مع تنامي المعرفة العلمية بأسباب البدانة(التي لم تصل إلى إجابةٍ قاطعةٍ)، أصبحت البدانةُ اليومَ تعرفُ إلى حدٍّ كبيرٍ كمُسببٍ للعديد من المشاكل والصعوبات النفسية والاجتماعية،لا كنتيجةٍ لتلك المشاكل أو الصعوبات، فقد ربطتْ البدانةُ لفترةٍ طويلةٍ في أذهان الأطباء والعامة من الناس على حد سواء بالعوامل النفسية،
وقد ساعدت نتائجُ الدراسات النفسية القديمة في تعزيز ذلك المفهوم العام بأن الاضطرابات النفسية بوجهٍ عامٍ منتشرةٌ بينَ البدينين وتلعبُ دورًا مهما في إحداث البدانة، وأما التوجهُ الجديدُ في نتائج الدراسات العلمية فإنهُ يشيرُ إلى أن الاضطرابات النفسية الموجودةِ لدى الشخص البدين غالبًا ما تنشأُ من تمييز المجتمع وتقديره واحتفائه بالجسد النحيل، مع رفضه المعلن أو المستتر للبدانة بل وسخريته أحيانًا من الجسد البدين، وكذلك كنتيجةٍ لدخول الشخص البدين في متاهات الحمية المنحفة ومحاولات إنقاص الوزن بكل ما ينجمُ عن ذلك من اختلالات في توازنه النفسي والجسدي.
0وتشيرُ أحدثُ الدراساتِ إلى عدم وجود سماتٍ نفسيةٍ عامةٍ تميزُ الشخص البدينَ بعكس ما كانَ متفقًا عليه في وقتٍ من الأوقات، فكل الشخصيات إذن يمكنُ أن تصابَ بالبدانة وتتفاعلَ معها، و بالرغم من عدم وجود صورةٍ واضحة المعالم لعواملَ نفسية أو سلوكية تؤدي إلى البدانةِ، وبالرغم من عدم احتواءِ أي تصنيفٍ مشهورٍ للأمراض النفسيةِ والسلوكية على راموزٍ تشخيصيٍّ Diagnostic Codeخاصٍ بالبدانة،(فيما عدا الحالات التي يتوفرُ فيها دليل قاطعٌ على دورٍ للعوامل النفسية والسلوكية في تسبيب البدانة) بالرغم من ذلك فإن هناكَ مجموعةٌ من المصابينَ بالبدانةِ يظهرونَ إفراطًا في الأكل نابعًا من ومبنيًّا على عواملَ نفسيةٍ.
فقد بينت دراسةٌ أجريت عام 1990 أن 23% إلى 46% من رواد مؤسسات التنحيف يقررون وجود مشاكل شديدةٍ تتعلقُ بنوباتِ الدقر(الأكل الشره) التي تنتابهم نتيجةً لاستثارة مشاعرهم بشكلٍ أو بآخر، كما أن هؤلاء الذين ينخرطونَ في نوبات الدقر توجدُ لديهم اضطراباتٌ نفسيةٌ مختلفةٌ(فهم أكثرُ عرضةً لاضطراب الاكتئاب الجسيم خمسة أضعاف الآخرين)وباضطراب الرهاب الاجتماعي أربعةَ أضعاف الآخرين وهم عرضةٌ أيضًا لإساءةِ استخدام العقاقير وللعديد من المشاكل السلوكية بمعدل ثلاثة أضعاف الآخرين، وللإصابةِ باضطرابات القلق الأخرى بمعدل ضعف الآخرين) والآخرون هم المصابون بالبدانة دونَ أن يقرروا معاناتهم من نوبات دقر وهؤلاء الذين يعانونَ من نوبات الدقرهم من أصبحَت حالاتهم تدرسُ تحت اسم اضطراب نوبات الدقر أو اضطراب القشم القهري.
إلا أن هذه الدراسةُ وأمثالها لا تمثلُ الحقيقةَ المعبرةَ عن المجتمع لأنها أجريت على مجموعة معينةٍ من المصابين بالبدانة وهيَ المجموعة التي لجأت لمراكز التنحيف، ولهذا السبب أجريت دراساتٌ أحدثَ على عينات من الجمهور العادي وتمت فيها مقارنةُ المصابين بالبدانة بغيرهم من ناحية الاكتئاب وتوكيد الذات Self Assertion والعوامل الإمراضية النفسيةُ العامة General Psychopathology، ولم تجد فروقًا ذات دلالةٍ إحصائيةٍ بين الفريقين، وبالرغم من ذلك فإن المشاكل والمصاعبَ الاجتماعية التي يواجهها الشخص البدين خلال تعامله مع الآخرين في مجتمعه وإحساسه بالتمييز الاجتماعي تجاهه تظلُّ سببًا كبيرًا ومستمرًّا للمعاناة النفسية، وقد بينت دراساتٌ أجريت في الثمانينات وجودَ توجهات سلبيةٍ ضد البدانة حتى في الأطفال، كما تبينَ عدم حبِّ الأطفال للعب مع الطفل البدين،
ولما كانَ من الشائع أن يلجأَ الشخصُ البدينُ إلى اتباع نظامِ حميةٍ فإن الدخول في الحمية هو الباب الذي يمرُّ العديدونَ منهُ إلى الاهتمام المفرط بالوزن وبالأكل وشكل الجسد، واضطرابات الأكل بالتالي، وقد اشتهرَ في تواريخ مرضى اضطرابات الأكل وجود البدانة القبمرضية Premorbid Obesity خاصةً في حالاتِ النهام العصبي حيثُ كانتْ نسبة البدانة القبمرضية بين 18%- 40% بينما كانت نسبتها في حالات القهم العصبي بينَ 7%-20%، وإن كانت الآلية التي يؤدي بها اتباع نظام الحمية المنحفة إلى ظهور أعراض اضطرابات الأكل لم تفهم بالشكل الكامل بعد.
