بتـــــاريخ : 11/13/2008 11:43:07 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1398 0


    الطعام والعيون

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : أبو العيد دودو | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    أتذكر يا غراب ذلك اليوم الذي دخلت فيه مدينتنا؟ لا، لا أظنك تذكر ذلك، بل لا يمكنك أن تذكره أبداً. فقد اختفت عنك الذاكرة، مسحها الظلام من رأسك. ألم تكن رسولاً للظلام؟ أجل، كان ذلك اليوم رطباً خانقاً، ولم تكن في السماء كلها بادرة مطر واعدة. وأقول السماء كلها، لأن السماء كانت سماءنا أيضاً.. مثل المدينة".‏

    حين خطوت فوق شارع الثروة.. وهل كان مجيئك دونما سبب من ثروة؟ كان وقع خطاك صدى عابراً، وكانت ابتسامة عينيك مؤقتة، وذلك ما لم تكن تفكر فيه في الوهلة الأولى، كنت تحسب أن الطريق الذي كنا قد بدأناه، لم نشقه إلا من أجلك. لقد كنت مخطئاً كل الخطأ، كان كل ما أحاط بك زائلاً.. زوال ظل غيرك!‏

    لقد كان يوماً صرخت فيه عصافيرنا في فزع وكانت تبح أصواتها وهي صامتة! فما كان لغنائها من جدوى، وهاجرت بقايا حماماتنا. وفي اليوم نفسه ترددت أصداء أجنحة النسور في آذاننا من بعيد.. بعيد! فلم نكد نسمع نعيق الغربان.. ويلك.. الغربان التي أرسلتها بين يديك، حتى تأكد لدينا أنك تريد ما في حوزتنا. عرفنا أن صوت غصاب يمتزج بصوتك وأن دقات قلبك من فيض دقات قلبه.. هذا إن لم تكن أنت قلبه؛ وعندئذ لفظتك مشاعرنا، وتلقتك ثورة عيوننا. وقد كشفت لنا عن فرحك وكبريائك، وعن خضوعك وخنوعك، عن طموحك وضيق أفقك في آن واحد، عن رغباتك وتناقضاتك.. وها هي ذي مذاكراتك تروي ذلك بوضوح..‏

    ".. وشكل دخولي اليوم موكباً فريداً، لم يعرف التاريخ له مثيلاً، فقد كانت ألواني منتشرة على امتداد نظرتي، ونظرتي واسعة جداً، كانت تحمل يدي لتركزها في الأبعاد، وكم لأبعادي من قدم. كان وصولي فرحة طاغية.. عارمة. فقد تعالت على جانبي الطريق هتافات حادة، أتاحت لي أن أتذوق سحر الجماهير، فرفعت يدي لألم أصواتها وقبلاتها، وكانت الحماية قد أحاطت بي وكان ذلك وعداً صادقاً منها، حافظت عليه كما ينبغي لأمثالها‍. فقد اقترب مني غصاب، وأدى لي التحية، ثم مد يديه لمصافحتي، وعلى فمه ابتسامة نيرة، فشددت عليها، وخاطبني قائلاً:‏

    - قدوماً مباركاً، يا صاحب السعادة.‏

    وقويت الهتافات في تلك اللحظة، وزمجرت وتعالت لحظات، فترددت أصداؤها فوق أبعادي. واحتفظت بيد مستقبلي بضع ثوان، لأن الفرحة أربكتني، وكادت تجمد يدي، وتوقف لساني، وبعد حين شعرت بها تلتحم بيده، وتستقطرها أمناً وسلطاناً. كانت يدانا تجسمان خطاً واحداً أفقياً.. واليد الواحدة قمة. وأوشكت أن أضع شفتي فوق اليد التي رفعت يدي، ورسمت بها أفقياً. فقد غمرتني موجة تأثر سمحة. ونظرت في عينيه الزرقاوين، وسمائي مع زرقته، في شبهِ ولهٍ ، وقلت بصوت ممتن:‏

    - شكراً لك، يا سيدي غصاب، ألف شكر‍‍!‏

    قلت له ذلك وأنا أعلم أن أي عدد لا يكفي لشكره على الثروة، التي بسطها أمامي، ونصيبي من بعض نصيبه! وأذكر أني أغمضت عيني في أثناء شكري له كمن يتعبد في خشوع! كانت تلك غمضة الفرحة الهنيئة. وسرت بجانبه في خفة وحيوية، وكان يتباطأ ليوازي ظلي ظله، والخطى المتوازية شركة بشكل ما! وكنت في الواقع لا أصدق أن رجليّ تطآن أرض الثروة.. فعلاً، لم أكن أصدق ذلك. كان الصدق نفسه هبة! ورفعت يدي محييا الجماهير المتطلعة إلى موكبي، تلوح بأعلامي، وتنثر الورد والزهر على طريقي. كان كل ذلك في الحقيقة قد فاق جميع تصوراتي. وذلك ما جعلني أسأل سيدي غصاب مندهشاً ومبتهجاً في وقت واحد:‏

