بتـــــاريخ : 10/15/2008 9:16:57 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1608 0


    الأباطرة يطيرون أيضا

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : د. رياض الأسدي | المصدر : www.arabicstory.net

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الأباطرة يطيرون أيضا

     ( هذه القصة كتبت في منصف التسعينات، في ذروة الحصار الاميركي الأممي على العراق. خضعت بالطبع – آنذاك - بعد دفعها للنشر في آب 2002 إلى مقص رقيب داخلي، وإلى مقص الرقيب الادبي في المجلة التي نشرت فيها بعنوان" أباطرة البسكويت".. أعود لنشرها كاملة كوثيقة إنسانية بلا تغيير, او حذف، باستثناء الاضافات التي منعت عنها وقتذاك..)

    لما يزل ورائي، ما سوى الوراء باقي، أعرف ذلك، على الرغم من أني لم التفت إلا مرة واحدة منذ ان غادرت السوق. غريب الأطوار، يلحق بي، لم يترك لي أية فرصة لتذكر وجهه في الاقل. كلّ ما علق في ذهني: معطفه الأسود الطويل (اللنكات)، وحذاؤه السمكي الصغير؛ وتلك اليد التي ينفث منها النار كساحر سيرك. اما قبعته، تلك، فلم أشاهد مثلها قط ، حتى في افلام الرسوم المتحركة المحببة إلى نفسي؛ قبعة صفيح مثل مقطع جانبي لعلبة سمن صدئة. أعرف هذه (السلوكيات) منذ ان عمل زوجي حارسا في ردهة الطب النفسي.. أرجو ان يكون كلّ ما أذكره – الآن - مجرد وساوس لا اساس لها، أرجو ذلك بقوة. غصن بمبرة انا. أكسرني اكسرني، اكسرني هنا..

     

    عند بوابة المشفى كانت ثمة سيارة اسعاف هزيلة بعجلات قرعاء، وثلة من النساء المتشحات بالسواد. سقطت قطعة الشكولاته من يد فاطمة. كان الرجل الغريب يقف بعيدا وقد رفع ياقة معطفه الاسود، ونشر يديه كطائر أسود، حقيقي, ثمّ أرتفع قليلا قليلا عن سطح الارض، طار حتى كادت الشمس تختفي من سماء المشفى وهو يمر في الفضاء القريب.

     هل اقف جانبا لأستوضح أمره؟

    لا يمكن ان تكون لعبته السمجة من أجل شراء مذياع صغير وقديم. منذ ان تعلّقت الصغيرة بالمذياع وهو يسبب لي مشكلات كثيرة. ماما هل ستبيعين مذياعي، ها؟ لا لا . ربطت المذياع بسلك وعلقته على صدرها، وامسكت بيدها لعبة مموهة من مسروقات الكويت؛ ربما تكون قطة مقطوعة الرأس وجدتها على طريق سوق الجمعة. لكن المذياع كان هو الأهم بالنسبة لنا جميعا. خشخشة في الليل وخشخشة في النهار. أخبار في الليل اخبار في النهار.

    الرجل المميز، إبان الحرب الكونية الثانية ، صديقنا القديم، (هيرش) العجوز؛ المعروف جدا على نطاق العالم كله برائحة الكاكاو الممزوج بالفانيلا الفواحة، إمبراطور البسكويت، ذاك، منذ حرب الخردل الاولى؛ اقول لكم: أصبح قبل نهاية الحرب العالمية الثانية احد مشاهيرنا القوميين؛ أخيرا ادرج أسمه في كتاب(غينيس) للارقام القياسية بصفته صاحب اول مصنع للشوكولاته المطعمة بالكاكاو. راجعوا الصفحة: 2342

    نغم كيتار كهربائي ضخم، حاد، يشبه صوت عادم طائرة في يوم رمادي. يتبع المقدمة الموسيقية الصاخبة حشرجة أغنية بلوز بصوت مبحوح.. لم تكن تفهم شيئا مما يقال لكن الصوت أثارها على نحو مباغت. كانت المذيعة ذات الصوت الشهير تلخص حياة (هيرش) الذي وهب كلّ رأسماله للشوكولاته تقريبا.. ولأسعاد اطفال العالم.

    - مازال وراءنا يا ماما.

    - أدري يا عزيزتي ادري!

