بتـــــاريخ : 11/19/2008 8:37:33 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1095 0


    رجل الدارين

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : مصطفى فاسي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    رذاذ خفيف كان ينزل، من حسن الحظ أن الغيوم السوداء لم تكن قد قررت إنزال حمولتها على رؤوس الواقفين بجانب سور المقبرة الممتد، كانوا ثلاث مجموعات، طال وقوفهم، جاءت المجموعة الأولى حوالي العاشرة، كان معظم أصحاب هذه المجموعة من عمال إحدى مؤسسات البناء، سقط زميلهم من الطابق الرابع فتوفي في الحين، كان ذلك بالأمس قبل الظهر.. هم لم يكونوا يريدون هذا الوقوف الطويل بجانب سور المقبرة الممتد.. لقد جاؤا ليشاركوا في دفن زميلهم..وفوجئوا عند وصولهم المقبرة بالمنع من الدخول، ظن السائرون في مؤخرة موكب الجنازة أن الأمر ربما كان يتعلق بنقص ما في الإجراءات القانونية الضرورية في مثل هذه الظروف... كانوا يتناقشون فيما بينهم، يطرحون الأسئلة ويجيبون، ثم جاء الجواب من مقدمة الموكب يوضح أن الأمر لا يتعلق بتاتاً بما كانوا يظنون، وعند ذلك فقط، وكأن الأمر كان مفاجأة تنبهوا إلى وجود حراس مسلحين بباب المقبرة، الأمر الذي لم يكن موجوداً من قبل حسب علمهم، ثم نبه بعضهم إلى أن الحراس لم يكونوا فقط بباب المقبرة بل هناك آخرون منتشرون في الشارع الواسع المقابل لها.. في الأمر إذن سر ما، قال الضابط السمين الواقف بالباب والذي كان يبدو عليه بعض التشنج، كما كان يبدو محمر العينين إلى حد ما، قال في صيغة من التساؤل والاستنكار لأحد أقارب المتوفى عندما اقترب منه يتساءل ويحتج على عدم السماح بالدخول لدفن الموتى:‏

    - لا تناقشني أرجوك، ألم تسمع بما وقع؟! ألم تلاحظ أن المحلات جميعها مغلقة، وأن الأعلام منكسة، وأن لقد مات السيد.. مات البارحة، ونحن في انتظار موكب جنازته لكي ندفنه اليوم، لذلك يمنع دخول أي كان إلى المقبرة قبل دفن السيد‎... ثم وصلت جنازة ثانية بعد حوالي ساعة من ذلك، كانت لامرأة متوسطة العمر قيل أنها توفيت في المستشفى بعد عملية جراحية ناجحة.. أدى بها سوء الحظ، والأجل على كل حال إلى السقوط من السرير العالي، في حوالي منتصف الليل... قال أحد الحاضرين في الجنازة، عندما عرف سبب هذه الوفاة مترحماً ومستنكراً:‏

    - رحمها الله، على كل حال هو الأجل، ولكن لماذا يرفعون الأسرة عالياً إذا كانوا لا يحرسونها..‏

    وبعد دقائق من ذلك وصلت سيارة تاكسي، نزل منها عند باب المقبرة ثلاثة رجال، كان أحدهم يحمل بين يديه صبياً صغيراً يبدو من حجمه أنه توفي قبل أن يبلغ ستة أو ثمانية أشهر.‏

    تلقى أصحاب الجنازتين الأخيرتين الإجابة نفسها من الحراس المسلحين عندما تساءلوا عن سبب المنع من الدخول:‏

