بتـــــاريخ : 11/13/2008 11:49:24 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1324 0


    البركة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : أبو العيد دودو | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    استقبلها الشيخ مرحباً... وبفرح كبير. فالشيخ يفرح حين يريد أن يفرح وحين يريد أن يضيف جديداً إلى فرحه وإلى مايريد في آن واحد، كان يتوقع أن تعود إليه قبل هذا اليوم، ولكنها تأخرت لسبب قد يعلمه بعد حين، وتكلف الوقار عند مالاحظ الحيرة في ملامح محياها. وسألها بوقاره:

    - تأخرت. مالذي أخرك؟ لقد تتبعت أخبارك!‏

    فقالت في رجاء:‏

    - اعذرني، ياسيدي. كنت مريضة، وقد جئتك لتقرأ لي على الطفل!‏

    ونظر إلى ماتحمله بين ذراعيها، وقال متلطفاً:‏

    - اسم الله عليه.. اسم الله عليه.. معذورة، ياصبية! أراك تحملين بركتي!‏

    جلست أمامه في حيرة. صباها من النوع الخجل، فقد زوجوها في سن مبكّرة. وقد أثارت كلماته في نفسها وخزة، فنظرت إلى طفلها ولم تقل شيئاً، وعندئذ قال لها:‏

    - دعيني أروجه بركتي!‏

    قربت البركة منه، فكشف عن وجهه، فالطفل في حاجة إلى الدفء، دائماً، فابتهج الشيخ وضرب بيده على ركبتيه، وقال:‏

    - ها.. إنه يشبهني، له ملامح صورتي، أليس كذلك؟ قولي، ياصبيتي! ألست على صواب؟‏

    ولم ترد على سؤاله بالسرعة التي كانت ينتظرها منها، فألحَّ قائلاً:‏

    - لا تستحيي! ألم يتخل عنك حياؤك بعد وأنت قد أصبحت امرأة... وأماً؟ قولي أهو يشبهني؟‏

    وحركت شفتيها، ولكنها لم تستطع أن تخرج كلمة، فثار الشيخ:‏

    - لا تنسي أنك متزوجة، ولا فائدة من حياء المتزوجة أمامي. الحياء لا يدخل صومعتي! وأحست كأن قوة تدفعها إلى الكلام، فقالت وهي تنظر إلى البركة وعلى فمها شبه ابتسامة:‏

    - لقد نظرت إليه بنفسك، فهل وجدت حقاً شبهاً؟‏

    رفع الشيخ رأسه، وهو يوسع من نظرته، ثم أحناه نحو البركة وقال:‏

    - لقد قلت لك من جهتي أنه يشبه صورتي!‏

    قالت بلهجة قاطعة:‏

    - كلا. أنه لا يشبهك.‏

    واعترت الشيخ رجة:‏

    - ماذا تقولين؟ لا يشبهني؟‏

    وسكتت مرة أخرى، فهي تخشى أذاه، وقد ظنت أنها أخطأت بهذا الجواب، فقال في عصبية:‏

    - افصحي عما تعنينه؟‏

    وجمعت نفسها وقالت:‏

    - كلامي واضح!‏

    ونظر في عينيها مهدداً‏

    - تعنين أن البركة من زوجك؟‏

    قالت بعد تردد:‏

    - نعم . أنه يشبه زوجي!‏

    قام الشيخ يدور في غرفته.. التي يسميها الصومعة! يدور حول الصبية وهو ينظر إلى البركة.. بركته.. من عل.. والبركة نائم يحلم ويبتسم للملائكة. وراح الشيخ يعمل فكره في الأمر من أوله إلى آخره، لابد أن يحصل منها على جواب شاف. أن تجد هذا الشبه بزوجها. إن الذي يبدو له أن البركة من صلبه لا من صلب زوجها. وعاد يسألها من جديد:‏

