بتـــــاريخ : 10/12/2009 1:13:26 AM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1026 0


    الوحدة الخامسة: غزوة أحد

    الناقل : elmasry | العمر :42 | المصدر : www.khayma.com

    كلمات مفتاحية  :
    غزوة أحد الوحدة الخامسة

    مقدمة الوحدة

    تعقيب القرآن على غزوة أحد من معركة الجدل والمناظرة والبيان والتنوير والتوجيه والتحذير فيما سبق من السورة ينتقل السياق إلى المعركة في الميدان معركة أحد وغزوة أحد لم تكن معركة في الميدان وحده ; إنما كانت معركة كذلك في الضمير كانت معركة ميدانها أوسع الميادين لأن ميدان القتال فيها لم يكن إلا جانبا واحدا من ميدانها الهائل الذي دارت فيه ميدان النفس البشرية وتصوراتها ومشاعرها وأطماعها وشهواتها ودوافعها وكوابحها على العموم وكان القرآن هناك يعالج هذه النفس بألطف وأعمق وبأفعل وأشمل ما يعالج المحاربون أقرانهم في النزال وكان النصر أولا وكانت الهزيمة ثانيا وكان الانتصار الكبير فيها بعد النصر والهزيمة انتصار المعرفة الواضحة والرؤية المستنيرة للحقائق التي جلاها القرآن ; واستقرار المشاعر على هذه الحقائق استقرار اليقين وتمحيص النفوس وتمييز الصفوف وانطلاق الجماعة المسلمة بعد ذلك متحررة من كثير من غبش التصور وتميع القيم وتأرجح المشاعر في الصف المسلم وذلك بتميز المنافقين في الصف إلى حد كبير ووضوح سمات النفاق وسمات الصدق في القول والفعل وفي الشعور والسلوك ووضوح تكاليف الإيمان وتكاليف الدعوة إليه والحركة به ومقتضيات ذلك كله من الاستعداد بالمعرفة والاستعداد بالتجرد والاستعداد بالتنظيم والتزام الطاعة والاتباع بعد هذا كله والتوكل على الله وحده في كل خطوة من خطوات الطريق ورد الأمر إلى الله وحده في النصر والهزيمة وفي الموت والحياة وفي كل أمر وفي كل اتجاه وكانت هذه الحصيلة الضخمة التي استقرت في الجماعة المسلمة من وراء الأحداث ومن وراء التوجيهات القرآنية بعد الأحداث أكبر وأخطر بما لا يقاس من حصيلة النصر والغنيمة لو عاد المسلمون من الغزوة بالنصر والغنيمة وقد كانت الجماعة المسلمة إذ ذاك أحوج ما تكون لهذه الحصيلة الضخمة كانت أحوج إليها ألف مرة من حصيلة النصر والغنيمة وكان الرصيد الباقي منها للأمة المسلمة في كل جيل أهم وأبقى كذلك من حصيلة النصر والغنيمة وكان تدبير الله العلوي من وراء ما بدا في الموقعة من ظواهر النقص والضعف والتميع والغبش في الصف المسلم ومن وراء الهزيمة التي نشأت عن هذه الظواهر كان تدبير الله العلوي من وراء هذا الذي وقع وفق سنة الله الجارية حسب أسبابه الطبيعية الظاهرة تدبيرا كله الخير للجماعة المسلمة في ذلك الحين لتنال هذه الحصيلة الضخمة من العبرة والتربية والوعي والنضح والتمحيص والتميز والتنسيق والتنظيم وليبقى للأمة المسلمة في أجيالها المتعاقبة هذا الرصيد من التجارب والحقائق والتوجيهات التي لا تقدر بثمن ولو كان هذا الثمن هو النصر والغنيمة لقد انتهت المعركة في ميدان الأرض ليبدأها القرآن في ميدانها الأكبر ميدان النفس وميدان الحياة الشاملة للجماعة المسلمة وصنع بهذه الجماعة ما تصنعه يد الله عن علم وعن حكمة وعن خبرة وعن بصيرة وكان ما شاءه الله وما دبره وكان فيه الخير العظيم من وراء الضر والأذى والابتلاء الشاق المرير ولعل مما يلفت النظر في التعقيب القرآني على أحداث المعركة هو ذلك الازدواج العجيب بين استعراض مشاهدها ووقائعها والتوجيهات المباشرة على هذه المشاهد والوقائع وبين التوجيهات الأخرى المتعلقة بتصفية النفوس وتخليصها من غبش التصور وتحريرها من ربقة الشهوات وثقلة المطامع وظلام الأحقاد وظلمة الخطيئة وضعف الحرص والشح والرغبات الدفينة ولعل مما يلفت النظر أكثر الكلام في صدد التعقيب على معركة حربية عن الربا والنهي عنه وعن الشورى والأخذ بها على الرغم مما كان للشورى من معقبات ظاهرية في النتائح السيئة للمعركة ثم سعة المساحة التي يعمل فيها المنهج القرآني في النفس البشرية وفي الحياة الإنسانية وتعدد نقط الحركة فيها وتداخلها وتكاملها العجيب ولكن الذين يدركون طبيعة هذا المنهج الرباني لا يعجبون لشيء من ذلك الازدواج وهذه السعة وهذا التداخل وهذا التكامل فالمعركة الحربية في الحركة الإسلامية ليست معركة أسلحة وخيل ورجال وعدة وعتاد وتدبير حربي فحسب فهذه المعركة الجزئية ليست منعزلة عن المعركة الكبرى في عالم الضمير وعالم التنظيم الاجتماعي للجماعة المسلمة إنها ذات ارتباط وثيق بصفاء ذلك الضمير وخلوصه وتجرده وتحرره من الأوهاق والقيود التي تطمس على شفافيته وتقعد به دون الفرار إلى الله وكذلك هي ذات ارتباط وثيق بالأوضاع التنظيمية التي تقوم عليها حياة الجماعة المسلمة وفق منهج الله القويم المنهج الذي يقوم على الشورى في الحياة كلها لا في نظام الحكم وحده وعلى النظام التعاوني لا النظام الربوي والتعاون والربا لا يجتمعان في نظام والقرآن كان يعالج الجماعة المسلمة على إثر معركة لم تكن كما قلنا معركة في ميدان القتال وحده إنما كانت معركة في الميدان الأكبر ميدان النفس البشرية وميدان الحياة الواقعية ومن ثم عرج على الربا فنهى عنه ; وعرج على الإنفاق في السراء والضراء فحض عليه ; وعرج على طاعة الله ورسوله فجعلها مناط الرحمة ; وعرج على كظم الغيظ والعفو عن الناس وعلى الإحسان والتطهر من الخطيئة بالاستغفار والتوبة وعدم الإصرار ; فجعلها كلها مناط الرضوان كما عرج على رحمة الله المتمثلة في رحمة الرسول ص ولين قلبه للناس وعلى مبدأ الشورى وتقريره في أحرج الأوقات وعلى الأمانة التي تمنع الغلول وعلى البذل والتحذير من البخل في نهاية ما نزل في التعقيب على الغزوة من آيات عرج على هذا كله لأنه مادة إعداد الجماعة المسلمة للمعركة في نطاقها الواسع ; الذي يتضمن المعركة الحربية في إطاره ولا يقتصر عليها معركة التعبئة الكاملة للانتصار الكبير الانتصار على النفس والشهوات والمطامع والأحقاد والانتصار في تقرير القيم والأوضاع السليمة لحياة الجماعة الشاملة وعرج على هذا كله ليشير إلى وحدة هذه العقيدة في مواجهة الكينونة البشرية ونشاطها كله ورده كله إلى محور واحد محور العبادة لله والعبودية له والتوجه إليه في حساسية وتقوى وإلى وحدة منهج الله في الهيمنة على الكينونة البشرية كلها في كل حال من أحوالها وإلى الترابط بين جميع هذه الأحوال في ظل هذا المنهج وإلى وحدة النتائج النهائية للنشاط الإنساني كله وتأثير كل حركة من حركات النفس وكل جزئية من جزئيات التنظيم في هذه النتائج النهائية وإذن فهذه التوجيهات الشاملة ليست بمعزل عن المعركة فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية والذين تولوا يوم التقى الجمعان في أحد إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب والالتجاء إلى الله والالتصاق بركنه الركين والتطهر من الذنوب إذن والالتصاق بالله والرجوع إلى كنفه من عدة النصر وليست بمعزل عن الميدان واطراح النظام الربوي إلى النظام التعاوني من عدة النصر ; والمجتمع التعاوني أقرب إلى النصر من المجتمع الربوي وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر فالسيطرة على النفس قوة من قوى المعركة والتضامن والتواد في المجتمع المتسامح قوة ذات فاعلية كذلك كذلك كان من الحقائق التي اتكأ عليها السياق من بدئه إلى نهايته حقيقة قدر الله ورد الأمر إليه جملة وتصحيح التصور في هذه النقطة تصحيحا حاسما جازما وفي الوقت ذاته تقرير سنة الله في ترتيب العواقب التي تحل بالبشر على ما يصدر من سعيهم ونشاطهم وخطئهم وإصابتهم وطاعتهم ومعصيتهم وتمسكهم بالمنهج وتفريطهم فيه واعتبارهم بعد هذا كله ستارا للقدرة وأداة للمشيئة وقدرا من قدر الله يحقق به ما يشاء سبحانه ثم في النهاية إشعار الجماعة المسلمة أن ليس لها من أمر النصر شيء إنما هو تدبير الله لتنفيذ قدره من خلال جهادها وأجرها هي على الله وليس لها من ثمار النصر شيء من أشياء هذه الأرض ولا لحسابها الخاص يؤتيها الله النصر إذ يشاء إنما لحساب الأهداف العليا التي يشاؤها الله وكذلك الهزيمة فإنها حين تقع بناء على جريان سنة الله وفق ما يقع من الجماعة المسلمة من تقصير وتفريط إنما تقع لتحقيق غايات يقدرها الله بحكمته وعلمه ; لتمحيص النفوس وتمييز الصفوف وتجلية الحقائق وإقرار القيم وإقامة الموازين وجلاء السنن للمستبصرين ولا قيمة ولا وزن في نظر الإسلام للانتصار العسكري أو السياسي أو الاقتصادي ; ما لمم يقم هذا كله على أساس المنهج الرباني في الانتصار على النفس والغلبة على الهوى والفوز على الشهوة وتقرير الحق الذي إراده الله في حياة الناس ليكون كل نصر نصرا لله ولمنهج الله وليكون كل جهد في سبيل الله ومنهج الله وإلا فهي جاهلية تنتصر على جاهلية ولا خير فيها للحياة ولا للبشرية إنما الخير أن ترتفع راية الحق لذات الحق والحق واحد لا يتعدد إنه منهج الله وحده ولا حق في هذا الكون غيره وانتصاره لا يتم حتى يتم أولا في ميدان النفس البشرية وفي نظام الحياة الواقعية وحين تخلص النفس من حظ ذاتها في ذاتها ومن مطامعها وشهواتها ومن أدرانها وأحقادها ومن قيودها وأصفادها وحين تفر إلى الله متحررة من هذه الأثقال والأوهاق وحين تنسلخ من قوتها ومن وسائلها ومن أسبابها لتكل الأمر كله إلى الله بعد الوفاء بواجبها من الجهد والحركة وحين تحكم منهج الله في الأمر كله وتعد هذا التحكيم هو غاية جهادها وانتصارها حين يتم هذا كله يحتسب الانتصار في المعركة الحربية أو السياسية أو الاقتصادية انتصارا في ميزان الله وإلا فهو انتصار الجاهلية على الجاهلية الذي لا وزن له عند الله ولا قيمة ومن ثم كان ذلك الازدواج وكان ذلك الشمول في التعقيب على المعركة التي دارت يوم أحد في ذلك الميدان الفسيح الذي يعد ميدان القتال جانبا واحدا من جوانبه الكثيرة وقبل أن نأخذ في استعراض ذلك التعقيب القرآني على أحداث المعركة يحسن أن موجز أحداث غزوة أحد نلخص وقائعها كما وردت في روايات السيرة ; لندرك مواضع التعقيب والتوجيه حق الإدراك ولنراقب طريقة التربية الإلهية بالقرآن الكريم في تناول الوقائع والأحداث كان المسلمون قد انتصروا في بدر ذلك الانتصار الكامل الذي تبدو فيه في ظل الظروف التي وقع فيها رائحة المعجزة وقد قتل الله بأيديهم أئمة الكفر ورءوسه من قريش فرأس في قريش أبو سفيان بن حرب بعد ذهاب أشرافهم في بدر فأخذ يؤلب على المسلمين لأخذ الثأر وكانت القافلة التي تحمل متاجر قريش قد نجت فلم تقع في أيدي المسلمين ; فتآمر المشركون على رصد ما فيها من أموال لحرب المسلمين وقد جمع أبو سفيان قريبا من ثلاثة آلاف من قريش وأحلافهم والأحابيش وخرج بهم في شوال من السنة الثالثة للهجرة ; وجاءوا معهم بنسائهم ليحاموا عنهن ولا يفروا ثم أقبل بهم نحو المدينة فنزل قريبا من جبل أحد واستشار رسول الله ص أصحابه أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها ; فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي رأس المنافقين فبادرت جماعة كبيرة من الصحابة ومعظمهم من الشبان ممن فاتهم يوم بدر فأشاروا عليه بالخروج وألحوا عليه في ذلك حتى بدا أن هذا هو الرأي السائد في الجماعة فنهض ص ودخل بيته بيت عائشة رضي الله عنها ولبس لأمته وخرج عليهم وقد انثنى عزم أولئك وقالوا أكرهنا رسول الله ص على الخروج فقالوا يا رسول الله إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل فقال رسول الله ص < ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه > وألقى عليهم بذلك درسا نبويا عاليا ; فللشورى وقتها حتى إذا انتهت جاء وقت العزم والمضي والتوكل على الله ولم يعد هناك مجال للتردد وإعادة الشورى والتأرجح بين الآراء إنما تمضي الأمور لغاياتها ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء وكان رسول الله ص قد رأى في منامه أن في سيفه ثلمة ورأى أن بقرا تذبح وأنه أدخل يده في درع حصينة فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون وتأول الدرع بالمدينة وكان إذن يرى عاقبة المعركة ولكنه في الوقت ذاته كان يمضي نظام الشورى ونظام الحركة بعد الشورى لقد كان يربي أمة والأمم تربي بالأحداث وبرصيد التجارب الذي تتمخض عنه الأحداث ثم لقد كان يمضي قدر الله الذي تستقر عليه مشاعره ويستقر عليه قلبه فيمضي وفق مواقع هذا القدر كما يحسها في قلبه الموصول وخرج رسول الله ص في ألف من أصحابه واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة فلما صار بين المدينة وأحد انعزل رأس النفاق عبد الله بن أبي بنحو ثلث العسكر وقال يخالفني ويسمع للفتية فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يوبخهم ويحضهم على الرجوع ويقول تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع فرجع عنهم وسبهم وسأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود فأبى ص فالمعركة هي معركة الإيمان والكفر فما ليهود بها والنصر من عند الله حين يصح التوكل عليه وتتجرد القلوب له وقال < من رجل يخرج بنا على القوم من كثب > فخرج به بعض الأنصار حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي وجعل ظهره إلى أحد ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم فلما أصبح تعبأ للقتال في سبعمائة فيهم خمسون فارسا واستعمل على الرماة وكانوا خمسين عبد الله ابن جبير وأمره وأصحابه أن يلزموا مركزهم وألا يفارقوه ولو رأوا الطير تتخطف العسكر وكانوا خلف الجيش وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم وظاهر رسول الله ص بين درعين وأعطى اللواء مصعب بن عمير وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام وعلى الأخرى المنذر بن عمرو واستعرض الشبان يومئذ فرد من استصغره عن القتال وكان منهم عبد الله بن عمرو وأسامة بن زيد وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب وزيد ابن أرقم وزيد بن ثابت وعرابة بن أوس وعمرو بن حزام وأجاز من رآه مطيقا وكان منهم سمرة بن جندب ورافع بن خديج ولهما خمس عشرة سنة وتعبأت قريش للقتال وهم في ثلاثة آلاف وفيهم مائتا فارس فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل ودفع رسول الله ص سيفه إلى أبي دجانة سماك بن خرشة وكان شجاعا بطلا يختال عند الحرب وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق وكان يسمى الراهب فسماه رسول الله ص الفاسق وكان رأس الأوس في الجاهلية فلما جاء الإسلام شرق به وجاهر رسول الله ص بالعداوة فخرج من المدينة وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله ص ويحضهم على قتاله ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه فكان أول من لقي المسلمين فنادى قومه وتعرف إليهم فقالوا له لا أنعم الله بك عينا يا فاسق فقال لقد أصاب قومي بعدي شر ثم قاتل المسلمين قتالا شديدا ولما نشب القتال أبلى أبو دجانة الأنصاري بلاء حسنا هو وطلحة بن عبيد الله وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب والنضر بن أنس وسعد بن الربيع وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار ; حيث قتل من هؤلاء سبعون من صناديدهم وانهزم أعداء الله وولوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم وحتى شمرت النساء ثيابهن عن أرجلهن هاربات فلم رأى الرماة هزيمة المشركين وانكشافهم تركوا مراكزهم التي أمرهم رسول الله ص ألا يبرحوها وقالوا يا قوم الغنيمة الغنيمة فذكرهم أميرهم عهد رسول الله ص فلم يسمعوا وظنوا أن ليس للمشركين رجعة فذهبوا في طلب الغنيمة وأخلوا الثغر في أحد عندئذ أدركها خالد فكر في خيل المشركين فوجدوا الثغر خاليا فاحتلوه من خلف ظهور المسلمين وأقبل المنهزمون من المشركين حين رأوا خالدا والفرسان قد علوا المسلمين فأحاطوا بهم وانقلبت المعركة فدارت الدائرة على المسلمين ووقع الهرج والمرج في الصف واستولى الاضطراب والذعر لهول المفاجأة التي لم يتوقعها أحد وكثر القتل واستشهد من المسلمين من كتب الله له الشهادة وخلص المشركون إلى رسول الله ص وقد أفرد إلا من نفر يعدون على الأصابع قاتلوا عنه حتى قتلوا وقد جرح وجهه ص وكسرت سنه الرباعية اليمنى في الفك الأسفل وهشمت البيضة على رأسه ورماه المشركون بالحجارة حتى وقع لجنبه وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق قد حفرها وغطاها يكيد بها المسلمين وغاصت حلقتان من حلق المغفر في وجنته وفي وسط هذا الهول المحيط بالمسلمين صاح صائح أن محمد قتل فكانت الطامة التي هدت ما بقي من قواهم فانقلبوا على أعقابهم مهزومين هزيمة منكرة لا يحاولون قتالا مما أصابهم من اليأس والكلال ولما انهزم الناس لم ينهزم أنس بن النضر رضي الله عنه وقد انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا بأيديهم فقال ما يجلسكم فقالوا قتل رسول الله ص فقال فما تصنعون بالحياة بعده فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ص ثم استقبل المشركين ولقي سعد بن معاذ فقال يا سعد واها لريح الجنة إني أجدها من دون أحد فقاتل حتى قتل ووجد به بضع وسبعون ضربة ولم تعرفه إلا أخته عرفته ببنانه وأقبل رسول الله ص نحو المسلمين وكان أول من عرفه تحت المغفر كعب بن مالك فصاح بأعلى صوته يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله ص فأشار بيده أن اسكت واجتمع إليه المسلمون ونهضوا معه إلى الشعب وفيهم أبو بكر وعمر والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم فلما امتدوا صعودا في الجبل أدرك رسول الله ص أبي بن خلف على جواد له اسمه العود كان يطعمه في مكة ويقول أقتل عليه محمدا فلما سمع بذلك رسول الله ص قال بل أنا أقتله إن شاء الله فلما أدركه تناول ص الحربة من الحارث وطعن بها عدو الله في ترقوته فذهب يخور كالثور وقد أيقن أنه مقتول كما قال رسول الله ص من قبل ومات بالفعل في طريق عودته وأشرف أبو سفيان على الجبل فنادى أفيكم محمد فقال رسول الله ص لا تجيبوه فقال أفيكم ابن أبي قحافة فلم يجيبوه فقال أفيكم عمر بن الخطاب فلم يجيبوه ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة فقال مخاطبا قومه أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه أن قال يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء وقد أبقى الله لك ما يسوؤك فقال قد كان في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني يشير بذلك إلى ما صنعته زوجه هند بجثمان حمزة رضي الله عنه بعد أن قتله وحشي حين بقرت بطنه واستخرجت كبده فلاكتها ثم لفظتها ثم قال اعل هبل فقال رسول الله ص ألا تجيبونه قالوا بماذا نجيبه قال قولوا الله أعلى وأجل قال لنا العزى ولا عزى لكم قال رسول الله ص ألا تجيبونه قالوا بماذا نجيبه قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم قال أبو سفيان يوم بيوم بدر والحرب سجال فقال عمر رضي الله عنه لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ولما انقضت المعركة انصرف المشركون فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لسبي الذراري وإحراز الأموال فشق ذلك عليهم فقال النبي ص لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه < أخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة وإن كانوا ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة فوالذي نفسي بيده لو أرادوها لأسيرن إليهم ثم لأناجزهم فيها > قال علي فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا مكة فلما كانوا في بعض الطريق تلاوموا فيما بينهم وقال بعضهم لم تصنعوا شيئا أصبتم شوكتهم وحدهم ثم تركتموهم وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم فبلغ ذلك رسول الله ص فنادى في الناس وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم وقال < لا يخرج معنا إلا من شهد القتال > فقال له عبد الله بن أبي أركب معك قال < لا > فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف ; وقالوا سمعا وطاعة وأستأذنه جابر بن عبد الله وقال يا رسول الله إني أحب ألا تشهد مشهدا إلا كنت معك وإنما خلفني أبي على بناته يوم أحد فأذن لي أسير معك فأذن له فسار رسول الله ص والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد ; وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله ص فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذله فلحقه بالروحاء ولم يعلم بإسلامه فقال وما وراءك يا معبد فقال محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم فقال ما تقول فقال ما أرى أن ترتحل حتى يطلع الجيش وراء هذه الأكمة فقال أبو سفيان والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم قال فلا تفعل فإني لك ناصح فرجعوا على أعقابهم إلى مكة ولقي أبو سفيان بعض المشركين يريدون المدينة ; فقال هل لك أن تبلغ محمدا رسالة وأوقر لك راحلتك زبيبا إذا أتيت إلى مكة قال نعم قال أبلغ محمدا أنا قد جمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه فلما بلغهم قوله قالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ولم يفت ذلك في عضدهم وأقاموا ثلاثة أيام ينتظرون ثم عرفوا أن المشركين أبعدوا في طريقهم إلى مكة منصرفين فعادوا إلى المدينة وبعد فإن هذا الملخص لأحداث الغزوة لا يصور كل جوانبها ولا يسجل كل ما وقع فيها مما هو موضع المثل والعبرة ومن ثم نذكر بعض الوقائع الموحية تكملة لرسم الجو واستحيائه كان عمرو ابن قميئة من المشركين الذين خلصوا إلى رسول الله ص حين أفرد في فترة اضطراب المعركة عقب تخلي الرماة عن أماكنهم وإحاطة الكفار بالمسلمين والصيحة بأن محمدا قتل وما صنعته