    - يمنع منعاً باتاً الدخول لأي كان قبل دفن السيد...‏

    غير ممكن... ظلم.. لماذا؟!... أننتظر ثلاث ساعات كاملة على الأقل قبل أن ندفن موتانا؟! ثم إن السيد -رحمه الله- لم يوصِ بهذا، هل أمر قبل موته بمنع الدفن في يوم دفنه قبل أن يدفن هو؟! لا نظن ذلك... فالسيد كان طيباً يحب الناس.. ثم إن المقبرة واسعة جداً.. ونحن مجموعات قليلة، تتجه كل مجموعة إلى الجهة التي ستدفن فيها متوفاها، والقبور الثلاثة كلها بعيدة، هناك في طرف المقبرة، بينما قبر السيد يقع في وسطها بالضبط... رحمه الله.. لقد كان طيباً جداً... كان وهو حي يسكن في وسط الناس، وكانت وصيته أن يدفن بعد موته في وسط الناس أيضاً.. كانت داره في وسط المدينة بمثابة الخال في وسط الخد الأبيض، أو القمر في وسط السماء، كانت داراً عظيمة حقاً، تتناسب -تماماً- مع مقامه الرفيع.. يقال إنهم قاسوا الأمرين لكي يقنعوه بقبولها على ذلك الشكل.. هي في الواقع لم تكن داراً، لقد كانت قصراً، آه... وأي قصر... يقال إنه أمرهم أن يبنوا له بيتاً عادياً ليسكن فيه كسائر الناس، ألا يحق له أن يكون له بيت كسائر الناس...؟! وبدأ البناء دون أن يكون السيد على علم بموقع البناء أو شكله. كان مشغولاً بهموم أخرى.. وما أكثر همومه...‏

    وطال بالسيد الانتظار، واشتاق إلى دخول الدار، وكان كلما سأل عن الأخبار، قيل له صبركم سيدنا إننا نعمل بالليل وبالنهار، وقد اخترنا من العمال والمهندسين الأخيار القادمين من أطراف الدنيا، وأبعد الأقطار، فلا تقلق سيدنا فبيتك هذا سيكون سراً من الأسرار...‏

    أخيراً.. اكتملت الدار، ودخلها السيد، فانبهر أي انبهار، خاصة وأنها كانت في موقع مرتفع وسط المدينة لا تبعد عن بقية السكان سوى ببضع مئات من الأمتار.‏

    كان السيد يحب الناس، فأمر بإضافة برج كبرج المطار، وأن يجهز أعلاه بمنظار... وأي منظار..‏

    لم يكن ينقص قصر السيد شيء، كان فيه ماتيسر مما خلق الله في البر وفي البحار، من طيور وحيوانات وأشجار، وفيه الفضة والذهب والزمرد واللؤلؤ في المحار، وفيه من الولدان والحور العين ماشاء له أن يختار، ولكن السيد كان يحب الناس، وكان في قصره العالي برج عظيم، وكان في برجه منظار.. وكان السيد إذا أتى الليل، وقد أرهقه عمل النهار. صعد إلى أعلى البرج، وجلس أمام المنظار، كان السيد يحب الناس، ويتفحص بيوتهم داراً فداراً... لقد لام في البداية الذين بنوا داره لأنهم أبعدوه عن الناس فحرموه من الجار، وكان الحل أن بنى البرج وركب المنظار... فلم يعد منذئذٍ يشكو قلة في الجار.. كان السيد يحب الناس فهل يعقل أن يوصي بعدم دفن موتاهم قبل دفنه هو؟! هذا مالا يمكن أن يعقل، أو أن يصدق، ومن العار...‏

    ***‏

    السماء كانت ماتزال ترسل رذاذها الخفيف فوق رؤوس المنتظرين أمام باب المقبرة، وكان الحراس المسلحون كل يتحرك في مكانه في مجال ضيق يبدو أنه حدد من البداية، ولا يجوز الخروج عنه مهماً كان الأمر بينما كان الحارسان الواقفان أحدهما على يمين باب المقبرة والآخر على يساره، جامدين كالصنمين تماماً...‏

    وفجأة، وحوالي منتصف النهار والنصف وصلت سيارة سوداء وقفت بجانب باب المقبرة بعدما كانت تقطع الشارع الواسع الخالي من السيارات والمارة في سرعة كبيرة، أسرع إليها الضابط السمين، وقف أمام بابها الأيمن الأمامي، وحيا تحيته العسكرية، ثم انحنى يستمع إلى تعليمات الضابط الجالس على يمين السائق، والذي كان يتحدث في بعض الانفعال، ويشير جهة المجموعات الثلاث...‏

