(إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)
كتبه: ياسر برهامي.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فمواقف الأنبياء نقاط ضياء منيرة تبين للمؤمن عبر الزمان والمكان حقيقة العبودية، وتعرّفه بحكمة الله -تعالى-، وترشده إلى التعامل مع الواقع الذي يعيش فيه، الواقع المليء بأنواع الآلام والأحزان، كما هو مليء بأنواع الفرح والسرور، ويعيش الإنسان بين هذه وذاك في حياته كلها من أول وجوده فيها إلى أن يرحل بين لذة وألم، ولين فرح وحزن والله -تعالى- يداول الأيام بين الناس، لكن مواقف الأنبياء تبين للمؤمن ما يفعل حين يواجه شيئاً من ذلك.
ومعرفة الأسماء والصفات هي الركن الركين في إيمان المؤمن، فهو دائما يفزع إلى الله ويلجأ إليه، لأنه يعلم حكمته وحمده وملكه وقدرته وعظمته، لا يعلمه مجرد كلمات تقال، ولكنه يشعر بها ويشهد آثارها كالشمس في وضح النهار، ولكن أكثر الناس تعمى قلوبهم فلا يشهدونها، ولو تأملت أي صفة من صفات الله، وتدبرت ما حولك من الكون لعلمت يقيناً أن آثارها أوضح من شمس النهار، فمثلاً صفة الرحمة من صفات الله -تعالى-، فهو الرحمن الرحيم، وهما اسمان من أسمائه الحسنى، وكتب -سبحانه- على نفسه الرحمة، ولو تأملنا ما في قلوب الخلق من رحمات ينشئها الله -تعالى- من العدم، كرحمة الأب لبنيه، والأم لأولاده، ولم يكن لهم بهم قبل ذلك فكر، ولا يخطر على بالهم وجود هؤلاء الأولاد، ثم يخلق الله الأولاد، ويخلق في قلب الأب والأم من الرحمة ما يدلك على اتصاف الله بهذه الصفة أعظم مما يتراحم به الخلائق فيما بينهم، وانظر إلى آثار رحمته بالأرزاق التي أعطاهم إياها، مما هيأ لم من أسباب المعاش واستمرار الحياة، ومما هيأ لهم من نزول المطر وجريان الأنهار ونبت الزرع الثمار، واستمرار أنواع اللذات لهم، فانظر إلى آثار رحمته الواسعة التي وسعت كل شيء.
فما من مخلوق إلا وله منها نصيب، حتى الكافر يناله من هذا النوع من الرحمة نصيب.
ثم تدبر ما في قلوب المؤمنين من حبه -تعالى- ومعرفته، واللجوء إليه، والخوف منه، والتعبد له، ولاستسلام لشرعه.
تدبر ما أنعم الله -تعالى- به عليهم من هذه الرحمة الخاصة، الرحمة بالإسلام، والرحمة بالدين، أم عليهم النعمة، ورحمهم رحمة كانوا قبلها في ضلال مبين، معذبين يحيون حياة فيها من النكد والشقاء والتعب ما يكون سبباً في أنواع الآلام والمحن، ثم قد منَّ الله عليهم ببعثة رسله الكرام، وتزكية أنفسهم بما ربوهم به، فشهد من ذلك رحمة واسعة، وإذا قلت ربِّ ارحمني لم تقصد فقط أن يزيل ألمك إن كنت متألماً، أو جوعك، أو عطشك، ولم تقصد فقط أن يفرج كربك، أو يقضي عنك دينك، إنما تقصد في المقام الأول أن يأخذ بقلبك وناصيتك إليه، حتى تعرفه وتحبه وتلجأ إليه وتعظمه وتعبده، فأنت بذلك ترحم في الدنيا والآخرة أوسع الرحمات، رغم ما يكون عندك من الألم.
والذي يجسد لك هذا الأمر لتستحضره وترى آثاره مواقف الأنبياء -صلوات الله عليهم أجمعين-. هذه المواقف تغير من سلوكنا إذا تدبرناها، وتأسينا بها.
ومن المواقف التي تهز المؤمن موقف يعقوب -عليه السلام- في الشكوى إلى الله، والناس يتفاوتون تفاوتاً عظيماً في إدراك ما تضمنه هذه المواقف من معانٍ إيمانية، فمن الناس من يمر عليها دون أن يفقه منها شيئاً أو يأخذها كقصة يتسلى بها، ولكن هذه المواقف تهز وجدان المؤمن.
نتناول موقف يعقوب -عليه السلام- حين جاءه خبر قاس شديد، وهو خبر ابنه الثاني، أنه أُخذ رقيقاً، وأنه قد سرق، وهذه أشد، وهو يعلم عنه أنه لا يمكن أن يكون كذلك، ثم بعد ذلك أنه قد أصبح عبداً ولن يعود إليه ثانية، فقد أخذه عزيز مصر أسيراً لديه، بعد أن أقر إخوته بأن الشريعة عندهم أن من سرق شيئاً فهو جزاؤه، والتزموا له بذلك، وما يظنون أن أحداً منهم يسرق، خاصة بنيامين الابن الحبيب الثاني إلى يعقوب -عليه السلام-، الذي كان يسلي له نفسه عن ابنه يوسف أكرم الناس، كما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله) رواه البخاري.
فكان يسلي نفسه به، فإذا به يأتيه خبر شديد، كيف يمر عليه؟ وكيف يصدقه؟ وهو لابد أن يكذب. (يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ)(يوسف:الآية81). ما كنا نعلم ذلك حتى لا نلتزم بأنه يكون رقيقاً (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا). ومن أين ليعقوب أن يسأل بعد الكبر؟ فهل سوف يذهب إلى مصر ليتحقق من صدق بنيه؟! ثم يعلمون أنه لا يفعل ذلك (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) (يوسف:82)، وهذه أقرب ليعلم صدقهم، لكن كان الأمر أبعد من أن يكون هناك محاولة للتجربة. وليس فقط أنه فقد ابنه الثاني، بل والثالث لم يرجع حيث قال: (فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)(يوسف: الآية80).
فتجدد عنده الحزن القديم، والعجيب أن يصيب يعقوب -عليه السلام- حزن وهم وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وهو كريم على الله -تعالى-، وله من المنازل العالية والفضائل السامية ما يرفعه إلى أعلى المقامات، مقامات الأنبياء والرسل الكرام -عليهم الصلاة والسلام-، لكن يقدر الله -تعالى- له من الحزن والألم يا يجعلك في أي موقف من مواقف حياتك إذا وجدت ألماً وحزناً فقارنته بما أصابه يتضاءل أمرك ويتضاءل حزنك بالنسبة إلى ما أصاب يعقوب.
ولحديثنا بقية بإذن الله تعالى