..في ضاحية المدينة يوجد بيت كبير و أنيق يثير انتباه كل المارة.تحيط به أشجار من كل جانب و تتوسطه ساحة شاسعة تزيده بهاء و رونقا و تهيم بك نفسك و تقول بأن كل أهله من الناس السعداء.إذا اقتربت كثيرا يستقبلك كلب ضخم تحيط حول عنقه سلسلة تلمع، يحدق فيك بعينيه دون أن يبرح مكانه ما إن تبتعد عنه حتى يعود إلى هدوءه الطبيعي.لا يوجد بالبيت إلا الخادم و الخادمة، يخيل إليك أحيانا أنه بيت مهجور تركه أهله لسبب من الأسباب رغم أناقته و بهائه.يوميا تخرج سيارة فخمة صباحا، تحمل صاحب البيت إلى العمل أو أي مكان أخر داخل المدينة أو خارج المدينة.و بعدها بزمن قصير، يلفظ البيت الكبير سيارة أخرى ليست في فخامة الأولى و لكنها توحي بالأبهة، بها سيدة تضع نظارة سوداء على عينيها.تخترق دروب الحي و الشارع الرئيسي في صمت و لا تعود إلا بعد منتصف النهار.بعدها يحوم سكون غريب حول البيت الكبير.لا يحرسه سوى الكلب الضخم، الخادمة و الخادم.بعد ساعات تعود صاحبة النظارة السوداء ،و عندما يسدل الليل عباءته السوداء، يحضر صاحب السيارة الفخمة.تضاء الأضواء في كل مكان في البيت كأن هناك حفل و تسمع موسيقى قوية تخرق الآذان خارج سور البيت الكبير.تختلط الموسيقى مع الأصوات البشرية .صراخ و شجار حتى لحظة معينة ثم يعود الصمت سيد المكان و تطفأ الأنوار و يظل الكلب يحدق بعينيه..يأتي يوم آخر و تخرج السيارة الفخمة و تختفي كعادتها بين دروب المدينة،و تظل السيارة ذات الدرجة الثانية قابعة في مكانها.تصرف غير طبيعي من صاحبة النظارة السوداء، تظل مستلقية على فراشها و الخادمة تسرع الخطوات في الذهاب و الإياب حتى لا تسمع تأنيبا و لا شتما. عادة ما تشتم لأتفه الأسباب و تلام على أشياء لا علاقة لها بها.رنين الجرس على الباب، يفتح الخادم لسيدة في الأربعينات، جميلة المظهر و تطلب السيدة صاحبة البيت.تطلب منها الخادمة أن تتبعها إلى فوق، فالسيدة لا تستطيع مغادرة الفراش.ما إن تدخل الزائرة الجميلة إلى غرفة النوم حتى تنتفض صاحبة البيت بشكل مفاجئ و تعود إلى وسادتها و تبكي بحرارة.ترتبك الزائرة و تصيح:ياسمين، ماذا جرى؟هل تشاجرتما من جديد؟لم تجب.قامت ،فتحت النافذة و أسدلت الستائر ودفعت بجسدها الهالك إلى أقرب كرسي.