في صفوف المسلمين وعزائمهم وفي هذه الغمرة التي يطيش فيها الحليم كانت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية تقاتل عن رسول الله ص قتالا شديدا وقد ضربت عمر بن قميئة بسيفها ضربات عدة ولكن وقته درعان كانتا عليه وضربها هو بالسيف فجرحها جرحا شديدا على عاتقها وكان أبو دجانة يترس بظهره على النبي ص والنبل يقع فيه وهو لا يتحرك ولا يكشف رسول الله ص وكان طلحة بن عبيد الله يثوب سريعا إلى رسول الله ص ويقف دونه وحده حتى يصرع في صحيح ابن حبان عن عائشة قالت قال أبو بكر الصديق لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي ص فكنت أول من فاء إلى النبي ص فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه ويحميه قلت كن طلحة فداك أبي وأمي كن طلحة فداك أبي وأمي فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني فدفعنا إلى النبي ص فإذا طلحة بين يديه صريعا فقال ص < دونكم أخاكم فقد أوجب > وقد رمي النبي ص في وجنته حتى غابت حلقة من حلق المغفر في وجنته فذهبت لأنزعها عن النبي ص فقال أبو عبيدة نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني قال فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه فجعل ينضنضه كراهة أن يؤذي رسول الله ص ثم استل السهم بفيه فندرت ثنية أبي عبيدة قال أبو بكر ثم ذهبت لآخذ الآخر فقال أبو عبيدة نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني قال فأخذه فجعل ينضنضه حتى استله فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى ثم قال رسول الله ص < دونكم أخاكم فقد أوجب > قال فأقبلنا على طلحة نعالجه وقد أصابته بضع عشرة ضربة وجاء علي كرم الله وجهه بالماء لغسل جرح رسول الله ص فكان يصب الماء على الجرح وفاطمة رضي الله عنها تغسله فلما رأت أن الدم لا يكف أخذت قطعة من حصير فأحرقتها فألصقتها بالجرح فاستمسك الدم وقد مص مالك والد أبي سعيد الخدري جرح رسول الله ص حتى أنقاه فقال له مجه فقال والله لا أمجه أبدا ثم ذهب فقال النبي ص < من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا > وفي صحيح مسلم أنه ص أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فلما رهقوه قال < من يردهم عني وله الجنة > فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم رهقوه فقال < من يردهم عني فله الجنة وهو رفيقي في الجنة > فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة فقال رسول الله ص < ما انصفنا أصحابنا > ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه وترس عليه أبو دجانة بظهره كما أسلفنا حتى انجلت الكربة وقد بلغ الإعياء برسول الله ص أنه وهو يصعد الجبل والمشركون يتبعونه أراد أن يعلو صخرة فلم يستطع لما به فجلس طلحة تحته حتى صعدها وحانت الصلاة فصلى بهم جالسا ومن أحداث هذا اليوم كذلك إن حنظلة الأنصاري الملقب بحنظلة الغسيل شد على أبي سفيان فلما تمكن منه حمل على حنظلة شداد ابن الأسود فقتله وكان جنبا فإنه لما سمع صيحة الحرب وهو مع امرأته قام من فوره إلى الجهاد فأخبر رسول الله ص أصحابه أن الملائكة تغسله ثم قال سلوا أهله ما شأنه فسألوا امرأته فأخبرتهم الخبر وقال زيد بن ثابت بعثني رسول الله ص يوم أحد أطلب سعد بن الربيع قال فجعلت أطوف بين القتلى فأتيته وهو بآخر رمق وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم فقلت يا سعد إن رسول الله ص يقرأ عليك السلام ويقول لك أخبرني كيف تجدك فقال وعلى رسول الله ص السلام قل له يا رسول الله أجد ريح الجنة وقل لقومي الأنصار لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله ص وفيكم عين تطرف وفاضت نفسه من وقته ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل فقال الأنصاري إن كان محمد قد قتل فقد بلغ فقاتلوا عن دينكم وقال عبد الله بن عمرو بن حرام رأيت في النوم قبل أحد مبشر بن عبد المنذر يقول لي أنت قادم علينا في أيام فقلت وأين أنت فقال في الجنة نسرح فيها حيث نشاء قلت له ألم تقتل يوم بدر فقال بلى ثم أحييت فذكرت ذلك لرسول الله ص فقال < هذه الشهادة يا أبا جابر > وقال خيثمة وكان ابنه قد استشهد مع رسول الله ص يوم بدر لقد أخطأتني وقعة بدر وكنت والله عليها حريصا حتى ساهمت إبني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها يقول الحق بنا ترافقنا في الجنة فقد وجدت ما وعدني ربي حقا وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة وقد كبرت سني ورق عظمي وأحببت لقاء ربي فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة فدعا له رسول الله ص بذلك فقتل بأحد شهيدا وقال عبد الله بن جحش في ذلك اليوم اللهم إني أقسم عليك أن القي العدو غدا فيقتلوني ثم يبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني ثم تسألني فيم ذلك فأقول فيك وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله ص إذا غزا فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه فقال له بنوه إن الله قد جعل لك رخصة فلو قعدت ونحن نكفيك وقد وضع الله عنك الجهاد فأتى عمرو بن الجموح رسول الله ص فقال يا رسول الله إن بني هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك والله إني لأرجو أن استشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة فقال له رسول الله ص < أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد > وقال لبنيه < وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة > فخرج مع رسول الله ص فقتل يوم أحد شهيدا وفي مضطرب المعركة نظر حذيفة بن اليمان إلى أبيه والمسلمون يريدون قتله لا يعرفونه وهم يظنونه من المشركين فقال حذيفة أي عباد الله أبي فلم يفهموا قوله حتى قتلوه فقال يغفر الله لكم فأراد رسول الله ص أن يؤدي ديته فقال حذيفة قد تصدقت بديته على المسلمين فزاد ذلك حذيفة خيرا عند رسول الله وقال وحشي غلام جبير بن مطعم يصف مصرع حمزة سيد الشهداء في هذه الغزوة قال لي جبير إن قتلت حمزة عم محمد فأنت عتيق قال فخرجت مع الناس وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قلما أخطئ بها شيئا فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة واتبصره حتى رأيته كأنه الجمل الأورق يهد الناس بسيفه هدا ما يقوم له شيء فوالله إني لأتهيأ له أريده وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو مني إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى فلما رآه حمزة ضربه ضربة كأنما اختطف رأسه فهززت حربتي حتى إذا رضيت عنها دفعتها عليه فوقعت في ثنته أحشائه حتى خرجت من بين رجليه وذهب لينوء نحوي فغلب وتركته وإياها حتى مات ثم أتيته فأخذت حربتي ورجعت إلى المعسكر فقعدت فيه إذ لم تكن لي بغيره حاجة إنما قتلت لأعتق وقد جاءت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان فبقرت بطن حمزة وأخرجت كبده ولاكتها فلم تقدر عليها فألقتها ولما وقف رسول الله ص بعد المعركة على جثمان حمزة رضي الله عنه تأثر تأثرا شديدا وقال ص < لن أصاب بمثلك أبدا وما وقفت قط موقفا أغيظ إلي من هذا > ثم قال رسول الله ص < أكلت شيئا > قالوا لا قال < ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة في النار > وقد أمر رسول الله ص أن يدفن شهداء أحد في مصارعهم ولا ينقلوا إلى مقابر المدينة وكان بعض الصحابة قد نقلوا قتلاهم فنادى منادي رسول الله ص برد القتلى إلى مصارعهم فردوا ووقف صلوات الله وسلامه عليه يدفن الرجلين والثلاثة في اللحد الواحد وكان يسأل أيهم أكثر أخذا في القرآن فإذا أشاروا إلى رجل قدمه في اللحد ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة فقال < ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد > معالجة القرآن لأحداث الغزوة هذه بعض اللقطات من المعركة التي تجاور فيها النصر والهزيمة لا تفرق بينهما إلا لحظة من الزمان وإلا مخالفة عن الأمر وإلا حركة من الهوى وإلا لفتة من الشهوة والتي تجاورت فيها القيم العالية والسفوح الهابطة والنماذج الفريدة في تاريخ الإيمان والبطولة وفي تاريخ النفاق والهزيمة وهي مجموعة تكشف عن حالة من عدم التناسق في الصف حينذاك كما تكشف عن حالة من الغبش في تصورات بعض المسلمين وهذه وتلك انشأت وفق سنة الله وقدره هذه النتائج التي ذاقها المسلمون ; وهذه التضحيات الجسام التي تتراءى على قمتها تلك التي أصابت رسول الله ص والتي لا شك أن الصحابة حين ذاك كانوا يحسونها بعمق وعنف ويرونها أشد ما نالهم من الآلام وقد دفعوا الثمن غاليا ليتلقوا الدرس عاليا وليمحص الله القلوب ويميز الصفوف وليعد الجماعة المسلمة للمهمة العظمى التي ناطها بها مهمة القيادة الراشدة للبشرية وإقرار منهج الله في الأرض في صورته المثالية الواقعية فلننظر إذن كيف عالج القرآن الكريم الموقف بطريقة القرآن إن النص القرآني لا يتتبع أحداث المعركة للرواية والعرض ; ولكنه يتتبع دخائل النفوس وخوالج القلوب ; ويتخذ من الأحداث مادة تنبيه وتنوير وتوجيه وهو لا يعرض الحوادث عرضا تاريخيا مسلسلا بقصد التسجيل ; إنما هو يعرضها للعبرة والتربية واستخلاص القيم الكامنة وراء الحوادث ; ورسم سمات النفوس وخلجات القلوب وتصوير الجو الذي صاحبها ; والسنن الكونية التي تحكمها ; والمبادىء الباقية التي تقررها وبذلك تستحيل الحادثة محورا أو نقطة ارتكاز لثروة ضخمة من المشاعر والسمات والنتائج والاستدلالات يبدأ السياق منها ; ثم يستطرد حولها ; ثم يعود إليها ; ثم يجول في أعماق الضمائر وفي أغوار الحياة ; ويكرر هذا مرة بعد مرة حتى ينتهي برواية الحادث إلى نهايتها وقد ضم جناحيه على حفل من المعاني والدلائل والقيم والمبادىء لم تكن رواية الحادث إلا وسيلة إليها ونقطة ارتكاز تتجمع حواليها وحتى يكون قد تناول ملابسات الحادث وعقابيله في الضمائر فجلاها ونقاها وأراحها في مواضعها فلا تجد النفس منها حيرة ولا قلقا ولا تحس فيها لبسا ولا دخلا وينظر الإنسان في رقعة المعركة وما وقع فيها على سعته وتنوعه ثم ينظر إلى رقعه التعقيب القرآني وما تناوله من جوانب ; فإذا هذه الرقعة أوسع من تلك وأبقى على الزمن وألصق بالقلوب وأعمق في النفوس وأقدر على تلبية حاجات النفس البشرية وحاجات الجماعة الإسلامية في كل موقف تتعرض له في هذا المجال على تتابع الأجيال فهي تتضمن الحقائق الباقية من وراء الأحداث الزائلة والمبادىء المطلقة من وراء الحوادث المفردة والقيم الأصيلة من وراء الظواهر العارضة والرصيد الصالح للتزود بغض النظر عن اعتبارات الزمان والمكان وهذه الحصيلة الباقية تدخرها النصوص القرآنية لكل قلب يتفتح بالإيمان في أي زمان وفي أي مكان وسنعرض لها متجمعة إن شاء الله بعد استعراضها متفرقة في النصوص معالجة القرآن لأحداث غزوة أحد

