يؤدي إلى مرور بعض الحيوانات المنوية في المني، وبذلك يكونون قادرين على الإنجاب. أما بالنسبة للجهاز التناسلي للمرأة، فإنه نتيجة لوجود إفرازات لاصقة كثيفة بقناة المهبل، فإن الحيوان المنوي لا يستطيع المرور لكي يصل إلى البويضة في الرحم، ولذلك لا يتم التلقيح، مما يؤدي إلى أن 10% فقط من النساء المصابات بهذا المرض يمكنهم الإنجاب. في حين يكون النمو والتطور الجنسي بالمرأة والرجل والمصابين بهذا المرض طبيعياً أو بمعدل نمو بطيء.
مظاهر اجتماعية ونفسية كغيره من الأمراض المزمنة، فإن مرض الألياف الكيسية يسبب مشكلات اجتماعية وعاطفية ونفسية يمكن أن نذكر منها: القلق على مستقبل الطفل، الشعور بالذنب لوجود طفل ورث المرض من والديه، الخوف من المجهول والغضب من وقوع المرض، أو الشعور باليأس والحزن، خصوصاً إذا ازدادت شدة المرض.ونود أن نذكر هنا أن جميع هذه المشاعر هي من الأمور الطبيعية تماماً، ولكن المهم أن نتعرف عليها كي نستطيع التعامل من خلالها، وأن نتحدث بصراحة عنها مع فريق الرعاية الصحية والعائلة والأصدقاء المقربين.وقد يكون من المفيد في هذا الصدد التقيد بمجموعة من القواعد التي تساعد المحيطين بالطفل المريض في التعامل معه، وهي تتمثل في معاملته بشكل طبيعي قدر المستطاع بمعنى تجنب إظهار الرعاية المفرطة أو الحماية الزائدة، مع تشجيعه من أجل الاعتماد على النفس، والقيام بالنشاطات الجسمانية بأكبر قدر ممكن، خصوصاً مع الأطفال الأصحاء لكي يشعر أنه جزء من المجتمع.
فقد ثبت أن مساعدته على ممارسة التمرينات الرياضية يؤدي إلى تحريض السعال وتنظيف الشعب الهوائية، كما أنه لابد من شرح المرض للطفل وطرائق علاجه كي نكسب تعاونه الدائم في العلاج الذي يجب أن يكون بمنزلة المتعة أو التسلية المرتبطة بالألعاب أو مشاهدة التلفزيون خلال إعطاء العلاج الطبيعي. عند بلوغ المريض سن المراهقة، يجب أن يفهم طبيعة مرضه. ومن المهم للغاية أن يعرف أصدقاؤه بالمدرسة أن السعال ليس بمعد، ولابد من الانتظام بأخذ الدواء، وألا يشعروا بالخجل من السعال. إننا نعتقد أن الطريقة المثلى لمساعدة هؤلاء المرضى تكون عن طريق إنشاء مؤسسة رعاية مرضى الألياف الكيسية لكي يتم من خلالها التعاون الشامل مع المرضى وتطوير الأبحاث للوصول إلى مستقبل مشرق وسليم.
مع التمنيات للجميع بدوام الصحة والعافية
منقول عن د /هناء حسن بنجر ـالسعودية