ولهذا السبب لم يحاول أحد من الأطباء أن يقارن نفسه بالدكتور تقرير في حالة التأخير عن الدوام أو طلب الإجازات.. ذلك أن الدكتور تقرير، استثناء خاص لا ينطبق عليه قانون العدالة والمساواة.
إزاء هذه الخصوصية والميزة التي يتمتع بها د. تقرير، لجأ إليه البعض من العاملين في المستشفى للتوسط عنده في أية مشكلة تعترض عملهم، أو مساءلتهم عن تقصيرهم.. وكانت طلباتهم تستجاب حالاً، ولكل استجابة مردود يعود إلى د. تقرير بشكل رموز على شكل خروف، أو سوار ذهبي، أو تحفة ثمينة.. وأهمية هذه الهدايا الرمزية، مرهونة بطبيعة المشكلة. فلا يصح مثلاً أن تكون عملية اختلاس أموال أو تزوير مساوية لتهريب كمية من الدواء والمعدات الطبية.. ولا تشبه هذه الحالة.. القضايا المتعلقة بالدوام، أو إهمال المرضى وخلق خصومات مع المراجعين.. لكل قضية حساباتها.. وحلولها.. والاتفاق بين صاحب المشكلة و د. تقرير.. اتفاق غير معلن، إلا أن الجميع يعرفون التسعيرة ويتبادلون أسرارها همساً.
وفي إحدى المرات ضاق صدر أحد الأطباء.. فرفع صوته شاكياً:
- لم هذا الإهمال من قبل الدكتور..
وسكت عندما أراد أن يذكر اسم د. تقرير.. ونسي مناداته باسمه الحقيقي، وفشل في استعادته على الاسماع.
سأله مدير المستشفى:
- ما الأمر.. يا دكتور؟
ولم يتكن الدكتور من إيقاف ثورة غضبه.. فقد كان المصاب فادحاً والأسى عميقاً..
- المريض.. مات، مات بسبب الإهمال وعدم وجود طبيب يراقب حالته الصحية..
وحاول مدير المستشفى التخفيف من حدة غضب زميله:
- الموت.. حالة طبيعية في المستشفيات.. يبدو أنك مازلت جديداً على المهنة.. فلم تألف مثل هذه الحالات!
- ولكن التقصير واضح.. والمسؤول عنه معلوم.
- وما الذي تريد أن تفعله الآن؟
- التحقيق في الموضوع.
بهت المدير لهذا المقترح.. وتلفت حاسماً جوابه بالصمت.. مستعيناً بزملائه على الإجابة.. ولم تكن إجاباتهم أكثر من الجواب الذي حسمه السيد المدير بالسكوت.
- ما بالكم.. كل هذا التجمع بسبب مريض.. مات؟!
ولم يلتفت إلى الطبيب الذي اتهمه بالإهمال.. وكأن الخبر لم يتسرب إلى أذنيه نقلاً عن أحد الذين يعلقون أهميتهم على أهمية د. تقرير. وانصرفوا جمعاً وفرادى. فيما بقي الدكتور الصائت خائراً أمام نفسه وهو يجد الجميع ينصرفون عنه ليبقى وحيداً.
*
همس.. فيه قدر من الذعر، وقدر من التوقع بدأ يلح. همس خاطب به مدير المستشفى زملاءه، وخاطب فيه الأطباء مرضاهم.. وانتقل الهمس إلى حشرجة وكتمان يختنق به المرض، وتتوجع فيه الجراح.
همس.. يأخذ على د. تقرير، تقصيره في معالجة مرضاه.
همس.. لا شأن لأحد الإصغاء إليه.. أو التفاعل معه.. ذلك أن كل همس يبوح، وكل بوح، مآله نتيجة ليست في صالح أحد.. فلم الهمس أصلاً، مادامت عيون د. تقرير موزعة في كل مكان.. ترصد الهمس مثلما ترصد البوح؟!
بعد أسبوع.. أسبوع بتمامه وكماله..
كان الطبيب الصائت؛ مهملاً في عمله.. ومن جراء ذلك عوقب بنقله وتأخير ترقيته.. كذلك صدر أمر من الجهات العليا بنقل مدير المستشفى وتولي د. تقرير مهمة المدير العام للمستشفيات في المدينة كافة.
وفي اليوم الأول لتسنم د. تقرير مهام عمله.. أصدر أمراً سرياً إلى مسؤولي كافة الأقسام ألزمهم بموجبه، كتابة تقارير يومية عن سير وسلوك وعمل وانضباط كل العاملين في القسم، معللاً السبب في إصدار هذا الأمر، الوقوف عند سلبيات العمل ووصولاً إلى نتائج إيجابية تخدم الصالح العام.
وخلال مدة قصيرة تجمعت التقارير أمام د. تقرير.. وباتت شاغله الأساس في تحري الدقة عن كل العاملين في المستشفى.. وحين مضت مدة لاحقة.. لم يكن يشغل الجميع إلا كتابة التقارير وتقديمها إلى السيد المدير د. تقرير.. فيما كانت أوجاع المرضى تبعث الأنين.. الأنين.. الأنين