    - أهذه الهتافات كلها من أجلي.. من أجلي أنا؟‏

    حول غصاب وجهه نحوي، ورفع حاجبيه، وأجابني بنبرة تجاوزت شموخي:‏

    - فلنقل أنها من أجلنا جميعاً.. إنها شركة بيننا أيضاً.. كالثروة! إلا أن نصيبك أنت من الهتافات أكثر بحكم القرابة.. وأنت بالنسبة إلينا رأس الشجرة!‏

    وضحك برقة، وأخذ يحرك يده برشاقة، والحق أن كل شيء فيه كان رشيقاً.. حتى صوته وكلماته ونظرة عينيه، ثم أضاف قائلاً:‏

    - الشجرة المثمرة طبعاً!‏

    وضحكت بدوري، وأعجبني أن أستعمل أسلوبه، فسألته وأنا أنظر إلى وجهه:‏

    - هل يعني هذا أن فروعي أصبحت عقيمة؟‍!‏

    وفكر غصاب قليلاً، ثم قال:‏

    - بعد حضورك أنت لم يعد أمرها مهماً بالنسبة إلينا!‏

    وهنا أسرعت أقول:‏

    - هذا صحيح. أن أمرها الآن بيدي.‏

    وشعرت بصدري يمتلىء عزة وفخاراً و.. ثروة! وواصل ركبي مسيرته عبر مدينتي، التي كانت فروعي تهتز على جانبيها أهازيج وزغردة، إلا أن فرعاً بارداً أخذ يكتنف ظهري ببرودته فجأة، فقد لاحظت عيوناً متفرقة في هذه الجهة وفي تلك.. وفي الطريق وفي النوافذ والسطوح، تنظر إلي غاضبة حانقة رافضة.. رفضاً ما كنت أتوقعه، وتهيأ لي في الحين أنها ستنغص علي ما كنت أحلم به دائماً من متع الموائد والمجالس. ورحت أتتبعها في رهبة، ويبدو أن غصاب لاحظ علي ذلك، فقد قال لي مطمئناً:‏

    - لا تهتم بها. إنها لا تخيف ولا تؤذي! ولهذا فنحن نقدمها لك على غضبها هدية. العيون شيء والغضب شيء آخر. وسيكون لك معها مسلك خاص.. يليق بفروعك!‏

    وضحك مرة أخرى، ولم أفهم ما عناه بالجملة الأخيرة، فسألته مستوضحاً:‏

    - ماذا تعني بهذا، يا سيدي غصاب؟‏

    نظر أمامه وزم شفتيه، ثم قال:‏

    - معناه يا صاحب السعادة..‏

    وتوقف قليلاً، وأضاف بعد حين:‏

    - سأوضح لك هذا الأمر فيما بعد.‏

    وبدأ عدد العيون يقل، ولكني كنت أشعر أنها تطاردني دون أن أراها وترغمني على أن أعيش في غربتها..".‏

    -2-‏

    "... كانت المأدبة التي أقيمت على شرفي، فخمة رائعة، حفلت بكل ما كانت تتمناه نفسي، قرب أو بعد. وكانت كل العيون رائقة وصافية. لقد حرص غصاب على أن تكون كلها فاتنة! فلم تفتقد نفسي شيئاً. كنت في الثروة حقاً! وبعد المأدبة أخذت فوق حاجتي من الراحة، وجلست في وقت متأخر مع غصاب في قاعة بديعة، يحيط بكل منا رجاله ومساعدوه. واعترتني رجفة حين عدنا إلى حيث العيون، وكان غصاب هو الذي أثار موضوعها، وقال لي:‏

    - أنت تعلم، يا صاحب السعادة، أن مشاعر العصر.. مشاعر عصرنا تتطور، فلم يعد في استطاعتنا أن نحرم العيون من الضوء، وأن نزيل عنها الغضب. ممارسة العنف لم تعد مجدية بالنسبة إلينا، فهي تمس بإنسانيتنا، وقد أحضرناك لتقوم بهذا الدور، فأنت لا تهمك مشاعر العصر كما تهمك.. الإنسانية! كل ما يهمك يتعلق بمشاعر الطاعة والخضوع.. خضوع العشيرة لك! وفي ذلك تتجسد ثروتك.. وهي ثروتنا معاً! بل لك أن تقول.. سمادنا الفوسفاتي! أعتقد أن الأمر الآن واضح جداً. لا أشك في أنك فهمتني.‏

    وفهمته بالفعل، فلا أقبل أبداً أن ينصب فوقي غضب عيون العشيرة. وأدرت أن صراعي معها قد بدأ في ذاتي نفسها!..".‏

