بتـــــاريخ : 11/13/2008 7:34:42 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1311 1


    الزمان

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : د. ناديا خوست | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الزمان ناديا خوست

    ليس أهلها فقراء إلى هذا الحد! ومع ذلك تركوها دون شاهدة من حجر تربط إليها غصون الآس! كأنها عاشت دون اسم، دون وجه! ينكرونها! من غرس إذن هذه العلبة من المعدن في الطين الهش لتوضع فيها أزهار لم يجرؤ أحد على وضعها؟ من؟‏

    زين الأحياء المقبرة في صباح العيد بحزم الآس، وزهر الغريب. حمل بعضهم ورودا وقرنفلا من أحواض البيوت. أتى بعضهم بزنبق أبيض وأحمر تفتح مبكرا هذه السنة. ثم خرجوا من زيارة الموتى إلى زيارة الأحياء، إلى حلوى العيد وروائح الطعام وعبق السمن.‏

    تفرج الموتى من خلف ستائرهم الشفافة على تلك الزيارات. وراقبوا الحزن الطري، والحزن الجاف، ولاحظوا غيرة الأحياء من راحة الموتى الذين تركوا الهمّ لمن بقي في الحياة. وتابعوا حوارا بين الأحياء وبين القبور، لايستطيع الموتى أن يجيبوا فيه على كلمة مما يقال. لو استطاعوا لقالوا لاولئك الأحياء: يوم كنتم تستمتعون بالسمن وتأملون بالعسل لم تغبطونا على الموت! ولقالوا: تتمنون عودتنا، فهل تركتم رقعة بقدر الكف لقدم، أو تركتم شجرة نستظل بها؟ ولقالوا: زورتم الحسابات فهل تقدرون الفوضى التي ستعصف بكم لو تحققت رغبتكم فعدنا إلى الحياة؟ ولقالوا: إياكم أن تغرونا بما تخلصنا منه من عواطف الأحياء! ولجرى كثير من العتاب، وكثير من الغضب والغم. لكن الكلام والصمت كانا موزعين بين جانبين يقول كل منهما لنفسه ماشاء ويتوهم ماأراد!‏

    لم يكن الموتى يتجولون في مملكتهم في أيام الأعياد إلا بعد أن ينصرف الزوار، وتغلق البوابات. وكانوا يبكرون بجولتهم في المساء في تلك الأيام، كي يتأملوا مملكتهم المزينة بالآس والزهر والريحان. ويوزعوا في عدل ماأخطأ في توزيعه الأحياء. فيفكون أغصان الآس المكتظة على شاهدة ليحملوا بعضها إلى شاهدة أخرى قلّ فيها. وينقلون الورد إلى قبور الشباب والفقراء، ويرشونها بالماء.‏

    هي، لم تكن تعرف، بعد، تلك الواجبات. أحاط بها المساء، فانصرفت إلى ماكانت تحبه في الحياة. آه، المساء! بعد حر النهار، تفتح باب القاعة وتخرج إلى أرض الدار. تغرف الماء بالسطل من البركة وتسكبه على الحجارة البيضاء والسوداء. فتشعر بهواء ساخن يفور من الأرض. ثم تهب الرطوبة، ويصبح الهواء منعشا رخيا. ترفع ذراعها وتسفح الماء على النباتات المصفوفة في طرف أرض الدار. ترفع ذراعها وتنثر الماء على شجرة الليمون، على البنفسج في الأحواض، على الشكرية التي بدأت ترخي أزهارها البنفسجية، على العطرة، على حلق المحبوب، على الدادا والأرطاسيا. تفور النافورة في وسط البركة، وتدور هي حول نفسها وتسكب الماء على الهواء الناعم الذي يعرش على جانب من الجدار، على الهواء الخشن الذي بدأت حبيباته الحمراء تطرز خضرته المصفرة. "ماذا تفعلين يازهرة؟ ذهب بعقلك الحر؟" بل المساء والماء! آه تفهم الآن لماذا تسمع في البيوت كلها صوت الماء يتدفق من البحرات على أرض الدار، ويسقي الأحواض ويغسل الأشجار، وينسكب في كرم على الحجارة البيضاء والوردية والسوداء. "الماء نعمة الشام!" تسمع كلمات أمها وهي ترش الأشجار بالماء. لاتغسل فقط أوراق شجرة الليمون وشجرة الكباد وشجرة النارنج التي ماتزال مزينة ببعض ثمارها البرتقالية! تغسل روحها من الغبار! تغسل بشرتها البيضاء! تغسل ذراعيها إلى المرفقين، وترش نفسها بالرذاذ! ترفع رأسها. ازرقت السماء! انكسر الحر فاستعادت الدنيا ألوانها! ياللمساء! يغسل المدينة ويعيد إليها الألوان! فلماذا أخرجوها من هناك في تلك الساعة المحبوبة، في المساء؟!‏

