ينما يتهيأ الطفل للعالم الخارجي تبدأ عملية رائعة بين الأعضاء في تقسيم العمل والأعمال والتطورات الواجبة قد غيرت ونظمت حسب شروط وظروف العالم الخارجي فالعينان اللتان لا يستعملهما الجنين في بطن أمه قد نظمتا حسب شدة الضوء في العالم الخارجي، ونظمت الأذنان حسب صفات الأصوات في الدنيا، وكذلك جهزت المعدة والأعضاء الأخرى في الجهاز الهضمي بأنظمة فسيولوجية مناسبة للأغذية الموجودة في الدنيا . وقد تمت برمجة الخلايا الموجودة في الجهاز الهضمي بحيث تستطيع القيام بتحليل أغذية لم تعرفها من قبل وهي تملك قابلية تحليل
الكاربوهيدرات والبروتينات والدهون كما أنها مجهزة بمخطط تعرف بموجبه أي الأعضاء في حاجة إلى أي نوع من الغذاء، فترسل تلك الأغذية إليها .وهكذا يهيأ الجنين بشكل مخطط ومبرمج للعالم الخارجي . وهنا نلفت الأنظار إلى أعضاء جسد هذا الوليد الجديد قد تهيأت للعالم الخارجي الذي لم تره ولم تسمع به ومحيط وجو لم تعرفه . وعندما يفارق الجنين جسد أمه تنمو أعضاؤه وكأنها تعرف البيئة والمحيط الذي ستواجهه، ويستحيل طبعاً عزو هذه المعرفة إلى " النطرة المستقبلية البعيدة للأعضاء " ! إن هذا التهيؤ الواعي الذي تقوم به خلايا الوليد بإلهام من الله تعالى دليل مهم من أدلة الخلق .
في الشهرو الأخيرة من الحمل يزداد وزن الجنين زيادرة ملحوظة، ويرجع السبب في هذا إلى بدء تكون الأنسجة الدهنية والخلايا التي تصنع الطبقة الدهنية ذات لون بني وهي تصنع وتكون هذه الطبقات الدهنية خلف الرقبة وحول الكليتين وخلف عظام الصدر ووظيفة الطبقات الخاصة من الدهن المحافظة على حرارة جسم الوليد عاليةًَ في الأشهر الأولى بعد الولادة، كما تشكل هذه الطبقات الدهنية غذاء احتياطياً للوليد [1]
وهذا دليل آخر علي قيام الخلايا الصانعة للطبقات الدهنية بأداء عملها على الوجه الأكمل حسب الواجبات الملهمة لها .
في هذه الأثناء تبدأ الدهون البيضاء بالتكون بطبقة رقيقة ،وهكذا يلف الدهن جلد الجنين بطبقة تحت الجلد . وبجانب طبقات الدهن تحت الجلد تقوم خلايا الجلد بصنع دهن آخر تكون وظيفته حفظ الجلد من السائل الموجود فيه . ومن المهم جداً تكون هذه الدهون لأن الطبقة الدهنية تكون فاصلاً بين الجلد وبين الماء فتمنع بذلك أي تأثير سلبي للماء على الجنين .
قلنا في الفصول السابقة إنه لا يسمح لعناصر نظام الدفاع والمناعة الموجودة في دم الأم بالدخول إلى دم الجنين لأن هذه العناصر تعد الجنين جسماً غريباً، لذلك كان من المحتمل القضاء عليه . ولكن ما أن يأتي الشهر التاسع حتى يتغير هذا الوضع فجأة، حيث تنتقل الأجسام المضادة ( وهي خلايا دفاعية ) من دم الأم إلى الجنين عن طريق المشيمة . وعندما نبحث عن سبب هذا الأمر تفاجأ بحقيقة مذهلة تماماً، فخلايا الدفاع لا تتكون عند الوليد الجديد طوال ستة أشهر، ولكن الطفل الوليد في حاجة إلى الأجسام المضادة للدفاع عن نفسه ضد الجراثيم، ولذلك تقوم الأجسام المضادة العائدة للأم .
