المزايا الاقتصادية تَجُبُّ التناقضات السياسية:
وقد تكرّرت خلال التسعينيات الميلادية الإشارة إلى استغلال أطراف أوربية منافسة لألمانيا التردّد الألماني- بحجة الماضي التاريخي مع حقوق الإنسان- لتقوم هذه الأطراف بتحقيق أهدافها على حساب ألمانيا في بلدان معينة مثل إيران والصين.. ورغم ضعف هذه الحجّة فلا يستهان بتأثيرها في تقبّل الرأي العام الألماني للتحوّل إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والمالية، كما هو الحال الآن مع إيران، مع استمرار غلبة الموقف السلبي في النظرة العامّة إلى السياسات الداخلية الإيرانية، ولا سيما على صعيد حقوق الإنسان، وهي نظرة لا يكفي لتفسيرها النظر في أحداث معينة مثل "ميكونوس" و"هوفر"، وإنما تأخذ موضعها في الحملة الأوسع نطاقا لاعتبار "الإسلام" نفسه هو الحاضنة الرئيسية للأفكار والتصورات التي تؤدّي إلى انتهاك حقوق الإنسان، وممارسـة الإرهاب، وتثبيت أركان الاستبداد. وحتى الحديث عن تيار إصلاحي في إيران بزعامة محمد خاتمي، لا يخلو في وسائل الإعلام الألمانية من الإشارة إلى أنه "ينتمي أيضًا للتيار الإسلامي"، بمعنى أنّه لا ينتظر منه الكثير، ولكن يكفي أنه يزعزع استقرار سيطرة التيار المتشدّد. وكان من المنتظر أن تجد مداخل التأثير هذه على العلاقات الإيرانية-الألمانية نهايتها آجلا أو عاجلا، إلا أن الاعتبارات التجارية والاقتصادية أقوى تأثيرًا على الرأي العام في الغرب عمومًا بما فيه ألمانيا.
ورغم استمرار حفاظ ألمانيا على مكانة متقدمة في العلاقات التجارية والاقتصادية الإيرانية عالميًّا، فقد كان في الإمكان تطويرها بدلًا من ضمورها الشديد في فترة التسعينيات الميلادية، ولا ريب أن العوامل السياسية من الجانبين هي التي عرقلت مسيرة التعاون الاقتصادي والتجاري بينهما، منذ أوقف العمل في منشأة "بوشير" للطاقة النووية بعد إسقاط الشاه بفترة وجيزة، وحتى ذروة القطيعة عندما أصدر المجلس النيابي الألماني قرارا يطالب وزير الخارجية السابق "كلاوس كينكل" بإلغاء زيارة وفد إيراني يشارك في مؤتمر حوار بين الإسلام والغرب دعت إليه ألمانيا في حينه، فألغى "كينكل" المؤتمر نفسه رغم وصول الوفود الأولى إلى بون آنذاك.
ويرمز إلى التحوّل الكبير في وجهة العلاقات الآن أن وزير الخارجية الحالي "يوشكا فيشر" كان آنذاك من أبرز من تزعّم تلك الحملة ضد إيران، وبالمقابل هو الذي بدأ فتح صفحة جديدة الآن بزيارته لإيران قبل أسابيع معدودة .. كذلك يرمز إلى التحوّل الكبير الجديد أن السياسة الرسمية الألمانية كانت تورد- ولو على سبيل التضامن مع السياسة الأمريكية- أن تطوير العلاقات مع إيران مشروط بتبدّل "السياسة الإيرانية في الشرق الأوسط"، والمقصود مضي الحكومة الإيرانية مع الحكومات الأخرى في المنطقة، التي فتحت أبواب التسويات السلمية في قضية فلسطين على مصراعيها، وبالمقابل تأتي زيارة خاتمي الآن بعد فترة وجيزة من استعراض تأثير السياسة الإيرانية المعروف في جنوب لبنان، وكذلك رغم الاحتجاج الرسمي الإسرائيلي في برلين والمطالبة بإلغاء الزيارة بعد إدانة القضاء الإيراني لعدد من اليهود (والمسلمين) الإيرانيين بتهمة التجسس لصالح الإسرائيليين والأمريكيين.
والمؤكّد أن تحسين العلاقات الإيرانية-الألمانية سيترك أثره على السياسة الأوروبية بمجملها تجاه إيران، ويرجح أن تشهد هذه السياسة نشاطًا واسع النطاق في الفترة المقبلة، بفضل موقع ألمانيا داخل الاتحاد الأوروبي من جهة، والتنافس الشديد بين الأوروبيين في المجالات الاقتصادية والاستثمارية من جهة أخرى. وما دام جوهر البداية الجديدة التي صنعتها زيارة خاتمي في الجانب الاقتصادي والتجاري، فمن المتوقع أن ترتفع وتيرة تبادل الزيارات على مستويات كبار المسؤولين في إيران ودول أوروبية أخرى.. إلاّ إذا وقعت مفاجآت أو نصبت كمائن جديدة، ووقعت فيها السياسة الداخلية في إيران على وجه التخصيص.