كانت ياسمين صاحبة البيت لها صداقات كثيرة و متعددة، من بينهم زائرة هذا الصباح.ظلت علاقتهما مستمرة من أيام الكلية.اختارت سلوى صديقتها أن تتم المشوار الدراسي و تحصل على عمل في إحدى الكليات بينما ياسمين، تخلت عن أحلامها يوم قررت الزواج من رجل ثري. تقترب سلوى من ياسمين و تمسح دموعها و تهمس في أذنيها:لا بد أن تغيري حياتك.في تلك اللحظة، تجولت ياسمين بعينيها في غرفتها المبعثرة رغم فخامتها، ثياب على الأرض، أحذية منتشرة تحت السرير كالطفيليات…قالت بصوت واهن:لقد حاولت المستحيل لتغيير حياتي، بدون فائدة.كلما حاولت الاقتراب منه يبتعد و يتركني كما ترين.قامت سلوى و حاولت أن تضفي بعض البهجة و المرح على البيت قالت:هيا يا ياسمين، غيري ملابس النوم، سنخرج معا أريد أن أستشير معك في موضوع مهم. سلوى من أقرب الأصدقاء لياسمين، فكانت تفتح لها مغاليق قلبها و ترتاح لردودها الرومانسية و الهادئة.كانت دائما تقول لها:أنت فعلا ياسمين يسكرنا برائحته العطرة و يستوطن أرواحنا المتعبة و يعيد إليها الحياة.استعدت ياسمين للخروج رغم ملامح التعب البادية على وجهها.كان كل لباسها غامقا يوحي بالكآبة وغطت عينيها بالنظارة السوداء.طيلة الطريق و سلوى ترمقها بطرف عين و كل مرة تريد أن تتكلم و تصمت حتى انتبهت إليها ياسمين و قالت لها:تكلمي يا سلوى.ربما أدركت ما تردين قوله:لماذا كل هذا السواد يا ياسمين؟انك تقتلين روحك و عقلك بهذا السلوك.تتحكم في المقود بشكل قوي ووجهها صارم لا يعبر عن أي شيء قالت:لا أستطيع أن ألبس غير هكذا ثم أردفت بصوت حاد:ما هو الموضوع الذي كنت تريدين أن تتكلمي معي فيه؟ أدركت سلوى أنها تسد كل منفذ للحوار و ما تسميه هي بالموعظة، فكلما تدخلت سلوى في حياتها و إلا و هاجمتها بأفضع الألفاظ"سلوى، لا أحب كثيرا نصائحك الأبوية"في أيام الكلية كانت ياسمين مندفعة جدا، لا تقرر إلا بعواطفها، كانت تلغي استعمال العقل في حياتها الشيء الذي كان يقلق صديقتها سلوى و يحصل أحيانا خصام لكنه يذوب بعد فترة قصيرة.و مع ذلك تصر سلوى على معاتبة ياسمين كلما لاحظت شيئا يثير الانتباه خصوصا فيما يخص حياتها الزوجية.وصلتا إلى مقهى في وسط المدينة، شكله رومانسي و هادئ، جلست ياسمين بتوتر على أقرب كرسي و قالت منفعلة:حتى الآن لم أسمع شيئا عن الموضوع.ردت سلوى بصوت خافت حتى لا تثير الانتباه:لقد كنت سجينة غرفة كئيبة لا تبعث على الفرح بل تقبر كل أشعة شمس أتت لتنفض الغبار عنك وتحيي أضلاعك الواهنة..فكرت ساعتها في سبب يجعلك تخرجين من منفاك الأليم.سكنت ياسمين سكون الليل ولم تنتبه حتى للنادل الذي أحضر كوبين من القهوة.أردفت دمعة و تلتها دموع أخرى كأنه شلال.لم تتكلم سلوى و انتظرت حتى تنفرج ملامح ياسمين.غيرت من أسلوبها القاسي و قالت :لا أريد أن أقول لك بأنك أخطأت يوم تركت القيادة لعواطفك،و لن ألومك على اهمالك لنفسك،فقط سأقول لك لا تتركي مرة أخرى عواطفك تقتلك.تشرب ياسمين القهوة بشكل آلي دون أن تتذوقها و تتكئ على إحدى يديها و تحدق في الأرض و تهمس:لقد ضاعت حياتي يا سلوى.كل وقتي أقضيه بين البيت و المشاوير النسوية التي صارت ترهق كاهلي.وضعت سلوى كأس القهوة جانبا و قالت:حاولي الحصول على عمل يثري حياتك.و تابعت بشكل حماسي:لما كنت في انجلترا لمتابعة دراستي، لاحظت الكثير من النساء لهن أطفالا و مع ذلك يعملن أو يتابعن دراستهن.و..قاطعتها ياسمين منفعلة:أنا لا أبحث عن العمل أو عن الدراسة فقط أريد من زوجي أن يهتم بي أكثر لا يتركني كأثاث البيت.طلبت سلوى كأسا آخر من القهوة و قبل أن ترشف منه قليلا قالت:لماذا تشعرين بالإهمال في حياتك؟لماذا هو لا يعاتبك كما تفعلين؟ لم تجب بل أتمت شرب القهوة و أخذت منديلا مسحت به عينيها و أعادته إلى جيبها.حالة شرود مفتعلة، غابت الكلمات و ظلت القهوة سيدة المكان.فجأة غيرت ياسمين دفة النقاش و قالت:لم تكلمينني عن رحلتك إلى انجلترا؟ابتسمت سلوى و استمر الحديث.غابت شمس ذلك اليوم و ياسمين في غرفتها المبعثرة تصرخ على الخادمة لتحضر لها عصير الليمون.لم تجلس. تأخذ أدرع الغرفة ذهابا و إيابا و كلمات صديقتها سلوى لا تبرح دماغها"لماذا هو لا يلومك؟"تحاول أن تقنع نفسها بأي سبب يجعلها هي الضحية و هو الجلاد."المرأة عاشقة و رومانسية أكثر من الرجل"نطقت بصوت مرتفع.أسئلة لم تطرحها على نفسها من قبل، اختلطت عليها الأمور و تركت كأس الليمون جانبا و نامت كالعادة قبل أن يأتـي زوجها.