( والتي سمح لها بالدخول إلى دم الجنين في الشهر الأخير من الحمل ) بوظيفة الدفاع عن الجنين عند أول قدومه إلى الدنيا ضد الأمراض المعدية وضد الجراثيم
وبعد مضي عدة أشهر يبدأ النظام الدفاعي والمناعي عند الوليد بصنع الأجسام المضادة، وعند ذلك توقف الأجسام المضادة المتنقلة إليه من أمه أعمالها .
وهذا الأمر الذي لخصناه قبل قليل مثال من الأمثلة العديدة التي شرحناها من قبل والتي تدل على التخطيط الرائع الموجود في خلق الإنسان، فقد حسبت جميع التفصيلات الدقيقة الخاصة بالشروط التي يجب توفرها لتكوين إنسان جديد في شهر وفي كل يوم وفي كل دقيقة، حيث يحتاج فيه الجنين إلى هذه المواد حتى يلغي النظام السابق بدقة ويحل محله نظام رائع آخر .و لا شك أن مثل هذه العمليات الرائعة لا تتم بإرادة ورغبة الخلايا وقرارها ،وكل هذه الأمور أدلة على الخلق بواسطة القدير العزيز ودون مثال مسبق .
وكما يظهر من الأمثلة المعطاة فإن كل مرحلة من مراحل نمو الجنين تخضع لرقابة دقيقة، والنمو يتم ضمن مراحل عديدة تنفذ حسب تخطيط كامل لا يخطئ، وفوق ذلك فقد مر كل إنسان عندما كان جنيناً بهذه المراحل ونما حتى وصل إلى وضعه الحالي . إن في هذا التصميم والتخطيط الرائعين الموجودين في خلق الإنسان آيات لكل متأمل ومفكر ذي عقل سليم .
الخلق من قطرة واحدة
تستمر فترة النمو طوال تسعة أشهر في رحم الأم دون قصور أو خلل، والجنين الذي دخل الرحم وهو قطرة واحدة يخرج منه وهو إنسان كامل .
ولو وقع أي خلل في هذه الفترة وخلال عمليات التحول فلا مفر من موت الجنين فمثلاً إن نما الدماغ بسرعة أكبر من نمو عظام القحف انحشر دماغ الجنين وتضرر، والشيء نفسه وارد بالنسبة للتلاؤم بين العظام والأنسجة، وكذلك في الأعضاء الأخرى كالعينين والرئتين والقلب وما يحيط بهذه الأعضاء من عظام . كما أن النمو المتناسق للأعضاء مهم جداً، فلو تأخر تكون الكليتين في أثناء تكون جهاز الدوران لتعذر تنظيف الدم ولتسمم الجسم . غير ن أي أمر من هذه الأمور لا يحدث بل يتنقل الجنين من مرحلة إلى أخرى بشكل سوي ويتم خلقه بكل كمال .
والقدرة الوحيدة التي خلقت هذا الإنسان من قطرة واحدة ثم سوته إنساناً هي قدرة الله تعالى القدير رب العالمين .
ويشرح الله تعالى في القرآن كيفية خلقه للإنسان فيقول : (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ {3} بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ {4}.
لا شك أن وظيفة الإنسان ـ حيال هذه الحقيقة ـ تجاه ربه الذي خلقه من نطفة فجعله سميعاً بصيراً مفكراً هو الحمد الدائم والقرآن الكريم يذكر هذه الحقيقة فيقول : (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ) (الملك:23).
نحو دنيا جديدة
عندما تتم جميع التحضيرات اللازمة لكي يخطو الجنين خطوته الأولى نحو دنيا جديدة يبدأ السائل السلي بفعاليات جديدة من أجل الولادة، حيث يقوم هذا السائل بتكوين أكياس صغيرة لتوسيع فم الرحم فيوصله إلى السعة اللازمة لمرور الطفل، وتقوم هذه الأكياس وتسيل السوائل منها مما يؤدي إلى جعل الطريق الذي يخرج منه الجنين لزقاً من جهة ومعقماً من جهة أخرى، وهذا الأمر يوفر ولادة سهلة ومحمية من الجراثيم أيضاً
وبالإضافة إلى هذه التحضيرات التي تتم في الرحم يجب توفر شروط عديدة في الوقت نفسه لكي يخرج الطفل إلى الدنيا بأمان . مثلاً يجب أن يتخذ الطفل أفضل وضع ملائم للعبور إلى الخارج، ولذلك يقوم بدوران تدريجي بواسطة حركات رجليه حتى يدخل رأسه في عنق الرحم .