    ***‏

    "... وسلم إلي اليوم غصاب مفتاح مكتبه، وقد تم ذلك طبعاً في أثناء حفلة أقيمت لهذا الغرض، وكانت بداية طيبة. وسمح لي أن أنعم بكل ما فيه.. ومن ذلك بعض سلاحه! ودخلت المكتب معه، ورحت أتأمله في انبهار. كان مناسباً لرغباتي وتطلعاتي.. به حققت مكسباً في طريق أبعادي، سيزيد من خيري ومن خيرات موائدي. وتقدمت من الكرسي وجلست فوقه، وكان غصاب ينظر إلي مبتسماً، وأخذت أتحسس بيدي ما فوق المكتب، فاقترب مني غصاب، وقال لي:‏

    - إنه الآن ملكك. تصرف فيه كما يحلو لك.. ولن يكون بيننا حساب إلا في نعيم الثروة! لقد تنازلت لك عنه، ولم يعد يخصني فيه شيء. نظمه كما تشاء، وإذا احتجت إلى مساعدتي، فإني قريب منك.. تحت تصرفك!‏

    وقبل أن يتجه إلى مكتبه خلف مكتبي، أضاف قائلاً:‏

    - ولا إخالك إلا ستحفظ ذكراي فيه!‏

    وضحكنا ضحكة لم تكن متوقعة. وبعد خروجه مباشرة، خامرني شعور حاد بأن مكتبه يمتصني امتصاصاً..".‏

    ***‏

    "... وألقى رجالي اليوم القبض على شيخ، كان جالساً على قارعة الطريق، ينظر إلى الشمس، التي كانت قد غطت صفحتها سحابة ونشرت ظلالها فوقه. وقد حدثوني أنه كان قد جمع حوله عدداً من الشبان، وراح يحدثهم وهم يخطفون كلماته خطفاً.. كان يقول لهم إن أسرة اللصوص قد اكتملت، ولكننا نؤمن بأن الشمس تشرق على الجميع، وما تلك إلا سحابة ستزول بعد حين.. والحين في عمر اللصوص قصير! وسألت غصاب عنه، فأخبرني أنه شيخ مخرف وأنه يكفيني أن أضعه في سجلاتي بهذه الصفة كما هو في سجلاته.. ومع ذلك لم أطمئن إليه ونقلته إلى حماي!..".‏

    ***‏

    "... بدأ الشيوخ المخرفون يتكاثرون في حماي.. بشكل مخيف! وقد أخطأ رجالي حين تركوا شباب الشيخ الأول ينعمون بأداء حديثه.. ثم ينقلونها بعيداً.. بعيداً! وأصبحت أ سمع أصواتهم وأسمع لهم أنفسهم دوياً رهيباً، يجعلني أحياناً أثور عن كرسي مكتبي! صارت العيون الغاضبة تقتلني. إني لأراها حتى في سحنات الأطفال والنساء والعذارى. عيون تطعنني بطناً وظهراً، وتستنزفني داخلاً وخارجاً. لكنني لن أتخلى عن كرسي هذا عن.. ثروتي! سوف أضرب ضرباً ساحقاً.. مروعاً. ولن أتراجع عن ذلك إلا عندما تسترجع عيوني صفاءها وإلى فترة طويلة جداً وتستقر يدي فوقها بكل ثقلها..".‏

    -3-‏

    وهكذا رحت تكابر، يا غراب، وتتحدى العيون، التي رفضتك، وتعد نفسك بالهدوء و... الثروة! وقد تحدثت عن تلك العيون بهدوء كبير، ولم تضع في مذكراتك أي علامة من علامات التعجب.. فاضطررت أنا إلى وضعها حسب مدلولها عندي.. عندي أنا وحدي.. أنا الشيخ الآخر المخرف! وعندما استطعت أن تخنق بعض الأصوات، وتخترق بعض العيون، بعضها فقط.. ولعلك أرغمتها على ذلك تحت وطأة مآدبك، تصورت أنك انتصرت، واستقربك الكرسي.. الذي قدمه لك غصاب هدية ليزداد من ورائك ثراء، ولتفعل أنت بفروعك، على حد تعبيرك ما تشاء أن تفعل!‏

    ثم جاء اليوم الآخر، الذي لم تتوقعه أيضاً، وتركته لنا نتصور شكله.. وأقبلت على الطعام بنهم.. وحجمه من حجم ثروتك كما كنت تحلم بذلك..‏

    وإذا بالصحون تتحول إلى عيون كبيرة، العيون نفسها التي أخافتك منذ الوهلة الأولى، فتحديتها وأخذت تنتقي ألذ الأطعمة، ولم تعرف أنها حارسة أمينة إلا حين شعرت بخناجر تقطع أحشاءك. لقد كانت عيون الشيخ وعيون شبابه. وأني لأذكر ملامحه، فقد كنت بجانبه يوم عبور تلك السحابة.. وشبابي شيخوخة فكر وتجربة ثورة! وفي يومك الأخير أمطرت السماء بغزارة!‏

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()