    - أين تجدين هذاالشبه؟‏

    مسحت بيديها أكثر من مرة على كتف البركة النائم، ثم قالت:‏

    - في وجهه طبعاً.‏

    فسألها:‏

    - وهل لديك دليل آخر؟‏

    قالت:‏

    - ربما.‏

    نظر الشيخ إليها، وسوى العمامة بيده فوق رأسه، وعدل من جلسته، وأخيراً قال:‏

    - تقولين ربما. الطفل لا يزال صغيراً.. ها!‏

    أجابت:‏

    - نعم. هذا ما أردت قوله.‏

    وعرف الشيخ من جوابها أنها مصرة على ماقالته، فعاودته ثورته:‏

    - هل يعني هذا أنك متأكدة؟‏

    فرفعت نظرها إليه وقالت بهدوء:‏

    - قلت ربما، ملامح الطفل قد تتغير هذا كل شيء!‏

    وخطرت بذهنه فكرة، فسألها:‏

    - كم عمر البركة الآن؟‏

    قالت:‏

    - شهران!‏

    ***‏

    شعر الشيخ بنوع من الاطمئنان، وانطلق مع أفكاره.. كانت قد جاءته قبل مايزيد على عام في أول الخريف.. في يوم بارد مطير. بهرته برونق محياها، وبياضها الناصع وبرشاقة جسمها، فأحس بالدفء، وعقد النية على أن يمنحها بركته على نحو خاص. كان قد مر على زواجها أكثر من ثلاثة أشهر دون أن تشعر بشيء، فبدأت الوساوس تغزو وجدانها الصبي، وعندئذ أغرتها صديقة لها بالذهاب إليه.. فلن تجد في أي مكان آخر البركة التي تجدها عنده. ورافقتها بنفسها إليه.. حتى تكون لها عنده سنداً، لكن الشيخ لا يمنح بركته إلا على انفراد، لذلك أرسل الصديقة إلى غرفة الانتظار، وعندما خلا بها وهي جالسة قبالته، صارحها وهو ينظر إلى محياها الطفلي الوديع.. بأنها لن تشعر بشيء دون بركته.. تماماً كما كان الأمر مع صديقتها التي صاحبتها إليه، فآمنت الصبية ببركته، وابتهجت لما قاله لها، وقالت له، وهي تنظر إلى الأرض:‏

    - لقد جئت إلى بركتك، ياسيدي!‏

    فابتسم الشيخ:‏

    - يسرني أن تفهمي بهذه السرعة، ياصبية، لن يكون لك مني إلا مايطيب خاطرك. عندي لك بركة خاصة!‏

    فنظرت إليه في توسل:‏

    - لابد أن تكتب لي حرزاً.‏

    فامتعض الشيخ من هذا الطلب. وقال لها:‏

    - أكتب لك حرزاً؟‏

    فهزت رأسها وهي تقول:‏

    - هذا ماأريده منك.‏

    ابتسم الشيخ عندما طرأت على ذهنه فكرة في تلك اللحظة، وقال:‏

    - أظنك لم تفهميني.‏

    فسألته:‏

    - كيف لم أفهمك؟‏

    أجاب مبتسماً:‏

    - أعني أنك لم تفهمي طبيعة بركتي.‏

    قالت بعد أن جمعت أطراف أثوابها:‏

    - أليست بركة سيدي في الحرز؟‏

    فرد الشيخ قائلاً:‏

    - كلا.. إنك لم تفهمي تماماً. في حالة كحالتك أنت.. لا بركة في الحرز.‏

    فاندهشت لقوله، وبادرت تسأله:‏

    - في أي شيء إذن هي هذه البركة؟‏

    قال الشيخ بسرعة:‏

    - في القراءة فوق البطن ، ياصبيتي.‏

    توسلت الصبية:‏

    - ليكون النجاح مضموناً أريد أن أحقق -إن شاء الله- أمنيتي بالاثنين معاً.‏

    فاحتج الشيخ:‏

    - لا.. لا. فلنترك أمر الحرز الآن، الكتابة بالنسبة إليك.. قراءة.‏

    وأعجبته عبارة ... الكتابة... قراءة، ورددها في نفسه حين سمعها تقول:‏

    - كما تشاء ياسيدي! ولو أنني أفضل البداية بالحرز، فهو معروف عندي.‏

    قال الشيخ:‏

    -هل فهمت الآن ماقصدته؟‏

    قالت الصبية:‏

    - أظنني فهمت... القراءة فوق البطن.. وأنا مستعدة.‏

    حرك الشيخ رأسه:‏

    - لست أراك مستعدة، لم تتصوري بعد معنى القراءة عند بركتي!‏

    فسألته:‏

    - ماذا تعني عندك؟‏

    وعلق الشيخ نظره فوق فمها، ثم تركه ينسحب فوق جسمها الغض، وجلس أمامها على ركبتيه، وأجابها قائلاً:‏

    - ستفهمين معناها شيئاً فشيئاً، والآن ابتدئي الفهم معي... ياصبيتي!‏

    وأمرها أن تتعرى في حجره، ففزعت وبرزت عيناها خوفاً، ولكن الشيخ استطاع أن يقنعها بلباقته.. أن الكلمات، التي سينطق بها فوق بطنها في أثناء القراءة، لا تكتب إلا بالأنفاس.. يجب أن يلامس جسده كله من خلال أنفاسه الدافئة.. ذلك شرط النجاح وضمانة. وأكد لها أن عليها أن ترضى بذلك إذا كانت تريد أن يدخل نور البركة بطنها. وكرر أكثر من مرة:‏

    - لاحياء في البركة.. لا حياء في البركة!..‏

    واهتز الشيخ، وهو يقرأ كلمات وكلمات.. وعدل من وضعها ومن وضعه.. وأنهى قراءته الطويلة فوق بطنها.‏

    ***‏

    حسب الشيخ الأيام والشهور... وهتف فجأة من أعماقه... وماذا يهمك أنت الآن، ياشيخ؟ أتحرص على أن يكون لك هذه البركة بالذات؟! أمجرد أن تفخر أنه منك؟ لعل حملها تأخر لسبب ما... لمرض مثلاً. لعلها تناولت دواء ما، وقد يكون باريها قد رزقها دون أن تكون في حاجة إلى سواه، دعك من هذا إذن وفكر في شيء آخر أنفع لك. والتفت إليها أخيراً، وقال:‏