    الدرس الأول الخروج إلى أحد

    وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون هكذا يبدأ باستعادة المشهد الأول للمعركة واستحضاره وقد كان قريبا من نفوس المخاطبين الأولين بهذا القرآن ومن ذاكرتهم ولكن ابتداء الحديث على هذا النحو واستحضار المشهد الأول بهذا النص من شأنه أن يعيد المشهد بكل حرارته وبكل حيويته ; وأن يضيف إليه ما وراء المشهد المنظور الذي يعرفونه من حقائق أخرى لا يتضمنها المشهد المنظور وأولها حقيقة حضور الله سبحانه معهم وسمعه وعلمه بكل ما كان وما دار بينهم وهي الحقيقة التي تحرص التربية القرآنية على استحضارها وتقريرها وتوكيدها وتعميقها في التصور الإسلامي وهي هي الحقيقة الأساسية الكبيرة التي أقام عليها الإسلام منهجه التربوي والتي لا يستقيم ضمير على المنهج الإسلامي بكل تكاليفه إلا أن تستقر فيه هذه الحقيقة بكل قوتها وبكل حيويتها كذلك وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم والإشارة هنا إلى غدو النبي ص من بيت عائشة رضي الله عنها وقد لبس لأمته ودرعه ; بعد التشاور في الأمر وما انتهى إليه من عزم على الخروج من المدينة للقاء المشركين خارجها وما أعقب هذا من تنظيم الرسول ص للصفوف ومن أمر للرماة باتخاذ موقفهم على الجبل وهو مشهد يعرفونه وموقف يتذكرونه ولكن الحقيقة الجديدة فيه هي هذه والله سميع عليم ويا له من مشهد الله حاضره ويا له من موقف الله شاهده ويا لها من رهبة إذن ومن روعة تحف به وتخالط كل ما دار فيه من تشاور والسرائر مكشوفة فيه لله وهو يسمع ما تقوله الألسنة ويعلم ما تهمس به الضمائر واللمسة الثانية في هذا المشهد الأول هي حركة الضعف والفشل التي راودت قلوب طائفتين من المسلمين ; بعد تلك الحركة الخائنة التي قام بها رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول حين انفصل بثلث الجيش مغضبا أن الرسول ص لم يأخذ برأيه واستمع إلى شباب أهل المدينة وقال لو نعلم قتالا لاتبعناكم فدل بهذا على أن قلبه لم يخلص للعقيدة ; وأن شخصه ما يزال يملأ قلبه ويطغى في ذلك القلب على العقيدة العقيدة التي لا تحتمل شركة في قلب صاحبها ولا تطيق لها فيه شريكا فإما أن يخلص لها وحدها وإما أن تجانبه هي وتجتويه إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون وهاتان الطائفتان كما ورد في الصحيح من حديث سفيان بن عيينة هما بنو حارثة وبنو سلمة أثرت فيهما حركة عبد الله بن أبي وما أحدثته من رجة في الصف المسلم من أول خطوة في المعركة فكادتا تفشلان وتضعفان لولا أن أدركتهما ولاية الله وتثبيته كما أخبر هذا النص القرآني والله وليهما قال عمر رضي الله عنه سمعت جابر بن عبد الله يقول فينا نزلت إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا قال نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما نحب أو وما يسرني أنها لم تنزل لقوله تعالى والله وليهما رواه البخاري ومسلم وهكذا يكشف الله المخبوء في مكنونات الضمائر ; والذي لم يعلمه إلا أهله حين حاك في صدورهم لحظة ; ثم وقاهم الله إياه وصرفه عنهم وأيدهم بولايته فمضوا في الصف يكشفه لاستعادة أحداث المعركة واستحياء وقائعها ومشاهدها ثم لتصوير خلجات النفوس وإشعار أهلها حضور الله معهم وعلمه بمكنونات ضمائرهم كما قال لهم والله سميع عليم لتوكيد هذه الحقيقة وتعميقها في حسهم ثم لتعريفهم كيف كانت النجاة ; وإشعارهم عون الله وولايته ورعايته حين يدركهم الضعف ويدب فيهم الفشل ليعرفوا أين يتوجهون حين يستشعرون شيئا من هذا وأين يلتجئون ومن ثم يوجههم هذا الوجه الذي لا وجه غيره للمؤمنين وعلى الله فليتوكل المؤمنون على وجه القصر والحصر على الله وحده فليتوكل المؤمنون فليس لهم إن كانوا مؤمنين إلا هذا السند المتين وهكذا نجد في الآيتين الأوليين اللتين يستحضر بهما القرآن مشهد المعركة وجوها هذين التوجيهين الكبيرين الأساسيين في التصور الإسلامي وفي التربية الإسلامية والله سميع عليم وعلى الله فليتوكل المؤمنون نجدهما في أوانهما المناسب وفي جوهما المناسب ; حيث يلقيان كل إيقاعاتهما وكل إيحاءاتهما في الموعد المناسب ; وقد تهيأت القلوب للتلقي والاستجابة والانطباع ويتبين من هذين النصين التمهيديين كيف يتولى القرآن استحياء القلوب وتوجيهها وتربيتها ; بالتعقيب على الأحداث وهي ساخنة ويتبين الفرق بين رواية القرآن للأحداث وتوجيهها وبين سائر المصادر التي قد تروي الأحداث بتفصيل أكثر ; ولكنها لا تستهدف القلب البشري والحياة البشرية بالإحياء والاستجاشة وبالتربية والتوجيه كما يستهدفها القرآن الكريم بمنهجه القويم

    الدرس الثاني تذكير بمعجزة النصر في بدر

    هكذا يبدأ الحديث عن المعركة التي لم ينتصر فيها المسلمون وقد كادوا وهي قد بدأت بتغليب الاعتبارات الشخصية على العقيدة عند المنافق عبد الله بن أبي ; وتابعه في حركته أتباعه الذين غلبوا اعتباره الشخصي على عقيدتهم وبالضعف الذي كاد يدرك طائفتين صالحتين من المسلمين ثم انتهت بالمخالفة عن الخطة العسكرية تحت مطارق الطمع في الغنيمة فلم تغن النماذج العالية التي تجلت في المعركة عن المصير الذي انتهت إليه بسبب ذلك الخلل في الصف وبسبب ذلك الغبش في التصور وقبل أن يمضي في الاستعراض والتعقيب على أحداث المعركة التي انتهت بالهزيمة يذكرهم بالمعركة التي انتهت بالنصر معركة بدر لتكون هذه أمام تلك مجالا للموازنة وتأمل الأسباب والنتائج ; ومعرفة مواطن الضعف ومواطن القوة وأسباب النصر وأسباب الهزيمة ثم بعد ذلك ليكون اليقين من أن النصر والهزيمة كليهما قدر من أقدار الله ; لحكمة تتحقق من وراء النصر كما تتحقق من وراء الهزيمة سواء وأن مرد الأمر في النهاية إلى الله على كلا الحالين وفي جميع الأحوال ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم والنصر في بدر كان فيه رائحة المعجزة كما أسلفنا فقد تم بغير أداة من الأدوات المادية المألوفة للنصر لم تكن الكفتان فيها بين المؤمنين والمشركين متوازنتين ولا قريبتين من التوازن كان المشركون حوالي ألف خرجوا نفيرا لاستغاثة أبي سفيان لحماية القافلة التي كانت معه مزودين بالعدة والعتاد والحرص على الأموال والحمية للكرامة وكان المسلمون حوالي ثلاثمائة لم يخرجوا لقتال هذه الطائفة ذات الشوكة إنما خرجوا لرحلة هينة لمقابلة القافلة العزلاء وأخذ الطريق عليها ; فلم يكن معهم على قلة العدد إلا القليل من العدة وكان وراءهم في المدينة مشركون لا تزال لهم قوتهم ومنافقون لهم مكانتهم ويهود يتربصون بهم وكانوا هم بعد ذلك كله قلة مسلمة في وسط خضم من الكفر والشرك في الجزيرة ولم تكن قد زالت عنهم بعد صفة أنهم مهاجرون مطاردون من مكة وأنصار آووا هؤلاء المهاجرين ولكنهم ما يزالون نبته غير مستقرة في هذه البيئة فبهذا كله يذكرهم الله سبحانه ويرد ذلك النصر إلى سببه الأول في وسط هذه الظروف ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إن الله هو الذي نصرهم ; ونصرهم لحكمة نص عليها في مجموعة هذه الآيات وهم لا ناصر لهم من أنفسهم ولا من سواهم فإذا اتقوا وخافوا فليتقوا وليخافوا الله الذي يملك النصر والهزيمة ; والذي يملك القوة وحده والسلطان فلعل التقوى أن تقودهم إلى الشكر ; وأن تجعله شكرا وافيا لائقا بنعمة الله عليهم على كل حال هذه هي اللمسة الأولى في تذكيرهم بالنصر في بدر ثم يستحضر مشهدها ويستحيي صورتها في حسهم كأنهم اللحظة فيها إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وكانت هذه كلمات رسول الله ص يوم بدر للقلة المسلمة التي خرجت معه ; والتي رأت نفير المشركين وهي خرجت لتلقى طائفة العير الموقرة بالمتاجر لا لتلقى طائفة النفير الموقرة بالسلاح وقد أبلغهم الرسول ص ما بلغه يومها ربه لتثبيت قلوبهم وأقدامهم وهم بشر يحتاجون إلى العون في صورة قريبة من مشاعرهم وتصوراتهم ومألوفاتهم وأبلغهم كذلك شرط هذا المدد إنه الصبر والتقوى ; الصبر على تلقي صدمة الهجوم والتقوى التي تربط القلب بالله في النصر والهزيمة بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين فالأن يعلمهم الله أن مرد الأمر كله إليه وأن الفاعلية كلها منه سبحانه وأن نزول الملائكة ليس إلا بشرى لقلوبهم ; لتأنس بهذا وتستبشر وتطمئن به وتثبت أما النصر فمنه مباشرة ومتعلق بقدره وإرادته بلا واسطة ولا سبب ولا وسيلة ما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم وهكذا يحرص السياق القرآني على رد الأمر كله إلى الله كي لا يعلق بتصور المسلم ما يشوب هذه القاعدة الأصيلة قاعدة رد الأمر جملة إلى مشيئة الله الطليقة وإرادته الفاعلة وقدره المباشر وتنحية الأسباب والوسائل عن أن تكون هي الفاعلة وإنما هي أداة تحركها المشيئة وتحقق بها ما تريده وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم وقد حرص القرآن الكريم على تقرير هذه القاعدة في التصور الإسلامي وعلى تنقيتها من كل شائبة وعلى تنحيه الأسباب الظاهرة والوسائل والأدوات عن أن تكون هي الفاعلة لتبقى الصلة المباشرة بين العبد والرب بين قلب المؤمن وقدر الله بلا حواجز ولا عوائق ولا وسائل ولا وسائط كما هي في عالم الحقيقة وبمثل هذه التوجيهات المكررة في القرآن المؤكدة بشتى أساليب التوكيد استقرت هذه الحقيقة في أخلاد المسلمين على نحو بديع هادىء عميق مستنير عرفوا أن الله هو الفاعل وحده وعرفوا كذلك أنهم مأمورون من قبل الله باتخاذ الوسائل والأسباب وبذل الجهد والوفاء بالتكاليف فاستيقنوا الحقيقة وأطاعوا الأمر في توازن شعوري وحركي عجيب ولكن هذا إنما جاء مع الزمن ومع الأحداث ومع التربية بالأحداث والتربية بالتعقيب على الأحداث كهذا التعقيب ونظائره الكثيرة في هذه السورة وفي هذه الآيات يستحضر مشهد بدر والرسول ص يعدهم الملائكة مددا من عند الله ; إذا هم استمسكوا بالصبر والتقوى والثبات في المعركة حين يطلع المشركون عليهم من وجههم هذا ثم يخبرهم بحقيقة المصدر الفاعل من وراء نزول الملائكة وهو الله الذي تتعلق الأمور كلها بإرادته ويتحقق النصر بفعله وإذنه الله العزيز الحكيم فهو العزيز القوي ذو السلطان القادر على تحقيق النصر وهو الحكيم الذي يجري قدره وفق حكمته والذي يحقق هذا النصر ليحقق من ورائه حكمة ثم يبين حكمة هذا النصر أي نصر وغاياته التي ليس لأحد من البشر منها شيء ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون إن النصر من عند الله لتحقيق قدر الله وليس للرسول ص ولا للمجاهدين معه في النصر من غاية ذاتية ولا نصيب شخصي كما أنه ليس له ولا لهم دخل في تحقيقه وإن هم إلا ستار القدرة تحقق بهم ما تشاء فلا هم أسباب هذا النصر وصانعوه ; ولا هم أصحاب هذا النصر ومستغلوه إنما هو قدر الله يتحقق بحركة رجاله وبالتأييد من عنده لتحقيق حكمة الله من ورائه وقصده ليقطع طرفا من الذين كفروا فينقص من عددهم بالقتل أو ينقص من أرضهم بالفتح أو ينقص من سلطانهم بالقهر أو ينقص من أموالهم بالغنيمة أو ينقص من فاعليتهم في الأرض بالهزيمة أو يكبتهم فينقلبوا خائبين أي يصرفهم مهزومين أذلاء فيعودوا خائبين مقهورين أو يتوب عليهم فإن انتصار المسلمين قد يكون للكافرين عظة وعبرة وقد يقودهم إلى الإيمان والتسليم فيتوب الله عليهم من كفرهم ويختم لهم بالإسلام والهداية أو يعذبهم فإنهم ظالمون يعذبهم بنصر المسلمين عليهم أو بأسرهم أو بموتهم على الكفر الذي ينتهي بهم إلى العذاب جزاء لهم على ظلمهم بالكفر وظلمهم بفتنة المسلمين وظلمهم بالفساد في الأرض وظلمهم بمقاومة الصلاح الذي يمثله منهج الإسلام للحياة وشريعته ونظامه إلى آخر صنوف الظلم الكامنة في الكفر والصد عن سبيل الله وعلى أية حال فهي حكمة الله وليس لبشر منها شيء حتى رسول الله ص يخرجه النص من مجال هذا الأمر ليجرده لله وحده سبحانه فهو شأن الألوهية المتفردة بلا شريك بذلك ينسلخ المسلمون بأشخاصهم من هذا النصر من أسبابه ومن نتائجه وبذلك يطامنون من الكبر الذي يثيره النصر في نفوس المنتصرين ومن البطر والعجب والزهو الذي تنتفخ به أرواحهم وأوداجهم وبذلك يشعرون أن ليس لهم من الأمر شيء إنما الأمر كله لله أولا وأخيرا وبذلك يرد أمر الناس طائعهم وعاصيهم إلى الله فهذا الشأن شأن الله وحده سبحانه شأن هذه الدعوة وشأن هؤلاء الناس معها طائعهم وعاصيهم سواء وليس للنبي ص وليس للمؤمننين معه إلا أن يؤدوا دورهم ثم ينفضوا أيديهم من النتائج وأجرهم من الله على الوفاء وعلى الولاء وعلى الأداء وملابسة أخرى في السياق اقتضت هذا التنصيص ليس لك من الأمر شيء فسيرد في السياق قول بعضهم هل لنا من الأمر من شيء وقولهم لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا ليقول لهم إن أحدا ليس له من الأمر من شيء لا في نصر ولا في هزيمة إنما الطاعة والوفاء والأداء هي المطلوبة من الناس وأما الأمر بعد ذلك فكله لله ليس لأحد منه شيء ولا حتى لرسول الله فهي الحقيقة الأصيلة في التصور الإسلامي وإقرارها في النفوس أكبر من الأشخاص وأكبر من الأحداث وأكبر من شتى الاعتبارات ويختم هذا التذكير ببدر وهذا التقرير للحقائق الأصيلة في التصور بالحقيقة الشاملة التي ترجع إليها حقيقة أن أمر النصر والهزيمة مرده إلى حكمة الله وقدره يختم هذا التقرير بتقرير أصله الكبير وهو أن الأمر لله في الكون كله ومن ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وفق ما يشاء ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم فهي المشيئة المطلقة المستندة إلى الملكية المطلقة وهو التصرف المطلق في شأن العباد بحكم هذه الملكية لما في السماوات وما في الأرض وليس هنالك ظلم ولا محاباة للعباد في المغفرة أو في العذاب إنما يقضي الأمر في هذا الشأن بالحكمة والعدل وبالرحمة والمغفرة فشأنه سبحانه الرحمة والمغفرة والله غفور رحيم والباب مفتوح أمام العباد لينالوا مغفرته ورحمته بالعودة إليه ورد الأمر كله له وأداء الواجب المفروض وترك ما وراء ذلك لحكمته وقدره ومشيئته المطلقة من وراء الوسائل والأسباب