وأدت رؤيةُ البعض للبدانة على أنها علامةٌ على الفشل في تنظيم الذاتSelf-Regulation، إلى دراسة البدانة في مرضى اضطراب الشخصية الحدية أو البين بينية Borderline Personality Disorder، أو في المرضى اللذين تظهرُ عليهم أعراضُ سمات الشخصية الحدية Borderline Personality Symptomatology،
كما سار خطٌ من الأبحاث في اتجاه تأثير حدوثِ البدانة أو زيادة الوزن التي لا تصل إلى حد البدانة في الأطفال والمراهقين خاصةً من الإناث، وتأثير التعرض للسخرية بسبب شكل أو وزن الجسد في هذه السن على المتغيرات النفسية والمعرفية المرتبطة باضطرابات الأكل، فبينت نتائجُ معظم هذه الأبحاث أنهُ كلما زاد حجمُ ووزنُ الجسد زادَ احتمال وجود عوامل الخطورة الاجتماعية والنفسية والمنظومات المعرفية المشوهة التي تمثلُ جوهرًا مهما في مريضات الأكل،
وبينت أبحاثٌ عديدةٌ دلائلَ وعواقبَ التمييز الاجتماعي ضد الشخص البدين واهتمت أبحاثٌ أخرى ببيان ارتباط ذلك كله وتأثيره في صورة الجسد والنسق المعرفية المرتبطة بها، خاصةً تقييم الذات الذي يعتمد بشكلٍ أساسي على وزن وصورة الجسد.
ومعنى ذلك هوَ أن الوزنَ الزائدَ سواءً وصلَ أو لم يصل إلى حد البدانة في الأطفال والمراهقين إنما يشكلُ عاملَ خطورةٍ لحدوث اضطرابات الأكل بعد ذلك وخاصةً النهام العصبيَّ واضطراب نوبات الدقر وكذلك للقهم العصبي، وقد بينت دراسةٌ إنجليزيةٌ أجريت على البنات زائدات الوزن في مرحلة الطفولة المتأخرة أي ما قبل المراهقة Overweight Pre-Adolescent Girls أن لدى هذه الشريحة من البنات الكثير من الخصائص النفسية والمعرفية المرتبطة بحدوث اضطرابات الأكل فقد أبدينَ اهتمامًا زائدًا عن غيرهن بالوزن والأكل والحمية وكذلك اتضحَ اعتمادُ تقييم الذات بشكلٍ كبيرٍ على وزن وصورة الجسد.
* ومن الدراسات ما أشار إلى أن كثيرًا من العوامل النفسية التي تسبب البدانة يكمنُ في سلوكياتٍ لا واعيةٍ تجاه الأكل بمعنى أن الشخص البدين لا يعي الكميات التي يتناولها خلال اليوم، وقد استنتجَ ذلك في البداية من دراسةٍ إنجليزيةٍ طلب فيها من مجموعتين من النساء مجموعةٌ من البدينات ومجموعة من الرشيقات، أن تسجلَ كل واحدةٍ منهن كل ما تأكلهُ خلال اليوم لفترتين امتدت كل واحدةٍ منها أسبوعًا، فكانت النتيجةُ أن الرشيقات يأكلنَ أكثر من البدينات وهو ما دفع الباحثين إلى استنتاج أن البدينات لم يسجلن ما تناولنه بدقةٍ لأنهن غير منتبهات لما يأكلنه، ولكن مثل هذا الاستنتاج لم يكن كافيًا رغم أنهُ بدا التفسير الوحيد لكونهن بدينات في نظر الباحثين،
ثم جاء الدعم لهذه النتيجة من دراسةٍ أخرى كانت أكثر دقةٍ حيثُ بينت أن ثلثي البدينات يقدرن أكلهن أقلَّ من الحقيقة دون وعيٍّ منهن، فقد يتناولن قطعةً من الحلوى أو الشيكولاتة، أو يشربن كوبًا من العصير على سبيل المثال ولا يعتبرنه داخلاً ضمن ما يجب عليهن تسجيله، ثم جاءَ دعمٌ أقوى من نتائج دراسةٍ أمريكية أجريت عام1992 على أحد عشر بدينًا من المقاومين للحمية(أي الذين لا تستجيب أجسامهم لنظام الحمية)، فقد تبينَ أن تقيمهم لما يتناولونه من طعامٍ يجيء أقل من الحقيقة، بينما تقييمهم لمعدل تريضهم أو المجهود البدني الذي يبذلونه يجيء أكثر مما هو في الواقع