    بعد لحظات اعتدل الضابط السمين في وقفته، وأعاد التحية العسكرية التي ماكاد ينهيها، حتى أقلعت السيارة في سرعة جنونية، واصطدم الضابط السمين عندما تأخر بعض الخطوات، ويده ماتزال مرفوعة أمام أذنه اليمنى، بعمود الكهرباء ثم دار على عقبه واتجه نحو جموع المنتظرين يأمرهم بالرجوع إلى الخلف والاختفاء وراء عطفة جدار المقبرة الطويل، بحجة أن السيد لا يحب أن يرى منظرهم عندما يحضر...‏

    تحرك المنتظرون مع موتاهم إلى الخلف، حملوا النعشين اللذين يرقد فيهما المرأة المتوسطة العمر والرجل العامل، أما الصبي الصغير فإن أباه ظل يحمله بين يديه منذ حضوره إلى هذا المكان، تراجعوا إلى الوراء في صمت رغم أنهم استنكروا جميعاً هذا الأمر.. السيد... السيد لا يمكن أبداً أن يشمئز من منظرنا... لقد كان يحبنا... كان دائماً، وفي كل مساء يجلس بجانب منظاره المقرب ساعة على الأقل ينظر إلينا، خاصة نحن الذين نسكن هناك في أطراف المدينة، السيد، كان يحب الجميع، فليس عبثاً أن يوصي بأن يدفن في وسط المقبرة، أي في وسط الجميع، إذ ماقيمة أن يعيش السيد وحده أو أن يموت وحده... ومثلما أزيحت عشرات البيوت التي يقال - نعم يقال- بأن أصحابها تبرعوا بمساحاتها لكي تبنى دار السيد، فكذلك أزيح كثير من القبور التي تبرع بها أصحابها لكي تضاف مساحتها لقبر السيد..‏

    السيد يحب الناس ويحب أن يعيش بينهم حياً وميتاً، قال قبل وفاته بقليل، وبعد أن تمنى له المحيطون به الشفاء العاجل، ودعوا له بالسلامة، قال بصوته المشبع حناناً:‏

    - أعرف، أعرف، الأعمار بيد الله، سبحانه، يفعل مايشاء، ولكني إذا مت فرجائي ألا تحرموني من العيش (الموت) بين الناس.. رجائي أن يكون قبري وسط القبور... أنا لا يمكنني أبداً أن أحتمل الوحدة... الوحدة قاتلة... قاتلة...‏

    وكان يمكن أن يبنى له قبر عادي بحجم قبر أي واحد عادي من الناس، وهو في الواقع وكما يعرف الجميع كان متواضعاً جداً، ولم يوص أبداً بإزاحة مئات القبور لكي تتوفر كل تلك المساحة الكبيرة، ولكي تغرس فيها الأشجار والورود على شكل دوائر متناسقة، ثم تصنع مساحات أخرى دائرية بعضها من الاسمنت المزخرف، وبعضها الآخر من الرخام الصلد والمرمر الأحمر، فلا يصل المرء إلى القبر إلا أخيراً ليجد -وذلك طبعاً بعد أيام من دفن السيد- بناء رخامياً رائعاً مكعباً مستطيلاً مرتفعاً عن الأرض بحوالي ثلاثة أمتار، وهو يتدرج من أسفل إلى أعلى بشكل تنازلي، أي أنه عريض القاعدة، وكلما ارتفع علوه نقص عرضه بشكل جميل متناسق التدرج، إلى درجة أن المرء وهو يقف أمامه -وقد كثر بالفعل زواره بعد مدة غير طويلة من دفنه- يقف لا لكي يترحم على من بداخله، وقد نسيه تماماً ولكن لكي يتفرج على هذه التحفة النادرة الجمال، لولا أنه ينتبه بعد قليل إلى تلك الكتابة المذهبة والتي حفرت بخط جميل على تلك القطعة الرخامية الكبيرة التي ترتفع عند رأس السيد، والتي تذكر باسمه، وتاريخ ميلاده ووفاته، بالإضافة إلى سرد بعض مآثره -وما أكثرها- ومناقبه، ثم تنتهي بالترحم على روحه الزكية الطاهرة النقية..‏