    - هذا أحسن، ياصبية. لا يهم أن يكون ابن زوجك!‏

    وفكر لحظة ثم أضاف قائلاً:‏

    - على أية حال لقد عدت إلي... وجئت معك بالبركة. إنه ثمرة قراءتي كيفما كان الأمر. وتوقف لحظة، وكان يطارد فكرة لم تتضح في ذهنه بعد كما ينبغي. ودارت في ذهنه فجأة عبارات محددة، لم يلبث أن هتف بها في نفسه، من قرأ كتب، ومن زرع حصد، ومن غرس.. أكل غلته!.. وسألها وهو ينظر إلى صدرها:‏

    - وكيف هو الحليب؟‏

    فتساءلت مستغربة:‏

    - أي حليب؟‏

    أوضح الشيخ قوله:‏

    - حليبك طبعاً.‏

    فأجابت:‏

    - جيد...له.. للرضيع مايفيه وزيادة.‏

    قال الشيخ:‏

    - لن يعيش البركة طويلاً، أقول قد لا يعيش طويلاً.‏

    برزت عيناها فزعاً:‏

    - يامصيبتي. لن يعيش طويلاً!‏

    وضع سبابته اليمنى فوق صدغه كمن يفكر، ثم قال:‏

    - ربما. إلا إذا نحن حميناه من العين.. الضاربة.‏

    فقالت بسرعة:‏

    - احمه أنت، ياسيدي!‏

    قال الشيخ وعينه على الصبي النائم:‏

    - ذلك ممكن، ولكن بشرط.‏

    تساءلت في لهفة:‏

    - وماهو هذا الشرط ياسيدي؟‏

    قال الشيخ:‏

    - الشرط أن أمنحه بركتي.‏

    فتضرعت إليه:‏

    - امنحه، ياسيدي، ولك ماتطلب من مال.‏

    فحرك يديه إلى أعلى، وقال:‏

    - المال مفروغ منه، فأنا أعرف ذلك من المرة السابقة، لكن...‏

    فقاطعته في لهفة:‏

    - لكن ماذا، ياسيدي؟‏

    قال ببطء:‏

    - لكن الأمر يتعلق بشيء آخر.‏

    حضنت ابنها النائم، وقد عاد يبتسم مع الملائكة..بيدها اليمنى، وقربته من صدرها الدافئ، وسألته:‏

    - ماهو هذا الشيء، قل لي، ياسيدي!‏

    فطمأنها:‏

    - لا تفزعي. إنه شيء بسيط، لا يستحق أي خوف أو فزع!‏

    شعرت بالاطمئنان فعلاً، وقالت له:‏

    - لك ماتريد . المهم أن يعيش ابني. حياته حياة أبيه، فهو فخور به جداً.‏

    قال الشيخ في فرح:‏

    - أنت تعرفين بركتي!‏

    قالت بلهجة حازمة:‏

    - طبعاً أعرفها القراءة على بطن الطفل في هذه المرة.‏

    وضحك الشيخ حين شرعت في فك قماط الطفل، وقال لها:‏

    - لا لا ياصبيتي! أعطيني الطفل!‏

    وأخذ الطفل منها ووضعه على مقربة من مجلسه، وأضاف قائلاً:‏

    - القراءة حقاً، ولكن ليس على بطن الطفل، ويضاف إليها شيء آخر.‏

    فتنهدت وقالت:‏

    - ألا ينتهي هذا الشيء الآخر؟ وماهو هذا الشيء، قل لي!‏

    ولم يفكر الشيخ طويلاً، بل أسرع يقول:‏

    -الحليب!‏

    واعترتها الدهشة من جديد، وسألته:‏

    - ماشأن الحليب ؟ لقد أخبرتك بذلك. فيه كفاية والحمد لله.‏

    حرك الشيخ شفتيه كمن يتلمظ، ثم قال:‏

    - لابد أن أبارك أيضاً الثديين ، اللذين يخرج منهما غذاء الرضيع.‏

    قالت وهي تكاد تتفجر بكاء:‏

    - هذا أيضاً!‏

    مسح الشيخ بيدها على وجهها، وقال مهدئاً إياها:‏

    - ألم تقولي أن لديك منه الكفاية؟ ألا تريدين أن يعيش ابنك؟ ألم تقولي إن حياته حياة أبيه؟‏

    وأطرقت تفكر، فرفع رأسها إليه، وأضاف قائلاً:‏

    - حياة لأبيه وبركة لي!‏

    وغمرها حبها لزوجها، وحبها لفلذة كبدها، فخيل إليها أن كل هذا من أجلهما، كل هذا الذي تفعله لهما. واغرورقت عيناها حباً لهما، وكأنها لم تعد ترى غيرهما عبر هذه الدموع!‏

    وبعد خروجها حاملة بين ذراعيها طفلها كما دخلت، بقي الشيخ جالساً في مكانه يضحك. وتجشأ بحدة، ثم ضرط بحدة أكثر، وحين دخلت الزائرة الموالية، ظهر له أن يؤدي فريضة الصلاة قبل أن يحقق رغبتها ويمنحها بركته!

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()