    لم تستطع أن تقول هناك بعض الكلمات. فليست البنت من تقول لأهلها: لاتقلقوا سيتبدل الزمان! لاأتزوج، لأن الشغل قلّ عند الخياط، وعند بائع القماش. لاتمتلئ السوق بالناس قبيل الأعياد! وبائع الحلو لايبيع عشية العيد من حلواه! وأصوات الصواني لاترتفع في بيوت الجيران في طريقها إلى الفران! لكن لاتقلقوا علي! مازلت في أول العمر. سيبرح الزمان هذه الأيام! وسأواكب الزمان!‏

    تسمع أمها: يازهرة، هاتي القهوة! فتحمل الصينية، ويفوح الهيل والبن الذي طحنته قبيل لحظات بالمطحنة النحاس. وتدخل إلى الزوار. نساء على رؤوسهن غطاء، نساء دون غطاء، نساء شابات، نساء في منتصف العمر، عجائز مرتبات. يعانقنها ليعرفن رائحتها، وملمس بشرتها، كما يحدث ذلك تماما في الحكايا عن الزواج. أزمنة قديمة تستعاد! طبعا، حتى العروس عادت تسكن مع أهل زوجها. من يدبر بيتا في هذا الزمان؟! سمعت ياأمي: "في هذا الزمان"؟! العتب على الزمان! لذلك لاتتزوج إلا البنات الغنيات والشباب الأغنياء. من بقي يشتغل ليعيش، وخلال ذلك يضع رجل خبزته على جبنة فتاة.‏

    يازهرة، هاتي القهوة! تحمل الصينية وتدخل إلى الضيوف. تعرف أن الزائرات يبحثن لابنهن عن كنز، آملات باكتشاف. لكن النتيجة واضحة للعميان. ألايقال ركود في الاقتصاد؟ فلنقل ركود مثله في الزواج! تقول الخياطة يتزوج فقط القادمون من الخليج في عطلة الصيف. من بقي لايرانا ولانراه! ويردد ذلك الحلاق والسمان.‏

    تحمل صينية القهوة وتدخل كي ترضي أمها. لم نكرر ذلك ياأمي؟ كنت تقولين ماعاد أحد يتزوج بهذه الطريقة. فماذا جرى لك؟ أنت معلمة! أستاذة! لكنك ترتجفين من الزمان. أطفأت التلفزيون. لاتتفرجي ياأمي على الحروب هناك! ستقولين لنفسك ستصل النار إلى هنا من هناك. وتتذكرين ماروته أمك عن "السفر بر" وجوع الناس وبيع البنات! تهب علي رعشتك، لذلك أحمل صينية القهوة وأدخل إلى الزائرات.‏

    لكني حتى اليوم لاأعرف كيف جرف أخي الجنون! أنا سبب جنونه، أم السبب أنه لم يجد شغلا منذ تخرج من الجامعة؟ مرت سنوات وهو يستأجر، مرة ليقود سيارة تاكسي، ومرة يحاول أن يشتغل عامل تمديدات فيفشل هنا وهناك. لامكان له! مهندس زراعي والأشجار تقتلع والمدينة تندفع إلى المقاولات! يتبين أن دراسته في الجامعة دون فائدة، وأنه غير مؤهل لما تنفتح له البوابات! يبدو لي ياأمي أن اضطرابه من فشله يدفعه إلى فشل آخر. الزمان ياأمي، الزمان!‏

    وقت دخل مندفعا ومكسورا، أحمر العينين، فهمت أني لست وحدي سبب ذلك الجنون. ولكن كيف أستوقفه؟ أصرخ؟ وهل كانت تكفيك تلك البرهة كي تنزلي من "الفوقاني" إلى أرض الدار التي كنت أسفح عليها الماء؟ كيف أقوى وحدي على رد يده؟ كيف أقول له إني أشفقت عليه في البرهة التي تفصل الموت عن الحياة؟ أعرف أن ذلك ليس النصر الذي بحث عنه! لم يكن من الإخوة الذين يستبدون بأخواتهم! كان يحملني، كان يدللني، كان يشتري لي قمعا من "النعومة" حتى قلت له: إياك، النعومة تخنق البنات! فحرّمها علي. كان يجلسني في أرجوحة العيد. ويشتري لي من "خرجيته" غزل البنات. ويفسر لي النحو الذي صعب علي، ويجلّد لي دفاتر المدرسة. وبخطه يكتب اسمي على المربعات البيضاء. أخذني معه وأنا صبية إلى السينما! أحرجته النظرات إلي، فصار منذ تلك الأيام يبتسم ويغضي كلما رآني ظاهرة الصبا والجمال.‏