    - أنا أراه..

    - أعرف ذلك..

    - إنه طائر أسود!

    - بدأت تهذين من جديد.

    وضعت راسها على كتفي ثانية. كان وزنها يقلّ في كلّ يوم. لكنه أقل ما يكون في هذه الجمعة الفائقة الالم. وحدي على الرصيف، وسط جموع من الرجال المتحركين سريعا. أحملك ياحبيبتي في أعوامك الاربعة لأبيع أثمن شيء عندك : مذياعك. " طنطونك". لم أعد أستطيع شراء بطاريتي قلم رخيصتين له.

    لا ماما لا ، إلا "طنطون"؛ إنه آخر ما تبقى من أثاث المنزل. أحبّ "طنطون" . أحب "طنطون" أراه أراه؛ ياتي من خلف السحب البعيدة. من وراء أسلاك الكهرباء البعيدة ، على الشجرة ! عن ن ن ن ن ن نن ن !

    ياله من رجل! هل يعرفني؟ ربما .. ها هو يرمقني بنظرة متفحصة دون ان يتفوه بكلمة واحدة. هل أصرخ؟ ماذا يريد مني حقا؟ عيناه مصباحا عربة جيش محترقة. صحت:

    ـ أنت....!

    ـ أنا ؟.. أقول: بكم تبيعين هذا "الراديون" ؟

    ـ أبيعه بأي ثمن.. أبنتي مريضة. ألا ترى؟

    ـ حقا... تبيعين "الراديون" وحده، أم مع البنت؟

    ـ هل تسخر؟ إنها ابنتي!

    ـ أعرف أنها أبنتك، بنيتها ضعيفة. تحتاج إلى الطعام. ما اسمها ؟

    ـ ما شأنك باسمها؟ ها؟ لماذا تلحق بي؟؟ ها ؟ لمآآآذا؟

    ـ فدوة!! هل تذهبين معي؟

    ـ ..............!

    ـ ......................!!

    هل ما زال يلحق بنا؟ لا تخافي ماما، لا تخافي!.

    لا تنام هذه البنت إلا على صوت المذياع في الأيام الاخيرة. منذ ان أصيبت بسؤ التغذية وهي لا تفارق مذياعها. أصبحت اسمع كلّ اخبار الدنيا. انا لا افهم كثيرا مما يقال حقيقة، لكنهم اليوم يتحدثون عن الشكولاته: حسنا..

    قبيل وفاة السيد (هيرش) عام 1945 أعلن على نحو مفاجيء عن رغبته في أن يحسّن العالم من نظرته إلى الطفولة البريئة. يمكننا ان نقرأ آخر ما كتب في مذكراته : بالنسبة لي على الاقل، هو المطلوب دائما, وقت الحرب، الخبز, لكني ، أيها السادة، أرجو ألا تفكروا أبدا أبدا؛ بأني احاول أستعادة تجربة "العم اوين " القديمة، فتلك أحلام فاسدة وغبية!

    تذكروا: كلّ ما عملته هو لصالح عمالي الشكولاتيين والبسكويتيين. لكن. يكمن أهتمامي غير المقنع بالقطط السيامية والقطط السائبة على حدّ سواء - أيضا- اكثر من أي شيء آخر. ولوع بالحيوانات الاليفة، انا، طبعا! تصوروا: مجاميع القطط من ممتلكاتي : قطط سيامية وديعة، وأخرى فارسية مدللة؛ قطط (اسود الجبال) المعروفة المتربعة على أرائك قاشان وثيرة قطط شوارع بغداد العربية الوقحة، الشرق اوسطية؛ كلّ تلك الحيوانات الرائعة في قاموسي هددت بالاختفاء مرة واحدة. يا له من عالم غادر ماحق!.

    ـ ماما متى نختفي؟

    ـ ماذا تقولين؟!

    الجوع، والتشرد، والدهس تحت عجلات مسرعة ي ي ي ي ي ي ي ! كوابح لا فائدة منها. يمكنني ان أخمن ما يحدث بعد كلّ كابح قوي وطويل. سحق دائم. قطط لا ذنب لها. وكوابح غير مسؤولة غالبا منذ عام 1945. لدي شعور عارم و مختلف الآن : بان العالم لن يؤول إلى الاحسن؛ وكلّ ما أفعله هو محض سذاجة لا معنى لها. هذه الكوابح لن تستثني احدا. طبعا.