ولكن كيف يستطيع طفل لم يخرج بعد إلى الدنيا معرفة أي الأوضاع هي الأنسب ؟
ومن أين له أن يعرف أفضل وضع وأنسبه للولادة ؟ وكيف يستطيع جنين في بطن أمه معرفة أنه قد حان وقت الولادة ؟ لا شك أن هذه تفصيلات مهمة جداً يجب الوقوف عندها والتفكر فيها . إن مثل هذه التصرفات الواعية التي يظهرها مخلوق لم يستكمل بعد أحاسيسه دليل واضح على أنها ليست نتيجة إرادته بل بإلهام من الله تعالى الذي أحسن خلقه .
توجد في أثناء ولادة الطفل أمثلة عدة لترتيبات معجزة . فمثلاً لكي تتحقق ولادة صحية يجب ألا يتضرر رأس الطفل وأن يكون له بنية خاصة تحفظه من الضرر عند الولادة، وعندما ننظر إلى جمجمة الطفل نرى تركيباً يوفر الحاجة، فهي تتكون من خمس عظمات يصل بينها نسيج مرن ولن هو نسيج اليافوخ هذا التركيب اللين والمرن يوفر مطاطية وليونة للرأس مما يساعد على عدم تضرر الرأس من أي ضغط يسلط عليه في أثناء عملية الولادة .
وقبيل ولادة الطفل تجري تحضيرات عديدة تحت فحوصات مكثفة، حيث تتخذ بعض الاحتياطيات لمواجهة بعض الاحتمالات . فمثلاً لتسهيل عملية الولادة والحيلولة دون حصول الالتهابات يدخل السائل السلي إلى الميدان .
وهنا يخطر على البال السؤال التالي: من الذي يسيطر ويتحكم ويقرر أن التحضيرات قد أكملت وأنه قد آن أوان الولادة ؟ من الذي دقق وفحص وعلم أن كل شيء قد تم : إن العينين مستعدتان للرؤية، وأن الرئتين مستعدتان للتنفس، وأن المفاصل قد كملت وأن الدماغ تشكل تماماً ودون نقص ؟ من يقوم بهذا كله ويخبر به الطفل ؟ .
لا توجد في جسم الجنين أية آلية تستطيع القيام بهذا الأمر . إن الدماغ الذي يعد مركز السيطرة ليس إلا عضواً نامياً مع الجنين، وحتى لو كان الدماغ كاملاً فلا يعني هذا شيئاً، لأن الجنين النامي حتى تلك اللحظة في بطن أمه يكون على جهل تام بالمحيط الخارجي ولا يمكن أن يكون على علم إن كان ببنية مناسبة للمحيط الخارجي أو لم يكن . كما أن الأم لا تستطيع تقرير وقت الولادة وتعينها لأنها عاجزة عن التدخل في أي مرحلة من مراحل العمليات الجارية في جسدها منذ اليوم الأول من الحمل، فكيف تستطيع إعطاء القرار وتعيين المرحلة الأخيرة ،أي تعيين وقت الولادة؟
لا شك في أن الله تعالى هو الذي يتصرف في هذه الأمور وهو الذي يقرر لحظة بدء الحياة في الدنيا لكل إنسان، فهو الخالق وهو العارف بكل لحظة من لحظات حياة كل إنسان وهو العارف بلحظة موته وانتهاء أجله في هذه الدنيا، وهو الذي يعين أجل كل إنسان .
ووظيفة كل عاقل عرف هذه الحقائق التفكر في خلقه ليكون شاهداً على القدرة اللانهائية لربه الخالق العظيم .والله تعالى يخاطب الناس في القرآن قائلاً :
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج:5).
أضغط على الصورة لتكبيرها