    وصلت زهرة إلى مملكة الصمت قبيل العيد. ماتزال تشعر بالألم. تلمس بكفها رقبتها وتحس بالجرح. مشت وحدها. لاتريد أن يكلمها أحد! لاتريد أن ترى أحدا! يازهرة العاتبة على الدنيا، هنا على من تعتبين؟ لاترد. وتتساءل مقهورة: من غرس تلك العلبة في الطين؟‏

    كانت أحلامها بعيدة عن صينية القهوة وزيارات النساء. لذلك لم تسترسل في الضيق منها. فأدت مايطلب منها كما تؤدى مهمة. لعل بينها وبين أمها مالاينجد فيه الكلام! بينهما العمر. لن تلحق أمها بالزمان المرجو. أما زهرة ففي أول العمر. وعندما تسفح الماء في المساء على الأشجار، تشعر بأن الزمن سيصبح نضرا، ويستعيد الألوان. فهل تستطيع أن تسند رأس أمها إلى كتفها وتقول لها لاتقلقي؟! وهل تستطيع أن تقول لأخيها الذي يكبرها بعشر سنوات اصبر سنوات أخرى، سيتغير الزمان؟ بم ستجيب إذا سألوها: أين الإشارات إلى ذلك، يامنجمة الزمان، وفي كل يوم مشكلة أو نكبة أو زلزال؟ من يتوقع الأمان من الزمان في هذه الأيام؟!‏

    كانت تتجول وحيدة عندما اقترب منها شاب أكبر منها بعشر سنوات. جفلت وابتعدت عنه. لكنه قطع طريقها، فوقفا وجها لوجه. جمعت غضبها كله في عينيها. فقال: اغفري لي! تغفر له؟ هل تصلح المغفرة مافسد؟ هل تعيد إليها المساء في أرض الدار في آخر نهار حار، والماء يبلل ذراعيها وهي ترش به الأشجار؟ هل تداوي المغفرة جرحها المتوهج؟ اسكت، اسكت! آه، تنسين أني عوقبت مثلك! عوقبت؟ فلتعاقب على حمقك! لكن ماذنبي أنا؟ تركته غاضبة، فمشى خلفها. لو عرف جنون أخيها لتقدم وطلب يدها! ماذا تقول؟ وهل كنت أنا أقبلك؟ ماذا يقول؟! لينقذني من الفضيحة؟ أية فضيحة؟ لاأحبك! لست صديقي! أنت جار فقط.. جار من الجيران! جار بعيد عن قلبي! أنا جارة قريبة من قلبك؟ هذا شأنك. لكنك به قتلتني! تطلب يدي؟! تتذكر أنها كانت تهمس لنفسها كلما رأته: هذا آخر رجل يمكن أن أتزوجه! "تطلب يدي؟!" تنسى أني درست في المدارس وأن هذه الكلمات بعيدة عن روحي! تقول، في المدرسة محجبات أيضا؟ لست منهن! ومن لاتحلم بالحب الذي يوصل هو إلى الزواج؟ في عمرها يبدو الحب حب رجل واحد، حبا يستمر طول الحياة، يزهر ويخضر وهو يعبر العمر.‏