    سترة بنية لماعة، وبنطلون عريض يصعب تحديد لونه لأن الفيلم بالأسود والابيض، ومن النوع الذي يظهر فيه ممثلو الافلام السينمية الاولى بتلك الحركات المضحكة. قبعة سوداء طولية وعصا. شاربان مربعان. تكاد وردة العنق الفستقية ان تختفي بين طيات اللحم الابيض المتهدل تحت الحنك. أقواس غير مرئية عن بعد من بثور الجدري الطفولي. قهقه (هيرش) بصوت مسموع للجميع؛ وهو نادرا ما يفعل ذلك مع مساعديه و موظفيه وعماله؛ كان الصوت متقطعا يشبه قأقأة دجاجة عجوز في السنة الاخيرة. لا يصلح لحمها للأكل غالبا. وحينما سمع أسمه معلنا ضمن شرفيي الجمعية الجغرافية الاميركية, لأول مرة، كركر بصوت طفولي غريب. فبادرته سكرتيرته الشقراء الالمانية الاصل:

    ـ إنه نصر ياسيدي! أرجو ان لا تجهد نفسك في التفكير فيه تناول حبة أرتفاع ضغط الدم .

    اجاب ( هيرش) بصعوبة ظاهرة:

    ـ اجل. ما حاجتنا للمجد.. يا عزيزتي؛ هذا ما تؤول إليه الاعمال دائما.

    ـ أنت لا تفكر طبعا بمناصب جديدة؟

    ـ هذا ما لا يمكن حزره!

    لكن الجمعية الجغرافية الاميركية أهتبلت فرصة وجود (هيرش) إمبراطور الشكولاته في بنايتها، وشرعت بالتهيئة لتسليمه جائزة (الدفاع عن الطفولة العالمية) المعروفة على نطاق دولي. ثمّ عقدت معه صفقة مربحة هي الأولى من نوعها على مستوى العالم؛ وذلك بوضع صورته وهو يمسك بغليونه الاسود التراثي المصنوع في القرن التاسع عشر، ولحيته النصف البيضاء، وابتسامته الكبيرة على بطاقات التهنئة لمناسبة عيد الشكر، وكذلك على علب الكاكاو والفانيلا المصدرة إلى العالم الثالث؛ على ان يكون ريع تلك الصفقة لجمعية كنسية بروتستانتية تدعى (الام العذراء) لنشر الانجيل باللغة العربية.

    ـ سنختفي.

    ـ سنختفي!

    ـ متى؟

    ـ متى!

    يمكن رؤية صورة السيد (هيرش) على صناديق المعكرونة الإيطالية والسباكيتي بانواعه. ثمة ثلاثمائة نوع من المعكرونة طبعا؛ كلّها يرعاها السيد(هيرش) في كلّ انحاء العالم تقريبا. آخر مرة رأى اطفال روانده صورة هيرش الباسم دائما على صناديق وأكياس المساعدات تحت كفين متصافحتين.. ثمّ أعلنت شركة انتاج تجارية للكاكاو عن رغبتها في انتاج برنامج: قطط بمواجهة الريح!

    ـ لا تهرشي جلدك اصبح قطعة من دم.

    ـ حكة حكة!

    ـ الصابون قليل.

    آخر مرة شوهد فيها (هيرش) العظيم كان في حفلة أعياد الميلاد. قال لسكرتيرته وقد اخذ منه الحزن مأخذا كبيرا كمن فقد كل تجارته في صفقة واحدة:

    ـ كنت أعرف باني سأشتهر يوما.

    ـ طبعا.

    ـ لكني لم اعرف كم هي فداحة عالم الشكولاته.

    ـ ماذا تقصد ياسيدي؟!

    ـ أوه لا شيء!

    ـ صنعوا لك تمثالا من الشمع..

    ـ حقا؟

    ـ طبعا!

    ـ يالأوين ذاك!

    ـ من أوين هذا هل أعرفه؟

    ـ صديق غرّ..

    ـ هل أعرفه !؟

    ـ لا أحد يعرفه هذه الايام: صورة الارض..