ياسمين فتاة رومانسية، تعشق الشموع والنجوم، بهما تنطلق روحها نحو الأفق و لا تستطيع العيش بدون الكلام الجميل و العاشق.فكانت سلوى تحاول أن تغير لها بعض المفاهيم.فتعود وتصر على أن من يحب يتفانى في إسعاد من يحب.
في اليوم الموالي، استيقظت باكرا أخذت حماما ساخنا، انتظرت زوجها على مائدة الإفطار.صمت رهيب بين الطرفين، قالت بانفعال:لقد انتظرتك البارحة حتى ساعة متأخرة من الليل و لم تحضر.لم يجب.أعادت السؤال بتوتر زائد.قال باقتضاب شديد،كنت في اجتماع.قام و خرج قائلا بـأنه سيتأخر.صرخت بشكل هستيري و خرجت إلى الحديقة تتنفس بصعوبة، بكت كثيرا حتى آلمتها عينيها، وضعت خدها على يدها المرتعشة و أغمضت جفونها الهالكة و سافرت بّذاكرتها إلى أيام الدراسة و الأحلام المشتركة مع زميلاتها و زملائها و كيف كانت دائما تتحداهم بأن الحب ينتصر على كل المشاكل…ابتسمت ثم استيقظت على صوت صديقتها سلوى "جئت أطمئن عليك، لأنني تركتك البارحة مضطربة"قامت ياسمين و استلقت على كتفها كأنها كانت تنتظر من يحمل معها همومها الثقيلة و أخرجت زفرات طويلة متتالية وقالت:أنا لم أفطر بعد، هل تشاركيني فطوري؟شعرت سلوى من نبرتها الحزينة بأنها مازالت ترزأ تحت مشاكلها الزوجية.تجولت سلوى بعينيها في عالم صديقتها الثري و قالت بابتسامتها المعهودة:كل هذا الجمال و هذا الثراء و تشعرين بالتعاسة؟و تابعت : عالم الإنسان مليء بالمتناقضات، يكره اللحظة التي هو يعيشها و لا يدرك ماذا يريد.هل الإنسان معقد لهذه الدرجة؟احتضنت ياسمين كأس القهوة بين يديها و قالت بصوت هادئ:أحيانا يطلب الإنسان شيئا بسيطا لكن المحيطين به هم الذين يعقدون الأمور.جلست سلوى بدورها و رشفت قليلا من القهوة و قالت بكل ثقة:و لماذا لا تقولين بأن ذلك الشيء البسيط يكون أحيانا معقدا و مكلفا و..قاطعتها ياسمين بحدة: سِأعطيك مثالا لتتأكدي بأنني انسانة بسيطة و حالمة فقط:بالأمس القريب، انتظرته حتى ساعة متأخرة من الليل، نمت، في الغد، عاتبته على تأخيره المستمر و عدم الاهتمام بي.صمت كالعادة و خرج كالعادة.ما رأيك يا أستاذة؟اختلط عليها البكاء بالضحك، اسودت ملامح وجهها، نظرات فارغة و مكتئبة، أثار انتباهها غناء العصافير الذي لم ينقطع، قالت:أحسد هذه العصافير على هناء بالها و راحة نفسها.أتدري يا سلوى بأنه لولا هذه العصافير لما كانت الحدائق.تألمت سلوى كثيرا حتى أنحبس عنها صوتها و تركت العصافير تكمل الحديث لعلها تغير شيئا.انسحبت ياسمين كالنسمة البيضاء دون أن تحدث ضجيجا تاركة سلوى تعانق غناء العصافير و جو الصباح الربيعي.تاهت سلوى مع أسئلتها اللامحدودة، قالت تحدث نفسها:هل كل النساء يعشن نفس المشاكل العاطفية ؟هل يطرحن نفس الأسئلة؟فاجأتها ياسمين بدون مقدمات:هيا بنا، أريد أن أغادر هذه المكان لبعض الوقت.كانت السيارة هو المكان المغلق الذي ترتاح أن تتكلم فيه كثيرا.