    التفتت. مازال يتبعها. ماذا يريد؟ أن يواسيها؟ وهل توجد في هذا مواساة؟ لكنها تساءلت فجأة: كيف وصل إلى هنا؟ ولماذا يلبس ملابس مملكة الصمت البيضاء؟ وانطفأ غضبها. كان في عمر أخيها. كان صاحبه. وأقرب الأصحاب إلى القلب ابن الجيران. يدق الباب فتفتحه له: نعم هنا! ترفع رأسها وتنادي من أرض الدار أخاها، فينزل الدرجات مسرعا إلى صاحبه، ويغيبان في الحارات. يعودان وهما يحملان كيسا فيه فلافل. يجلسان في أرض الدار، وتأتي هي لهما باللبن والخيار والبندورة وبأنواع من المخلل. ثم تطل عليهما من فوق وهما يأكلان ويتحادثان. من أين يأتيان بكل هذا الكلام، وماذا يضحكهما؟ بعد الدراسة افترقا. بحث أخوها عن عمل. هذا اشترى سوزوكي، وقت وصلت السوزوكي إلى البلد. ثم باعها واشترى سيارة نقل زراعية، وقت وصلت السيارات الزراعية إلى البلد. بعد أشهر غطاها وفتح فيها نوافذ خلفية فصارت سيارة محترمة. دبرها! ثم باعها واشترى ميكرو، عندما أدخلت الميكرويات إلى البلد. قيل عمل شركة مع آخرين. ربما! لأن ملابسه تغيرت، ووجهه صار أنضر. بينما كان أخوها يهرم. في تلك الأيام لم تلق عليه السلام عندما كانت تصادفه في الطريق. ويوم أوقف الميكرو ودعاها ليوصلها، مستعدا لتغيير خط سيره ودفع المخالفة، مستعدا كالخاطفين لجر الناس الموجودين معه إلى جهة بعيدة عن مسارهم، التفتت إليه في ترفع: أفضل المشي! بأي حق إذن يكتب اسمها على سيارته؟! تسأله بأي حق؟ يوم سمى السوزوكي "الأميرة أمورة" لم يعترض أحد في الحارة! ويوم كتب بحروف كبيرة على سيارة النقل الزراعية "أميرتي ست الستات" لم يقل أحد لماذا يكرر اسم أميرة. فلماذا جن أخوها، صاحبه من أيام الطفولة، عندما سمى الميكرو المحترم "زهرة ملكت قلبي"؟! تسألني لماذا؟ اسمع لايهمني ذلك كله! لكن سأجيبك لأنك سألتني. أولا، الميكرو ليس محترما! طقطوق، كلما جلست فيه خفت على حياتي! انظر إلى ماتوزعه من دخانه على الشوارع! ثانيا، لايوجد في الحارة من يسمى أميرة. الأميرة مركز، لقب. لكن لايوجد في الحارة زهرة غيري!‏

    ماذا يقول؟ أحقا لم يقصد اسمها؟ هل تناوله في خفة فلم يقدر أنه سيسبب قتلها؟ هل كان يتصور أن صاحبه الدمث، صاحبه الذي مشى معه سنوات في الحارات والشوارع، وصعد معه إلى ذروة قاسيون، وسبح معه في نهر يزيد عند الربوة، وقطف معه المشمش من شجر الغوطة، وتسلق معه عرائش الدوالي، وقطف معه عناقيد العنب قبل أن تحلو، يمكن أن يقتل أخته كالمتوحشين؟‏

    كالمتوحشين؟! تتذكر زهرة أن البلد كلها تحدثت عن شاب ذبح أخته في حديقة عامة. وأن أخاها كان من الغاضبين على ذلك الشاب. قال: "لو عاملنا القتل، مهما كان السبب، كما تعامل جريمة لما ذبح ذلك المجنون أخته!" يومذاك رددت في المدرسة، في فخر، ماقاله أخوها!‏

    ترفع كفها، تلمس عنقها وتطرق. ليس أخي متوحشا! الحياة هي المتوحشة! تلتفت إلى الرجل: أنت أيضا مذنب! كتبت على السيارة بعد شهر: "زهرة أخذت عقلي". في عمرك لايكتب رجل عاقل ذلك! مشت، وتبعها صامتا. تذكرت أنه في مملكة الصمت، مثلها، برداء أبيض، مثلها. هل تسأله لماذا؟ لا، لن تسأله! بل ستسأله! قالت: أنت غرست العلبة في الطين الهش؟ أطرق. يوم مقتلها شطب بالدهان الأسود ماكتبه على الميكرو. ورسم خطوطا سوداء عليه. وعلق شريطا أسود على أنتين بيته وعلى أنتين الميكرو. ثم قطف جميع القرنفل من أحواض بيته، وقصف الزنبق الأبيض، وحزمه باقة ربطها بشرائط حمراء. وضع الباقة على مقدمة الميكرو، وسار إلى المقبرة. إذن هو الذي غرس العلبة في الطين! هو! لم يجد شاهدة من الحجر يربط إليها الآس، فتناول علبة وغرسها في الطين الهش! أنت، إذن! قال: ضبطني! كنت راكعا.. لم أجد الوقت لأضع فيها الزهور! مسحت عينيها وهي تستدير عنه: اسكت، اسكت..‏

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الزمان ناديا خوست

    تعليقات الزوار ()