    آخر مرة شوهد (هيرش) بالضبط ؛ كانت صورة تذكارية التقطت على عجل بين مجموعة من الاطفال السود المشردين. كان امبراطور الشكولاته يحمل علبة كبيرة وهو يفتحها للجميع دون ان يمد احد يده. كانت على أية حال صورة دعاية فاشلة، كما اقرّ بذلك مديرو إعلانات (هيرش) أنفسهم، مما دعاهم إلى سحب الصورة بسرعة من الاسواق على الرغم من اصرار الامبراطور الكاكاوي على بقائها.

    آخر مرة جئت فيها إلى هذه المشفى كانت قبل أربعة ايام . قالوا لي : خذي أبنتك وغذيها جيدا، هذا هو علاجها. لكني عدت بعد يومين. فقالوا لي: اسمعي يا أمراة أأنت أعجمية؟! أشترِ لأبنتك قطعة كبد، لتأكل أشياء مغذية، مهمة للجسم، هذه طفلة، هل تعرفين؟ إلامَ تفضي سؤ التغذية والجوع؟ تعرفين؟؟ اين ابوها يا امراة؟ ها؟ حارس ؟ حارس ماذا؟ للسيد الرئيس! ها.. لمشفى المجانين في بغداد. إي. طبعا. بغداد بعيدة. مات؟ مات أبوها. مسكين. الاباء يرحلون سريعا هذه الايام. لماذا صوتك مخنوق؟ تريدين ان تبكي، ابكٍ أبكِ.. هذا أريح لنا جميعا. وما هذا الراديو المعلق في رقبتها كتعويذة؟ ها؟ راديو طنطون! أمّ سياسية لكنها جائعة!. أم طيبة. هل انت عراقية؟ لماذا لا تتكلمين بصوت مسموع؟ هآآآآ لديك ست بنات صغيرات غير هذه.. الله كان في عونك. هل سبق لك ان ذهبت إلى القصر الجمهوري؟ ( قهقهات متقطعة وخائفة) ربما يجدون لك حلا؟ لماذا هو قصر جمهوري اذن؟!

    دعي هذه الشكولاته بيد البنت. ما أسمها؟ فاطمة ؟ امسكي جيدا هذه الشكولاته يا فاطمة. أم معذبة. كلّ الامهات هكذا تقريبا. هنا. يا عيني من الصعب إعاشة سبع بنات في هذه السنين العجاف. بنات بلا أب، وفي هذه الظروف. هآآآآ؟ ماذا تقولين؟ من يلحق بك؟ طائر؟ طائر ماذا؟ هم خبال وهم جوع؟ أأنت عاقلة؟ طائر سماوي؟ لونه أسود؟ أهو من البشر؟ المراة مصابة بعقلها ياعالم من الجوع ياعيني. ماذا يريد منك هذا الطائر؟ (صمت غريب) لماذا أنت ساكتة؟ هل أنت عراقية؟؟ أأنت متاكدة من انك عراقية؟ لماذا تتكلمين بتلعثم دائم اذن؟ لسانك فيه تأتأة.. امك كذلك وجدتك, إي إي، مفهوم، عائلة ألسنتها مكسّرة، يحدث ذلك لكثير من الناس. لا تستحي.

    قفي هنا. هنا. طرنه. راقبي قطعة الشكولاته بيد ابنتك. لماذا لا تاكل؟ كلي فاطمة كلي. الطفلة ترى بان أباها قادم. حسنا. شعور بنت صغيرة. سياج المشفى طويل، وحشد نساء أطول. أبواق السيارات في الخارج لا تكف عن الزعيق. أسراب من العباءات السود في كلّ صباح تدخل البناية البيضاء القذرة كجماعات نمل كبيرة. الجرذان تنتشر في كلّ أرجاء المكان. تطلق اصواتا حادة احيانا. بكاء اطفال رضع. بكاء دائم على الاكتاف والاذرع. موت في كل يوم في المكان نفسه . نحيب امهات جماعي. رائحة مطهرات لا معنى لها. موسيقى اشارة نهاية البث..

    ـ مممآآآآآممآآ!

    ـ ماذا يا بنيتي؟

    ـ م م!

    ـ ليت ذلك يحدث...

    ـ عنن ن ن ن ن ن !

    ـ سأسرع سأسرع!

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الأباطرة يطيرون أيضا

    تعليقات الزوار ()