    الدرس الثالث تحريم الربا ودعوة إلى محاسن الأخلاق قبيل المعركة

    وقبل أن يدخل السياق في صميم الاستعراض للمعركة معركة أحد والتعقيبات على وقائعها وأحداثها تجيء التوجيهات المتعلقة بالمعركة الكبرى التي المعنا في مقدمة الحديث إليها المعركة في أعماق النفس وفي محيط الحياة يجيء الحديث عن الربا والمعاملات الربوية وعن تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله وعن الإنفاق في السراء والضراء والنظام التعاوني الكريم المقابل للنظام الربوي الملعون وعن كظم الغيظ والعفو عن الناس وإشاعة الحسنى في الجماعة وعن الاستغفار من الذنب والرجوع إلى الله وعدم الإصرار على الخطيئة يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين تجيء هذه التوجيهات كلها قبل الدخول في سياق المعركة الحربية ; لتشير إلى خاصية من خواص هذه العقيدة الوحدة والشمول في مواجهة هذه العقيدة للكينونة البشرية ونشاطها كله ; ورده كله إلى محور واحد محور العبادة لله والعبودية له والتوجه إليه بالأمر كله والوحدة والشمول في منهج الله وهيمنته على الكينونة البشرية في كل حال من أحوالها وفي كل شأن من شؤونها وفي كل جانب من جوانب نشاطها ثم تشير تلك التوجيهات بتجمعها هذا إلى الترابط بين كل الوان النشاط الإنساني ; وتأثير هذا الترابط في النتائج الأخيرة لسعي الإنسان كله كلما أسلفنا والمنهج الإسلامي يأخذ النفس من أقطارها وينظم حياة الجماعة جملة لا تفاريق ومن ثم هذا الجمع بين الإعداد والاستعداد للمعركة الحربية ; وبين تطهير النفوس ونظافة القلوب والسيطرة على الأهواء والشهوات وإشاعة الود والسماحة في الجماعة فكلها قريب من قريب وحين نستعرض بالتفصيل كل سمة من هذه السمات وكل توجيه من هذه التوجيهات يتبين لنا ارتباطها الوثيق بحياة الجماعة المسلمة وبكل مقدراتها في ميدان المعركة وفي سائر ميادين الحياة يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ولقد سبق الحديث عن الربا والنظام الربوي بالتفصيل في الجزء الثالث من هذه الظلال فلا نكرر الحديث عنه هنا ولكن نقف عند الأضعاف المضاعفة فإن قوما يريدون في هذا الزمان أن يتواروا خلف هذا النص ويتداروا به ليقولوا إن المحرم هو الأضعاف المضاعفة أما الأربعة في المائة والخمسة في المائة والسبعة والتسعة فليست أضعافا مضاعفة وليست داخلة في نطاق التحريم ونبدأ فنحسم القول بأن الأضعاف المضاعفة وصف لواقع وليست شرطا يتعلق به الحكم والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا بلا تحديد ولا تقييد وذروا ما بقي من الربا أيا كان فإذا انتهينا من تقرير المبدأ فرغنا لهذا الوصف لنقول إنه في الحقيقة ليس وصفا تاريخيا فقط للعمليات الربوية التي كانت واقعة في الجزيرة والتي قصد إليها النهي هنا بالذات إنما هو وصف ملازم للنظام الربوي المقيت أيا كان سعر الفائدة إن النظام الربوي معناه إقامة دورة المال كلها على هذه القاعدة ومعنى هذا أن العمليات الربوية ليست عمليات مفردة ولا بسيطة فهي عمليات متكررة من ناحية ومركبة من ناحية أخرى فهي تنشىء مع الزمن والتكرار والتركيب أضعافا مضاعفة بلا جدال إن النظام الربوي يحقق بطبيعته دائما هذا الوصف فليس هو مقصورا على العمليات التي كانت متبعة في جزيرة العرب إنما هو وصف ملازم للنظام في كل زمان ومن شأن هذا النظام أن يفسد الحياة النفسية والخلقية كما فصلنا ذلك في الجزء الثالث كما أن من شأنه أن يفسد الحياة الاقتصادية والسياسية كما فصلنا ذلك أيضا ومن ثم تتبين علاقته بحياة الأمة كلها وتأثيره في مصائرها جميعا والإسلام وهو ينشىء الأمة المسلمة كان يريد لها نظافة الحياة النفسية والخلقية كما كان يريد لها سلامة الحياة الاقتصادية والسياسية وأثر هذا وذاك في نتائج المعارك التي تخوضها الأمة معروف فالنهي عن أكل الربا في سياق التعقيب على المعركة الحربية أمر يبدو إذن مفهوما في هذا المنهج الشامل البصير أما التعقيب على هذا النهي بالأمر بتقوى الله رجاء الفلاح ; واتقاء النار التي أعدت للكافرين أما التعقيب بهاتين اللمستين فمفهوم كذلك ; وهو أنسب تعقيب إنه لا يأكل الربا إنسان يتقي الله ويخاف النار التي أعدت للكافرين ولا يأكل الربا إنسان يؤمن بالله ويعزل نفسه من صفوف الكافرين والإيمان ليس كلمة تقال باللسان ; إنما هو اتباع للمنهج الذي جعله الله ترجمة عملية واقعية لهذا الإيمان وجعل الإيمان مقدمة لتحقيقه في الحياة الواقعية وتكييف حياة المجتمع وفق مقتضياته ومحال أن يجتمع إيمان ونظام ربوي في مكان وحيثما قام النظام الربوي فهناك الخروج من هذا الدين جملة ; وهناك النار التي أعدت للكافرين والمماحكة في هذا الأمر لا تخرج عن كونها مماحكة والجمع في هذه الآيات بين النهي عن أكل الربا والدعوة إلى تقوى الله وإلى اتقاء النار التي أعدت للكافرين ليس عبثا ولا مصادفة إنما هو لتقرير هذه الحقيقة وتعميقها في تصورات المسلمين وكذلك رجاء الفلاح بترك الربا وبتقوى الله فالفلاح هو الثمرة الطبيعية للتقوى ولتحقيق منهج الله في حياة الناس ولقد سبق الحديث في الجزء الثالث عن فعل الربا بالمجتمعات البشرية وويلاته البشعة في حياة الإنسانية فلنرجع إلى هذا البيان هناك لندرك معنى الفلاح هنا واقترانه بترك النظام الربوي المقيت ثم يجيء التوكيد الأخير وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون وهو أمر عام بالطاعة لله والرسول وتعليق الرحمة بهذه الطاعة العامة ولكن للتعقيب به على النهي عن الربا دلالة خاصة هي أنه لا طاعة لله وللرسول في مجتمع يقوم على النظام الربوي ; ولا طاعة لله وللرسول في قلب يأكل الربا في صورة من صوره وهكذا يكون ذلك التعقيب توكيدا بعد توكيد وذلك فوق العلاقة الخاصة بين أحداث المعركة التي خولف فيها أمر رسول الله ص وبين الأمر بالطاعة لله وللرسول بوصفها وسيلة الفلاح وموضع الرجاء فيه ثم لقد سبق في سورة البقرة في الجزء الثالث أن رأينا السياق هناك يجمع بين الحديث عن الربا والحديث عن الصدقة بوصفهما الوجهين المتقابلين للعلاقات الاجتماعية في النظام الاقتصادي ; وبوصفهما السمتين البارزتين لنوعين متباينين من النظم النظام الربوي والنظام التعاوني فهنا كذلك نجد هذا الجمع في الحديث عن الربا والحديث عن الإنفاق في السراء والضراء فبعد النهي عن أكل الربا والتحذير من النار التي أعدت للكافرين والدعوة إلى التقوى رجاء الرحمة والفلاح بعد هذا يجيء الأمر بالمسارعة إلى المغفرة ; وإلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ثم يكون الوصف الأول للمتقين هو الذين ينفقون في السراء والضراء فهم الفريق المقابل للذين يأكلون الربا أضعافا مضاعفة ثم تجيء بقية الصفات والسمات وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون والتعبير هنا يصور أداء هذه الطاعات في صورة حسية حركية يصوره سباقا إلى هدف أو جائزة تنال وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض سارعوا فهي هناك المغفرة والجنة أعدت للمتقين ثم يأخذ في بيان صفات المتقين الذين ينفقون في السراء والضراء فهم ثابتون على البذل ماضون على النهج لا تغيرهم السراء ولا تغيرهم الضراء السراء لا تبطرهم فتلهيهم والضراء لا تضجرهم فتنسيهم إنما هو الشعور بالواجب في كل حال ; والتحرر من الشح والحرص ; ومراقبة الله وتقواه وما يدفع النفس الشحيحة بطبعها المحبة للمال بفطرتها ما يدفع النفس إلى الإنفاق في كل حال إلا دافع أقوى من شهوة المال وربقة الحرص وثقلة الشح دافع التقوى ذلك الشعور اللطيف العميق الذي تشف به الروح وتخلص وتنطلق من القيود والأغلال ولعل للتنويه بهذه الصفة مناسبة خاصة كذلك في جو هذه المعركة فنحن نرى الحديث عن الإنفاق يتكرر فيها كما نرى التنديد بالممتنعين والمانعين للبذل كما سيأتي في السياق القرآني مكررا كذلك مما يشير إلى ملابسات خاصة في جو الغزوة وموقف بعض الفئات من الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس كذلك تعمل التقوى في هذا الحقل بنفس البواعث ونفس المؤثرات فالغيظ انفعال بشري تصاحبه أو تلاحقه فورة في الدم ; فهو إحدى دفعات التكوين البشري وإحدى ضروراته وما يغلبه الإنسان إلا بتلك الشفافية اللطيفة المنبعثة من إشراق التقوى ; وإلا بتلك القوة الروحية المنبثقة من التطلع إلى أفق أعلى وأوسع من آفاق الذات والضرورات وكظم الغيظ هو المرحلة الأولى وهي وحدها لا تكفي فقد يكظم الإنسان غيظه ليحقد ويضطغن ; فيتحول الغيظ الفائر إلى إحنة غائرة ; ويتحول الغضب الظاهر إلى حقد دفين وإن الغيظ والغضب لأنظف وأطهر من الحقد والضغن لذلك يستمر النص ليقرر النهاية الطليقة لذلك الغيظ الكظيم في نفوس المتقين إنها العفو والسماحة والانطلاق إن الغيظ وقر على النفس حين تكظمه ; وشواظ يلفح القلب ; ودخان يغشى الضمير فأما حين تصفح النفس ويعفو القلب فهو الانطلاق من ذلك الوقر والرفرفة في آفاق النور والبرد في القلب والسلام في الضمير والله يحب المحسنين والذين يجودون بالمال في السراء والضراء محسنون والذين يجودون بالعفو والسماحة بعد الغيظ والكظم محسنون والله يحب المحسنين والحب هنا هو التعبير الودود الحاني المشرق المنير الذي يتناسق مع ذلك الجو اللطيف الوضيء الكريم ومن حب الله للإحسان وللمحسنين ينطلق حب الإحسان في قلوب أحبائه وتنبثق الرغبة الدافعة في هذه القلوب فليس هو مجرد التعبير الموحي ولكنها الحقيقة كذلك وراء التعبير والجماعة التي يحبها الله وتحب الله والتي تشيع فيها السماحة واليسر والطلاقة من الإحن والأضغان هي جماعة متضامة وجماعة متآخية وجماعة قوية ومن ثم علاقة هذا التوجيه بالمعركة في الميدان والمعركة في الحياة على السواء في هذا السياق ثم ننتقل إلى صفة أخرى من صفات المتقين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون يا لسماحة هذا الدين إن الله سبحانه لا يدعو الناس إلى السماحة فيما بينهم حتى يطلعهم على جانب من سماحته سبحانه وتعالى معهم ليتذوقوا ويتعلموا ويقتبسوا إن المتقين في أعلى مراتب المؤمنين ولكن سماحة هذا الدين ورحمته بالبشر تسلك في عداد المتقين الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم والفاحشة أبشع الذنوب وأكبرها ولكن سماحة هذا الدين لا تطرد من يهوون إليها من رحمة الله ولا تجعلهم في ذيل القافلة قافلة المؤمنين إنما ترتفع بهم إلى أعلى مرتبة مرتبة المتقين على شرط واحد شرط يكشف عن طبيعة هذا الدين ووجهته أن يذكروا الله فيستغفروا لذنوبهم وألا يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أنه الخطيئة وألا يتبجحوا بالمعصية في غير تحرج ولا حياء وبعبارة أخرى أن يكونوا في إطار العبودية لله والاستسلام له في النهاية فيظلوا في كنف الله وفي محيط عفوه ورحمته وفضله إن هذا الدين ليدرك ضعف هذا المخلوق البشري الذي تهبط به ثقلة الجسد أحيانا إلى درك الفاحشة وتهيج به فورة اللحم والدم فينزو نزوة الحيوان في حمى الشهوة وتدفعه نزواته وشهواته وأطماعه ورغباته إلى المخالفة عن أمر الله في حمى الاندفاع يدرك ضعفه هذا فلا يقسو عليه ولا يبادر إلى طرده من رحمة الله حين يظلم نفسه حين يرتكب الفاحشة المعصية الكبيرة وحسبه أن شعلة الإيمان ما تزال في روحه لم تنطفىء وأن نداوة الإيمان ما تزال في قلبه لم تجف وأن صلته بالله ما تزال حية لم تذبل وأنه يعرف أنه عبد يخطىء وأن له ربا يغفر وإذن فما يزال هذا المخلوق الضعيف الخاطىء المذنب بخير إنه سائر في الدرب لم ينقطع به الطريق ممسك بالعروة لم ينقطع به الحبل فليعثر ما شاء له ضعفه أن يعثر فهو واصل في النهاية ما دامت الشعلة معه والحبل في يده ما دام يذكر الله ولا ينساه ويستغفره ويقر بالعبودية له ولا يتبجح بمعصيته إنه لا يغلق في وجه هذا المخلوق الضعيف الضال باب التوبة ولا يلقيه منبوذا حائرا في التيه ولا يدعه مطرودا خائفا من المآب إنه يطمعه في المغفرة ويدله على الطريق ويأخذ بيده المرتعشة ويسند خطوته المتعثرة وينير له الطريق ليفيء إلى الحمى الآمن ويثوب إلى الكنف الأمين شيء واحد يتطلبه ألا يجف قلبه وتظلم روحه فينسى الله وما دام يذكر الله ما دام في روحه ذلك المشعل الهادي ما دام في ضميره ذلك الهاتف الحادي ما دام في قلبه ذلك الندى البليل فسيطلع النور في روحه من جديد وسيؤوب إلى الحمى الآمن من جديد وستنبت البذرة الهامدة من جديد إن طفلك الذي يخطىء ويعرف أن السوط لا سواه في الدار سيروح آبقا شاردا لا يثوب إلى الدار أبدا فأما إذا كان يعلم أن إلى جانب السوط يدا حانية تربت على ضعفه حين يعتذر من الذنب وتقبل عذره حين يستغفر من الخطيئة فإنه سيعود وهكذا يأخذ الإسلام هذا المخلوق البشري الضعيف في لحظات ضعفه فإنه يعلم أن فيه بجانب الضعف قوة وبجانب الثقلة رفرفة وبجانب النزوة الحيوانية أشواقا ربانية فهو يعطف عليه في لحظة الضعف ليأخذ بيده إلى مراقي الصعود ويربت عليه في لحظة العثرة ليحلق به إلى الأفق من جديد ما دام يذكر الله ولا ينساه ولا يصر على الخطيئة وهو يعلم أنها الخطيئة والرسول ص يقول < ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة > والإسلام لا يدعو بهذا إلى الترخص ولا يمجد العاثر الهابط ولا يهتف له بجمال المستنقع كما تهتف الواقعية إنما هو يقيل عثرة الضعف ليستجيش في النفس الإنسانية الرجاء كما يستجيش فيها الحياء فالمغفرة من الله ومن يغفر الذنوب إلا الله تخجل ولا تطمع وتثير الاستغفار ولا تثير الاستهتار فأما الذين يستهترون ويصرون فهم هنالك خارج الأسوار موصدة في وجوههم الأسوار وهكذا يجمع الإسلام بين الهتاف للبشرية إلى الآفاق العلى والرحمة بهذه البشرية التي يعلم طاقتها ويفتح أمامها باب الرجاء أبدا ويأخذ بيدها إلى أقصى طاقتها هؤلاء المتقون ما لهم أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين فهم ليسوا سلبيين بالاستغفار من المعصية كما أنهم ليسوا سلبيين بالإنفاق في السراء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس إنما هم عاملون ونعم أجر العاملين المغفرة من ربهم والجنة تجري من تحتها الأنهار بعد المغفرة وحب الله فهنالك عمل في أغوار النفس وهنالك عمل في ظاهر الحياة وكلاهما عمل وكلاهما حركة وكلاهما نماء وهنالك الصلة بين هذه السمات كلها وبين معركة الميدان التي يتعقبها السياق وكما أن للنظام الربوي أو النظام التعاوني أثره في حياة الجماعة المسلمة وعلاقته بالمعركة في الميدان فكذلك لهذه السمات النفسية والجماعية أثرها الذي أشرنا إليه في مطلع الحديث فالانتصار على الشح والانتصار على الغيظ والانتصار على الخطيئة والرجعة إلى الله وطلب مغفرته ورضاه كلها ضرورية للانتصار على الأعداء في المعركة وهم إنما كانوا أعداء لأنهم يمثلون الشح والهوى والخطيئة والتبجح وهم إنما كانوا أعداء لأنهم لا يخضعون ذواتهم وشهواتهم ونظام حياتهم لله ومنهجه وشريعته ففي هذا تكون العداوة وفي هذا تكون المعركة وفي هذا يكون الجهاد وليس هنالك أسباب أخرى يعادي فيها المسلم ويعارك ويجاهد فهو إنما يعادي لله ويعارك لله ويجاهد لله فالصلة وثيقة بين هذه التوجيهات كلها وبين استعراض المعركة في هذا السياق كما أن الصلة وثيقة بينها وبين الملابسات الخاصة التي صاحبت هذه المعركة من مخالفة عن أمر رسول الله ص ومن طمع في الغنيمة نشأت عنه المخالفة ومن اعتزاز بالذات والهوى نشأ عنه تخلف عبد الله ابن أبي ومن معه ومن ضعف بالذنب نشأ عنه تولي من تولى كما سيرد في السياق ومن غبش في التصور نشأ عنه عدم رد الأمور إلى الله وسؤال بعضهم هل لنا من الأمر من شيء وقول بعضهم لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا والقرآن يتناول هذه الملابسات كلها واحدة واحدة فيجلوها ويقرر الحقائق فيها ويلمس النفوس لمسات موحية تستجيشها وتحييها على هذا النحو الفريد الذي نرى نماذج منه في هذا السياق