    لقد صار قبر السيد وسط المقبرة تماماً مثلما كان قصره وسط المدينة، والقبر كالقصر، وبعض الناس يسمون المقبرة مدينة، ولكن السيد لم يكن يريد هذا، فمثلما كان يريد بيتاً عادياً، كذلك كان يريد قبراً عادياً، إلا أنهم خدعوه، ومثلما خدعوه في البداية كذلك خدعوه في النهاية هم الذين خدعوه.. كان يحب الناس، ويحب أن يعيش وسط الناس، لكنهم أبعدوه عنهم، هم الذين أبعدوه...‏

    عندما لاحظوا أنه يحب قصره كثيراً، وخاصة يحب البرج والمنظار لكي يعيش بين الناس... أرادوا أبعاده عنهم (المنافقون الخبثاء الحساد).. يحسدونه حتى على حبه للناس وحبهم له.. فبنوا له بيوتاً أخرى، بيوتاً جميلة خيالية.. رائعة سحرية... قصوراً في أعالي الجبال.. وسط الغابات.. وعلى الشواطئ... وداخل البحر.. وفي الصحراء... وتحت الأرض..وفي كل مكان.. لم يتركوا مكاناً جميلاً إلا وبنوا له فيه بيتاً كبيته ذلك في وسط المدينة... وأجمل... كل هذا لكي يعزلوه عن الناس.. ولكنه، كان يحب الناس، وكان لذلك ينتصر عليهم دائماً، كان لا يكاد يغيب أياماً معدودات عشرة أو خمسة عشر يوماً أو شهراً على الأكثر، يقضيها مرغماً، ومتأسفاً، ومتألماً وشقياً في أحد بيوته حتى يظهر من جديد في أعلى البرج، أمام منظاره العزيز، ليعيش مع الناس، وبين الناس، وحتى عندما يمرض، وهو كثيراً مايمرض، وغالباً -وهذا من حسن الحظ- تكون أمراضه خفيفة، كوجع ضرس، أو الشعور ببعض الألم في إحدى العينين من كثرة النظر في المنظار، أو بعض الوجع في إحدى الركبتين أو المفاصل، أو الظهر لكثرة الجلوس أمام المنظار، أو كالألم في المعدة أو الشعور بالإرهاق، وما أكثر ماكان السيد يرهق..‏

    حتى في هذه الحال أي عندما يمرض، فإنهم يحرمون (الخبثاء، الجبناء، الحساد)... يحرمون الناس من التمتع بزيارته، وذلك لأنهم ينقلونه للعلاج في الخارج دائماً، وكثيراً ما يتسببون في مضاعفة أمراضه هناك في الخارج، في بلاد الغربة، بلاد الناس، بسبب شوقه إلى الناس، واشتياقهم إليه، وذلك عندما يتضاعف مكوثه بعيداً عن إحبائه إلى درجة أنهم يكادون ينسونه -استغفر الله- ويكاد ينساهم..‏

    السيد كان يحب الناس، ولم يكن يرضى الظلم أبداً... لقد كان متواضعاً جداً... فكر أبو الصبي بأن السيد لو كان حاضراً، عندما كان هو -أبو الصبي- عند وصوله وبعد نزوله من التاكسي، مع أخيه وابن عمه، واحد جيرانه، يبكي أمام الضابط يرجوه السماح له بالدخول لدفن ابنه، فكر بأنه لو كان حاضراً لسمح له -بدون شك- بالدخول قبله، لقد كان السيد في غاية التواضع، كما تحكي نوادر كثيرة عن الإيثار عنده، فلو كان حاضراً لسمح على الأقل بدفن هذا الصبي الصغير...‏