كأنه يحميها من شيء ما. صارت السيارة سابحة عبر الشوارع و صوت أم كلثوم يقول:حب إيه اللي جاي تتكلم عليه.. دفعت ياسمين الكلمات من فمها دفعا:كم كان جميلا يوم تعرفت عليه، كنت كالطفلة في بلاد العجائب.توجني كملكة له.كان لا يستطيع أن يتخلف يوم واحد دون أن يراني و يغمرني بالكلام الحلو.حتى افتكرت هكذا في يوم من الأيام و قلت لو اتبعت نصائح سلوى المشاكسة:لكنت الآن أتـصارع مع الزمن وأوقاته الروتينية ولا أتذوق هذه الحياة الثرية في كل شيء.كلما علا صوت أم كلثوم كلما استوطن الصمت السيارة و نزلت دموع ياسمين كجداول فوق ملامحها الحزينة.كانت سلوى كالتلميذة داخل القسم، تنظر إليها بعيون خائفة تاه عنها الكلام."أصبحت سجينة النظارة السوداء حتى لا يرى الناس احمرار عيوني الدائم.تابعت ياسمين، يتركني كالأثاث في البيت و لا يعود حتى منتصف الليل.و كلما سألته عن سبب هذا التحول يقول لي بجفاء:ماذا ينقصك تعيشين كملكة، ماذا تريدين مني بعد؟"توقفت فجأة و بكت بحرقة شديدة.حاولت سلوى أن تهدئ من روعها و تعيدها إلى الصواب."اتركيني لقد تحملت فوق طاقة البشر."و أخيرا نطق لسان سلوى و قالت: ليس بالبكاء ستحل جميع مشاكلك. اخترقت شوارع و أزقة المدينة بشكل عشوائي، سكون طويل عم السيارة رغم صوت أم كلثوم الطروب.توقفت السيارة عند حافة إحدى البحيرات، كانت مليئة بالبط، أصوات من هنا و هناك، أشجار تتمايل على البحيرة، نزلت سلوى و تاهت وسط الجمال الطبيعي، ما هي إلا بضع دقائق حتى التحقت بها ياسمين محملة بكل الآهات و الزفرات، رفعت عينيها إلى السماء و أردفت دمعة ثقيلة على القلب و الروح.قالت سلوى بصوت قاسي كأنها تريد أن تخلخل هذا الهوان و الضعف الساكن روح صديقتها:ياسمين، ما هذا اليأس الذي كنت تضحكين منه؟لقد استحالت حياتك إلى صحراء جرداء وأنت في الجانب الآخر تنوحين كالأم الثكلى.التغيير يشفي النفوس الحائرة.لم تجب ياسمين،كانت كعادتها صامتة و حزينة.
في اليوم الموالي، كان صباحا جميلا من صباحيات فصل الربيع، تغلغلت الشمس داخل غرف الفيلا المظلمة و أحدثت خللا في السكون القائم، احتلت أصوات العصافير الفضاء الخارجي و أرسلت أنغامها تفرح النفوس الكئيبة و القلوب الجريحة.
كانت ياسمين ممدة فوق فراشها و تحملق في سقف غرفتها ثم اتجهت صوب نافذتها و فتحتها على مصراعيها و استنشقت بنفس عميق هواء ذاك الصباح الربيعي.ظلت مدة تراقب الفضاء و تحولاته المفاجئة و الجميلة أحيانا ثم ابتسمت و أغمضت عينيها و تركت لروحها الواهنة أن تسافر إلى بعيد على بساط أشعة الشمس و صوت الريح الخفيف.مر من الوقت الكثير و ياسمين في حالة سكر نادرة، كانت تؤمن بشكل قاطع بأنها لا تستطيع أن تعيش بدون حب جارف و اهتمام قوي.تركت روحها محمولة فوق بساط الريح، ترتفع إلى ألأعلى من أجل فقدان أي اتصال بشري حتى تكتسبا قوة الجبال و تعود إلى الأرض.