    الدرس الرابع سنة الله في الإبتلاء والتمحيص والتداول

    بعد ذلك يبدأ السياق في الفقرة الثالثة من الاستعراض فيلمس أحداث المعركة ذاتها ولكنه ما يزال يتوخى تقرير الحقائق الأساسية الأصيلة في التصور الإسلامي ويجعل الأحداث مجرد محور ترتكن إليه هذه الحقائق وفي هذه الفقرة يبدأ بالإشارة إلى سنة الله الجارية في المكذبين ليقول للمسلمين إن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنة الثابتة إنما هو حادث عابر وراءه حكمة خاصة ثم يدعوهم إلى الصبر والاستعلاء بالإيمان فإن يكن أصابتهم جراح وآلام فقد أصاب المشركين مثلها في المعركة ذاتها وإنما هنالك حكمة وراء ما وقع يكشف لهم عنها حكمة تمييز الصفوف وتمحيص القلوب واتخاذ الشهداء الذين يموتون دون عقيدتهم ; ووقف المسلمين أمام الموت وجها لوجه وقد كانوا يتمنونه ليزنوا وعودهم وأمانيهم بميزان واقعي ثم في النهاية محق الكافرين بإعداد الجماعة المسلمة ذلك الإعداد المتين وإذن فهي الحكمة العليا من وراء الأحداث كلها سواء كانت هي النصر أو هي الهزيمة قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين أن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون لقد أصاب المسلمين القرح في هذه الغزوة وأصابهم القتل والهزيمة أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير قتل منهم سبعون صحابيا وكسرت رباعية الرسول ص وشج وجهه وأرهقه المشركون وأثخن أصحابه بالجراح وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر حتى لقال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم أنى هذا وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور فهم ليسوا بدعا في الحياة ; فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف والأمور لا تمضي جزافا إنما هي تتبع هذه النواميس فإذا هم درسوها وأدركوا مغازيها تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين لينالوا النصر والتمكين ; بدون الأخذ بأسباب النصر وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول والسنن التي يشير إليها السياق هنا ويوجه أبصارهم إليها هي عاقبة المكذبين على مدار التاريخ ومداولة الأيام بين الناس والابتلاء لتمحيص السرائر وامتحان قوة الصبر على الشدائد واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال والمواساة في الشدة والتأسية على القرح الذي لم يصبهم وحدهم إنما أصاب أعداءهم كذلك وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفا وأهدى منهم طريقا ومنهجا والعاقبة بعد لهم والدائرة على الكافرين قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها وحاضرها بماضيها فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم ولم تكن معارفهم ولم تكن تجاربهم قبل الإسلام لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة لولا هذا الإسلام وكتابه القرآن الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى وخلق به منهم أمة تقود الدنيا إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة وماجريات حياتهم ; فضلا على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها فضلا على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعا وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان إنما حملتها إليهم هذه العقيدة بل حملتهم إليها وارتقت بهم إلى مستواها في ربع قرن من الزمان على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون ; ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية إلا بعد أجيال وأجيال فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية وأنه إلى الله تصير الأمور فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله واتسع له تصورها ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان بعد هذا إلى مشيئته الطليقة قد خلت من قبلكم سنن وهي هي التي تحكم الحياة وهي هي التي قررتها المشيئة الطليقة فما وقع منها في غير زمانكم فسيقع مثله بمشيئة الله في زمانكم وما انطبق منها على مثل حالكم فهو كذلك سينطبق على حالكم فسيروا في الأرض فالأرض كلها وحدة والأرض كلها مسرح للحياة البشرية والأرض والحياة فيها كتاب مفتوح تتملاه الأبصار والبصائر فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك ولقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغدا ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة وكي تحذر الإنزلاق مع المكذبين من جهة أخرى وقد كان هنالك ما يدعو إلى الطمأنينة وما يدعو إلى التحذير وفي السياق سيرد من هذه الدواعي الكثير وعلى إثر بيان هذه السنة يتجاوب النداء للعظة والعبرة بهذا البيان هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين هذا بيان للناس كافة فهو نقلة بشرية بعيدة ما كان الناس ببالغيها لولا هذا البيان الهادي ولكن طائفة خاصة هي التي تجد فيه الهدى وتجد فيه الموعظة وتنتفع به وتصل على هداه طائفة المتقين إن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب التقي الذي يخفق لها ويتحرك بها والناس قلما ينقصهم العلم بالحق والباطل وبالهدى والضلال إن الحق بطبيعته من الوضوح والظهور بحيث لا يحتاج إلى بيان طويل إنما تنقص الناس الرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه والرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه لا ينشئهما إلا الإيمان ولا يحفظهما إلا التقوى ومن ثم تتكرر في القرآن أمثال هذه التقريرات تنص على أن ما في هذا الكتاب من حق ومن هدى ومن نور ومن موعظة ومن عبرة إنما هي للمؤمنين وللمتقين فالإيمان والتقوى هما اللذان يشرحان القلب للهدى والنور والموعظة والعبرة وهما اللذان يزينان للقلب اختيار الهدى والنور والانتفاع بالموعظة والعبرة واحتمال مشقات الطريق وهذا هو الأمر وهذا هو لب المسألة لا مجرد العلم والمعرفة فكم ممن يعلمون ويعرفون وهم في حمأة الباطل يتمرغون إما خضوعا لشهوة لا يجدي معها العلم والمعرفة وإما خوفا من أذى ينتظر حملة الحق وأصحاب الدعوة وبعد هذا البيان العريض يتجه إلى المسلمين بالتقوية والتأسية والتثبيت ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين لا تهنوا من الوهن والضعف ولا تحزنوا لما أصابكم ولما فاتكم وأنتم الأعلون عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه ومنهجكم أعلى فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله ودوركم أعلى فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها الهداة لهذه البشرية كلها وهم شاردون عن النهج ضالون عن الطريق ومكانكم في الأرض أعلى فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها وهم إلى الفناء والنسيان صائرون فإن كنتم مؤمنين حقا فأنتم الأعلون وإن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزنوا فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص أن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين وذكر القرح الذي أصابهم وأصاب المكذبين قرح مثله قد يكون إشارة إلى غزوة بدر وقد مس القرح فيها المشركين وسلم المسلمون وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد وقد انتصر فيها المسلمون في أول الأمر حتى هزم المشركون وقتل منهم سبعون وتابعهم المسلمون يضربون أقفيتهم حتى لقد سقط علم المشركين في ثنايا المعركة فلم يتقدم إليه منهم أحد حتى رفعته لهم امرأة فلاثوا بها وتجمعوا عليها ثم كانت الدولة للمشركين حينما خرج الرماة على أمر رسول الله ص واختلفوا فيما بينهم فأصاب المسلمين ما أصابهم في نهاية المعركة جزاء وفاقا لهذا الاختلاف وذلك الخروج وتحقيقا لسنة من سنن الله التي لا تتخلف إذ كان اختلاف الرماة وخروجهم ناشئين من الطمع في الغنيمة والله قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله لا ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد وتحقيقا كذلك لسنة أخرى من سنن الله في الأرض وهي مداولة الأيام بين الناس وفقا لما يبدو من عمل الناس ونيتهم فتكون لهؤلاء يوما ولأولئك يوما ومن ثم يتبين المؤمنون ويتبين المنافقون كما تتكشف الأخطاء وينجلي الغبش أن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا إن الشدة بعد الرخاء والرخاء بعد الشدة هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس وطبائع القلوب ودرجة الغبش فيها والصفاء ودرجة الهلع فيها والصبر ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن مؤمنين ومنافقين ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده وهم مختلطون مبهمون والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء وتجعله واقعا في حياة الناس وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم ومداولة الأيام وتعاقب الشدة والرخاء محك لا يخطىء وميزان لا يظلم والرخاء في هذا كالشدة وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء وتتجه إلى الله في الحالين وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله وقد كان الله يربي هذه الجماعة وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة ولتزيد طاعة لله وتوكلا عليه والتصاقا بركنه ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس وفيما بعد تمييز الصفوف وعلم الله للمؤمنين ويتخذ منكم شهداء وهو تعبير عجيب عن معنى عميق إن الشهداء لمختارون يختارهم الله من بين المجاهدين ويتخذهم لنفسه سبحانه فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد إنما هو اختيار وانتقاء وتكريم واختصاص إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة ليستخلصهم لنفسه سبحانه ويخصهم بقربه ثم هم شهداء يتخذهم الله ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس يستشهدهم فيؤدون الشهادة يؤدونها أداء لا شبهة فيه ولا مطعن عليه ولا جدال حوله يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق وتقريره في دنيا الناس يطلب الله سبحانه منهم أداء هذه الشهادة على أن ما جاءهم من عنده الحق ; وعلى أنهم آمنوا به وتجردوا له وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه ; وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق ; وعلى أنهم هم استيقنوا هذا فلم يألوا جهدا في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال وكل من ينطق بالشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لا يقال له أنه شهد إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إلها ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا من الله فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد ; وأخص خصائص العبودية التلقي من الله ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد بما أنه رسول الله ولا يعتمد مصدرا آخر للتلقي إلا هذا المصدر ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض كما بلغها محمد ص فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس والذي بلغه عنه محمد ص هو المنهج السائد والغالب والمطاع وهو النظام الذي يصرف حياة الناس كلها بلا استثاء فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله فهو إذن شهيد أي شاهد طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها واتخذه الله شهيدا ورزقه هذا المقام هذا فقه ذلك التعبير العجيب ويتخذ منكم شهداء وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ومقتضاه لا ما انتهى إليه مدلول هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع والله لا يحب الظالمين والظلم كثيرا ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك بوصفه أظلم الظلم وأقبحه وفي القرآن إن الشرك لظلم عظيم وفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال < أن تجعل لله ندا وهو خلقك > وقد أشار السياق من قبل إلى سنة الله في المكذبين ; فالآن يقرر أن الله لا يحب الظالمين فهو توكيد في صورة أخرى لحقيقة ما ينتظر المكذبين الظالمين الذين لا يحبهم الله والتعبير بأن الله لا يحب الظالمين يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين وهذه الإثارة في معرض الحديث عن الجهاد والاستشهاد لها مناسبتها الحاضرة فالمؤمن إنما يبذل نفسه في مكافحة ما يكرهه الله ومن يكرهه وهذا هو مقام الاستشهاد وفي هذا تكون الشهادة ; ومن هؤلاء يتخذ الله الشهداء ثم يمضي السياق القرآني يكشف عن الحكمة الكامنة وراء الأحداث في تربية الأمة المسلمة وتمحيصها وإعدادها لدورها الأعلى ولتكون أداة من أدوات قدره في محق الكافرين وستارا لقدرته في هلاك المكذبين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز التمحيص عملية تتم في داخل النفس وفي مكنون الضمير إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية وتسليط الضوء على هذه المكنونات تمهيدا لإخراج الدخل والدغل والأوشاب وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق بلا غبش ولا ضباب وكثيرا ما يجهل الإنسان نفسه ومخابئها ودروبها ومنحنياتها وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها وحقيقة ما استكن فيها من رواسب لا تظهر إلا بمثير وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله سبحانه بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص ثم إذا هو يكشف على ضوء التجربة العملية وفي مواجهة الأحداث الواقعية إن في نفسه عقابيل لم تمحص وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه ليعاود المحاولة في سبكها من جديد على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة والله سبحانه كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية وكان يريد بها أمرا في هذه الأرض فمحصها هذا التمحيص الذي تكشفت عنه الأحداث في أحد لترتفع إلى مستوى الدور المقدر لها وليتحقق على يديها قدر الله الذي ناطه بها ويمحق الكافرين تحقيقا لسنته في دمغ الباطل بالحق متى استعلن الحق وخلص من الشوائب بالتمحيص وفي سؤال استنكاري يصحح القرآن تصورات المسلمين عن سنة الله في الدعوات وفي النصر والهزيمة وفي العمل والجزاء ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره وزاده الصبر على مشاق الطريق وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون إن صيغة السؤال الاستنكارية يقصد بها إلى التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور تصور أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان أسلمت وأنا على استعداد للموت فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان إنما هي التجربة الواقعية والامتحان العملي وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء ثم الصبر على تكاليف الجهاد وعلى معاناة البلاء وفي النص القرآني لفتة ذات مغزى ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضا التكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يطلب لها الصبر ويختبر بها الإيمان إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي معاناة الاستقامة على أفق الإيمان والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني في النفس وفي الغير ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحدا منها في الطريق المحفوف بالمكاره طريق الجنة التي لا تنال بالأماني وبكلمات اللسان ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون وهكذا يقفهم السياق وجها لوجه مرة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة وقد كانوا من قبل يتمنون لقاءه ليوازنوا في حسهم بين وزن الكلمة يقولها اللسان ووزن الحقيقة يواجهها في العيان فيعلمهم بهذا أن يحسبوا حسابا لكل كلمة تطلقها السنتهم ويزنوا حقيقة رصيدها الواقعي في نفوسهم على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم وبذلك يقدرون قيمة الكلمة وقيمة الأمنية وقيمة الوعد في ضوء الواقع الثقيل ثم يعلمهم أن ليست الكلمات الطائرة والأماني المرفرفة هي التي تبلغهم الجنة إنما هو تحقيق الكلمة وتجسيم الأمنية والجهاد الحقيقي والصبر على المعاناة حتى يعلم الله منهم ذلك كله واقعا كائنا في دنيا الناس ولقد كان الله سبحانه قادرا على أن يمنح النصر لنبيه ولدعوته ولدينه ولمنهجه منذ اللحظة الأولى وبلا كد من المؤمنين ولا عناء وكان قادرا أن ينزل الملائكة تقاتل معهم أو بدونهم وتدمر على المشركين كما دمرت على عاد وثمود وقوم لوط ولكن المسألة ليست هي النصر إنما هي تربية الجماعة المسلمة التي تعد لتتسلم قيادة البشرية البشرية بكل ضعفها ونقصها ; وبكل شهواتها ونزواتها ; وبكل جاهليتها وانحرافها وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعدادا عاليا من القادة وأول ما تقتضيه صلابة في الخلق وثبات على الحق وصبر على المعاناة ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوة في النفس البشرية وخبرة بمواطن الزلل ودواعي الانحراف ووسائل العلاج ثم صبر على الرخاء كالصبر على الشدة وصبر على الشدة بعد الرخاء وطعمها يومئذ لاذع مرير وهذه التربية هي التي يأخذ الله بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة ليعدها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق الذي ينوطه بها في هذه الأرض وقد شاء سبحانه أن يجعل هذا الدور من نصيب الإنسان الذي استخلفه في هذا الملك العريض وقدر الله في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه بشتى الأسباب والوسائل وشتى الملابسات والوقائع يمضي أحيانا عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة فتستبشر وترتفع ثقتها بنفسها في ظل العون الإلهي وتجرب لذة النصر وتصبر على نشوته وتجرب مقدرتها على مغالبة البطر والزهو والخيلاء وعلى التزام التواضع والشكر لله ويمضي أحيانا عن طريق الهزيمة والكرب والشدة فتلجأ إلى الله وتعرف حقيقة قوتها الذاتية وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج الله وتجرب مرارة الهزيمة ; وتستعلي مع ذلك على الباطل بما عندها من الحق المجرد ; وتعرف مواضع نقصها وضعفها ومداخل شهواتها ومزالق أقدامها ; فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة وتخرج من النصر ومن الهزيمة بالزاد والرصيد ويمضي قدر الله وفق سنته لا يتخلف ولا يحيد وقد كان هذا كله طرفا من رصيد معركة أحد ; الذي يحشده السياق القرآني للجماعة المسملة على نحو ما نرى في هذه الآيات وهو رصيد مدخر لكل جماعة مسلمة ولكل جيل من أجيال المسلمين