    قال أبو الصبي للضابط: إننا أربعة فقط، أنا وأخي وابن عمي، وجاري، الطفل صغير والقبر صغير.. ندخل بسرعة: نضع الطفل في القبر.. نغطيه ببعض الصفائح؛ ثم نهيل التراب... حتى الصلاة لن نصلي عليه.. هو طفل... ملاك.. نصف ساعة، ويكون الأمر قد انتهى، إذا رأيت أن العدد كبير يمكن أن ندخل فقط أنا وأخي، أو حتى أنا وحدي، الأمر في الواقع لا يحتاج إلى أكثر من واحد، ثم حتى لو افترضنا أن موكب جنازة السيد وصل وأنا داخل المقبرة، فليس في الأمر أي ضرر أو خوف، لأن قبر الصبي يقع بعيداً في طرف المقبرة، تماماً مثلما يقع بيتنا بعيداً هناك في طرف المدينة.. أرجوك سيدي... أتوسل إليك... لقد تركت أمه تكاد تجن من البكاء، المسكينة.. باعت ماتبقى من أساورها لكي تذهب به إلى الطبيب وتشتري له الدواء، وماتبقى من ذلك قدمته لي لكي أدفع أجرة التاكسي من البيت إلى هنا، والمسافة بعيدة.. سيدي الضابط، أرجوك، يكفي التعب والانتظار الذي عانيناه قبل الحصول على سيارة تاكسي، كان كل صاحب تاكسي يرفض نقلنا بعدما يتوقف، ويرى بين يدي الصبي المتوفى بحجة أن عددنا كبير، ولكن سيدي، الدنيا لا تخلو من أبناء الحلال -وأنت ابن حلال- أخيراً توقف صاحب تاكسي. كانت ملامح وجهه تنبئ بالطيبة الواضحة، أمرنا بالركوب قبل أن يسألنا إلى أين، وعندما وصلنا رفض أخذ الأجر... مازال سيدي في الدنيا خير...‏

    كان قلب الضابط يكاد يلين لولا وصول السيارة السوداء، وصدور الأمر بالتقهقر إلى خلف عطفة جدار المقبرة...‏

    لم يجد أبو الصبي بعد ذلك مايقوله، كان التعب بادياً على وجهه، لم ينم منذ يومين، كما لم يكد في هذين اليومين يأكل شيئاً...‏

    تراجع أصحاب الجنازات الثلاث إلى الخلف، إلى وراء عطفة السور الممتد، في انتظار وصول موكب جنازة السيد، اختفوا هناك وراء السور فلم يعد يراهم أحد...‏

    وطال الانتظار.. ساعات كاملة قضاها الضباط والجنود كذلك بجانب المقبرة.. تأتي من حين لآخر سيارة تقف في الشارع الكبير مقابل باب المقبرة، يسرع إليها الضابط السمين ثم تقلع مخلفة وراءها الصمت..‏

    وأخيراً ظهرت مقدمة موكب الجنازة... كان الحزن يخيم على المدينة.. نكست الأعلام، وأغلقت جميع المحلات أبوابها... انطلق الموكب من أكبر مساجد المدينة بعد الظهر، وكان يتحرك في شوارعها الكبرى ببطء شديد، لكي يتاح لجميع محبي السيد المشاركة في وداعه، والاتجاه به نحو مقره الأخير.. لذلك فإن الموكب كان عظيماً.. كان الناس يسيرون فيه مطأطئي الرؤوس وفي الأطراف وحفاظاً على هيبة الموقف -وأيضاً- على الأمن كانت مجموعة كبيرة من الحراس المسلحين تسليحاً رائعاً تكون سواراً جميلاً يحيط بالموكب... فعلاً، كان الموكب عظيماً، وحتى عندما ظهرت مقدمته للضباط والجنود المتجمعين أمام المقبرة فإن مؤخرته كانت ماتزال في وسط المدينة، كانت ترافق الموكب موسيقى جنائزية حزينة... وكان الحزن يخيم على كامل المدينة، وعندما دخل الجميع إلى المقبرة الواسعة فإنها غصت بهذا الجمع الكبير إلى درجة أن البعض وجد صعوبة في الحصول على مكان للوقوف...‏