    الدرس الخامس حقائق التصور الإسلامي حول الموت والأجل والجهاد والصبر

    ثم يمضي السياق في تقرير حقائق التصور الإسلامي الكبيرة ; وفي تربية الجماعة المسلمة بهذه الحقائق ; متخذا من أحداث المعركة محورا لتقرير تلك الحقائق ; ووسيلة لتربية الجماعة المسلمة بها على طريقة المنهج القرآني الفريد وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ; وسيجزي الله الشاكرين وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ; ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ; وسنجزي الشاكرين وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين إن الآية الأولى في هذه الفقرة تشير إلى واقعة معينة حدثت في غزوة أحد ذلك حين انكشف ظهر المسلمين بعد أن ترك الرماة أماكنهم من الجبل فركبه المشركون وأوقعوا بالمسلمين وكسرت رباعية الرسول ص وشج وجهه ونزفت جراحه ; وحين اختلطت الأمور وتفرق المسلمون لا يدري أحدهم مكان الآخر حينئذ نادى مناد إن محمدا قد قتل وكان لهذه الصيحة وقعها الشديد على المسلمين فانقلب الكثيرون منهم عائدين إلى المدينة مصعدين في الجبل منهزمين تاركين المعركة يائسين لولا أن ثبت رسول الله ص في تلك القلة من الرجال ; وجعل ينادي المسلمين وهم منقلبون حتى فاءوا إليه وثبت الله قلوبهم وأنزل عليهم النعاس امنة منه وطمأنينة كما سيجيء فهذه الحادثة التي أذهلتهم هذا الذهول يتخذها القرآن هنا مادة للتوجيه ومناسبة لتقرير حقائق التصور الإسلامي ; ويجعلها محورا لإشارات موحية في حقيقة الموت وحقيقة الحياة وفي تاريخ الإيمان ومواكب المؤمنين وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين إن محمدا ليس إلا رسولا سبقته الرسل وقد مات الرسل ومحمد سيموت كما مات الرسل قبله هذه حقيقة أولية بسيطة فما بالكم غفلتم عنها حينما واجهتكم في المعركة إن محمدا رسول من عند الله جاء ليبلغ كلمة الله والله باق لا يموت وكلمته باقية لا تموت وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل وهذه كذلك حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأولية البسيطة إن البشر إلى فناء والعقيدة إلى بقاء ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس من الرسل والدعاة على مدار التاريخ والمسلم الذي يحب رسول الله ص وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيرا الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه بظهره والنبل يقع فيه ولا يتحرك ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه ويستشهدون واحدا إثر واحد وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم وبكل مشاعرهم حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره ص هذا المسلم الذي يحب محمدا ذلك الحب مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد ص والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت إن الدعوة أقدم من الداعية وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن العميقة في منابت التاريخ المبتدئة مع البشرية تحدو لها بالهدى والسلام من مطالع الطريق وهي أكبر من الداعية وأبقى من الداعية فدعاتها يجيئون ويذهبون وتبقى هي على الأجيال والقرون ويبقى اتباعها موصولين بمصدرها الأول الذي أرسل بها الرسل وهو باق سبحانه يتوجه إليه المؤمنون وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه ويرتد عن هدى الله والله حي لا يموت ومن ثم هذا الاستنكار وهذا التهديد وهذا البيان المنير أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين وفي التعبير تصوير حي للارتداد انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه العقيدة كأنه منظر مشهود والمقصود أصلا ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة ولكن حركة الارتداد النفسية التي صاحبتها حينما هتف الهاتف إن محمدا قد قتل فأحس بعض المسلمين أن لا جدوى إذن من قتال المشركين وبموت محمد انتهى أمر هذا الدين وانتهى أمر الجهاد للمشركين فهذه الحركة النفسية يجسمها التعبير هنا فيصورها حركة ارتداد على الأعقاب كارتدادهم في المعركة على الأعقاب وهذا هو الذي حذرهم إياه النضر بن أنس رضي الله عنه فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا بأيديهم وقالوا له إن محمدا قد مات فما تصنعون بالحياة من بعده فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ص ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا فإنما هو الخاسر الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق وانقلابه لن يضر الله شيئا فالله غني عن الناس وعن إيمانهم ولكنه رحمة منه بالعباد شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم ولخيرهم هم وما يتنكبه متنكب حتى يلاقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق وتعوج الأمور كلها ويذوق الناس وبال أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة وتستقيم في ظله النفوس وتجد الفطرة في ظله السلام مع ذاتها والسلام مع الكون الذي تعيش فيه وسيجزي الله الشاكرين الذين يعرفون مقدار النعمة التي منحها الله لعباده في إعطائهم هذا المنهج فيشكرونها باتباع المنهج ويشكرونها بالثناء على الله ومن ثم يسعدون بالمنهج فيكون هذا جزاء طيبا على شكرهم ثم يسعدون بجزاء الله لهم في الآخرة وهو أكبر وأبقى وكأنما أراد الله سبحانه بهذه الحادثة وبهذه الآية أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي ص وهو حي بينهم وأن يصلهم مباشرة بالنبع النبع الذي لم يفجره محمد ص ولكن جاء فقط ليومىء إليه ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق كما أومأ إليه من قبله من الرسل ودعوا القافلة إلى الارتواء منه وكأنما أراد الله سبحانه أن يأخذ بأيديهم فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى العروة التي لم يعقدها محمد ص إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون وكأنما أراد الله سبحانه أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول ص أو يقتل فهم إنما بايعوا الله وهم أمام الله مسؤولون وكأنما كان الله سبحانه يعد الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى حين تقع وهو سبحانه يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم فشاء أن يدربهم عليها هذا التدريب وأن يصلهم به هو وبدعوته الباقية قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول ولقد أصيبوا حين وقعت بالفعل بالدهش والذهول حتى لقد وقف عمر رضي الله عنه شاهرا سيفه يهدد به من يقول إن محمدا قد مات ولم يثبت إلا أبو بكر الموصول القلب بصاحبه وبقدر الله فيه الاتصال المباشر الوثيق وكانت هذه الآية حين ذكرها وذكر بها المدهوشين الذاهلين هي النداء الإلهي المسموع فإذا هم يثوبون ويرجعون ثم يلمس السياق القرآني مكمن الخوف من الموت في النفس البشرية لمسة موحية تطرد ذلك الخوف عن طريق بيان الحقيقة الثابتة في شأن الموت وشأن الحياة وما بعد الحياة والموت من حكمة لله وتدبير ومن ابتلاء للعباد وجزاء وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ; ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين إن لكل نفس كتابا مؤجلا إلى أجل مرسوم ولن تموت نفس حتى تستوفي هذا الأجل المرسوم فالخوف والهلع والحرص والتخلف لا تطيل أجلا والشجاعة والثبات والإقدام والوفاء لا تقصر عمرا فلا كان الجبن ولا نامت أعين الجبناء والأجل المكتوب لا ينقص منه يوم ولا يزيد بذلك تستقر حقيقة الأجل في النفس فتترك الاشتغال به ولا تجعله في الحساب وهي تفكر في الأداء والوفاء بالالتزامات والتكاليف الإيمانية وبذلك تنطلق من عقال الشح والحرص كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته في صبر وطمأنينة وتوكل على الله الذي يملك الآجال وحده ثم ينتقل بالنفس خطوة وراء هذه القضية التي حسم فيها القول فإنه إذا كان العمر مكتوبا والأجل مرسوما فلتنظر نفس ما قدمت لغد ; ولتنظر نفس ماذا تريد أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان وأن تحصر همها كله في هذه الأرض وأن تعيش لهذه الدنيا وحدها أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى وإلى اهتمامات أرفع وإلى حياة أكبر من هذه الحياة مع تساوي هذا الهم وذاك فيما يختص بالعمر والحياة ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وشتان بين حياة وحياة وشتان بين اهتمام واهتمام مع اتحاد النتيجة بالقياس إلى العمر والأجل والذي يعيش لهذه الأرض وحدها ويريد ثواب الدنيا وحدها إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب والذي يتطلع إلى الأفق الآخر إنما يحيا حياة الإنسان الذي كرمه الله واستخلفه وأفرده بهذا المكان ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا وسنجزي الشاكرين الذين يدركون نعمة التكريم الإلهي للإنسان فيرتفعون عن مدارج الحيوان ; ويشكرون الله على تلك النعمة فينهضون بتبعات الإيمان وهكذا يقرر القرآن حقيقة الموت والحياة وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الأحياء وفق ما يريدونه لأنفسهم من اهتمام قريب كاهتمام الدود أو اهتمام بعيد كاهتمام الإنسان وبذلك ينقل النفس من الإنشغال بالخوف من الموت والجزع من التكاليف وهي لا تملك شيئا في شأن الموت والحياة إلى الإنشغال بما هو أنفع للنفس في الحقل الذي تملكه وتملك فيه الاختيار فتختار الدنيا أو تختار الآخرة وتنال من جزاء الله ما تختار ثم يضرب الله للمسلمين المثل من إخوانهم المؤمنين قبلهم من موكب الإيمان اللاحب الممتد على طول الطريق الضارب في جذور الزمان من أولئك الذين صدقوا في إيمانهم وقاتلوا مع أنبيائهم فلم يجزعوا عند الابتلاء ; وتأدبوا وهم مقدمون على الموت بالأدب الإيماني في هذا المقام مقام الجهاد فلم يزيدوا على أن يستغفروا ربهم ; وأن يجسموا أخطاءهم فيروها إسرافا في أمرهم وأن يطلبوا من ربهم الثبات والنصر على الكفار وبذلك نالوا ثواب الدارين جزاء إحسانهم في أدب الدعاء وإحسانهم في موقف الجهاد وكانوا مثلا يضربه الله للمسلمين وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ; وثبت أقدامنا ; وانصرنا على القوم الكافرين فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين لقد كانت الهزيمة في أحد هي أول هزيمة تصدم المسلمين الذين نصرهم الله ببدر وهم ضعاف قليل ; فكأنما وقر في نفوسهم أن النصر في كل موقعة هو السنة الكونية فلما أن صدمتهم أحد فوجئوا بالابتلاء كأنهم لا ينتظرونه ولعله لهذا طال الحديث حول هذه الواقعة في القرآن الكريم واستطرد السياق يأخذ المسلمين بالتأسية تارة وبالاستنكار تارة وبالتقرير تارة وبالمثل تارة تربية لنفوسهم وتصحيحا لتصورهم وإعدادا لهم فالطريق أمامهم طويل والتجارب أمامهم شاقة والتكاليف عليهم باهظة والأمر الذي يندبون له عظيم والمثل الذي يضربه لهم هنا مثل عام لا يحدد فيه نبيا ولا يحدد فيه قوما إنما يربطهم بموكب الإيمان ; ويعلمهم أدب المؤمنين ; ويصور لهم الابتلاء كأنه الأمر المطرد في كل دعوة وفي كل دين ; ويربطهم بأسلافهم من اتباع الأنبياء ; ليقرر في حسهم قرابة المؤمنين للمؤمنين ; ويقر في أخلادهم أن أمر العقيدة كله واحد وإنهم كتيبة في الجيش الإيماني الكبير وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا وكم من نبي قاتلت معه جماعات كثيرة فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من البلاء والكرب والشدة والجراح وما ضعفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح وما استسلموا للجزع ولا للأعداء فهذا هو شأن المؤمنين المنافحين عن عقيدة ودين والله يحب الصابرين الذين لا تضعف نفوسهم ولا تتضعضع قواهم ولا تلين عزائمهم ولا يستكينون أو يستسلمون والتعبير بالحب من الله للصابرين له وقعه وله إيحاؤه فهو الحب الذي يأسو الجراح ويمسح على القرح ويعوض ويربو عن الضر والقرح والكفاح المرير وإلى هنا كان السياق قد رسم الصورة الظاهرة لهؤلاء المؤمنين في موقفهم من الشدة والابتلاء فهو يمضي بعدها ليرسم الصورة الباطنة لنفوسهم ومشاعرهم صورة الأدب في حق الله وهم يواجهون الهول الذي يذهل النفوس ويقيدها بالخطر الراهق لا تتعداه ولكنه لا يذهل نفوس المؤمنين عن التوجه إلى الله لا لتطلب النصر أول ما تطلب وهو ما يتبادر عادة إلى النفوس ولكن لتطلب العفو والمغفرة ولتعترف بالذنب والخطيئة قبل أن تطلب الثبات والنصر على الأعداء وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء بل لم يطلبوا ثوابا ولا جزاء لم يطلبوا ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة لقد كانوا أكثر أدبا مع الله وهم يتوجهون إليه بينما هم يقاتلون في سبيله فلم يطلبوا منه سبحانه إلا غفران الذنوب وتثبيت الأقدام والنصر على الكفار فحتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم إنما يطلبونه هزيمة للكفر وعقوبة للكفار إنه الأدب اللائق بالمؤمنين في حق الله الكريم وهؤلاء الذين لم يطلبوا لأنفسهم شيئا أعطاهم الله من عنده كل شيء أعطاهم من عنده كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة وأعطاهم كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ويرجونه فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة وشهد لهم سبحانه بالإحسان فقد أحسنوا الأدب وأحسنوا الجهاد وأعلن حبه لهم وهو أكبر من النعمة وأكبر من الثواب والله يحب المحسنين وهكذا تنتهي هذه الفقرة في الاستعراض ; وقد تضمنت تلك الحقائق الكبيرة في التصور الإسلامي وقد أدت هذا الدور في تربية الجماعة المسلمة وقد ادخرت هذا الرصيد للأمة المسلمة في كل جيل

    كلمات مفتاحية  :
    غزوة أحد الوحدة الخامسة

    تعليقات الزوار ()