    وعندما كانت تجري عملية الدفن في كثير من الرهبة والخشوع، كان قد تكون صف طويل من حفظة القرآن ذوي الألبسة الجميلة النظيفة البيضاء، كانوا قد أقبلوا من جميع مساجد المدينة... كانوا يقفون صفاً واحداً متراصاً، ويرتلون في صوت موحد آيات الذكر الحكيم...‏

    انتهت عملية الدفن، ورفع الجميع أيديهم إلى السماء داعين الله في كثير من الابتهال إلى إنزال رحمته على السيد، وإسكانه جنات النعيم...‏

    خرج الجميع من المقبرة، كانوا هذه المرة يمشون في خفة ونشاط، وعندما كانوا -مثل النمل- يملأون الشارع الكبير في اتجاه المدينة، وقف ينظر إليهم الضابط السمين، كان قلب هذا الضابط لا يخلو من رقة، وتذكر أمراً.. الجنازات الثلاث.. وأسرع.. أسرع.. يجري بجانب السور الممتد. وصل إلى العطفة.. دار حولها، وقف مبهوتاً.. لم يجد أحداً... أين اختفى هؤلاء التعساء إلى أين ذهبوا؟!... وقف لحظة يفكر، ثم واصل السير.. كان في الواقع يجري بقدر ما يسمح له به جسمه الثقيل.. كانت المقبرة مربعة الشكل، وكان الضابط يجري بحذاء السور الثاني للمقبرة.. بدا له طويلاً.. طويلاً جداً.. وأخيراً وصل إلى العطفة الثانية تجاوزها ونظر، فدهش عندما لم يجد شيئاً هنا أيضاً.. ووقف مرة أخرى يفكر، هل يعود؟! أم يكمل الدوران حول المقبرة؟! وعندما قدر أن المسافة التي سيقطعها سواء أعاد إلى المكان الذي انطلق منه أم واصل الدوران هي نفس المسافة تقريباً، لم يجد أمامه سوى المواصلة، كان مرة يجري ومرة يمشي مشياً عادياً، ودار حول المقبرة، ولم يجد شيئاً...‏

    وكان المساء.. ويبدو أن الشمس المختفية خلف الغيوم لم تغب بعد، ولكنها على وشك الغروب، واحتار الضابط السمين في الأمر.. عندما وصل من جديد إلى باب المقبرة لم يجد أحداً.. الهدوء الكامل كان يخيم على الجو.. وكأنما الأرض ابتلعت الجميع... وجد باب المقبرة مفتوحاً... يبدو أنه لا يغلق عادة.. كان مردوداً.. ولكنه لم يكن مغلقاً بالمفتاح... دفعه ودخل.. راح يمشي في هدوء وحيداً بجوار القبور، كان يمشي وهو ينقل بصره في كل جهات المقبرة.. كان الهدوء، هدوء المقابر فقط، وكان قبر السيد يتوسط الجميع... تماماً مثل خال في خد أبيض جميل، أو كالقمر في السماء.‏

    ***‏

    مع مرور الأيام، سوف ينسى الناس قصة اختفاء أصحاب الجنازات الثلاث، ولكن خبراً آخر ذات يوم سوف يملأ الأسماع، سوف ينتشر بين سكان المدينة.إن مايشغل السلطات هذه الأيام هو هذا الأمر المحير، أمر القبور التي بدأت تختفي كل يوم من مقبرة المدينة، وسوف تشدد الحراسة على المقبرة، إلا أن القبور ستظل تختفي بنفس المعدل.. وأخشى ما صارت السلطات تخشاه أن يقوم الناس ذات صباح من نومهم، فلا يجدون بجوار السيد أحداً، هو الذي كان يحب الناس كل الناس

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()