|
دمــــاء فــي الــمــآقـــي
الناقل :
mahmoud
| العمر :35
| الكاتب الأصلى :
عــلـي الــمـزعـل
| المصدر :
www.awu-dam.org
على الرغم من وصول الدعوة متأخرة، فقد قررت المشاركة، فموضوع الندوة هام جداً ومن الخطأ أن أضيّع فرصة كهذه، وأنا الذي مافترت همتي يوماً وماخبا صوتي لحظة واحدة. وفي هذه المرة سأرفع صوتي أيضاً عسى أن يجد الصدى الذي حلمت به طويلاً... هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن إعداد البحث على الرغم من خطورته لن يكلفني طول عناء، فكل ماكتبت حتى الآن يتمحور حول الموضوع ذاته، وأدراجي مليئة بالأوراق والقصاصات التي تشخص الحالة ذاتها...، حتى ولو لم يكن الأمر كذلك فمن السهل جداً أن أتحدث ساعات طويلة حول الموضوع.
لست الوحيد في ذلك طبعاً، بل يخيّل إليَّ أن أي عامل أو فلاح أو متعلم من مشرق الوطن إلى مغربه يستطيع أن يفعل ذلك أيضاً.
لملمت أوراقي ووضعتها في مصنف خاص بعد أن رتبت أفكاري جيداً وسجلت الكثير من الهوامش التي اعتقدت أنها ضرورية. وأنجزت اجراءات السفر بسرعة قياسية ولكم سررت وحزنت في آن معاً. وأنا أتفحص جواز سفري الذي زينته الأختام والموافقات الضرورية وغير الضرورية وبت أرصد الدقائق والساعات وصولاً إلى لحظة السفر المقرر مساء يوم من أيام نيسان وكم تمنيت أن يكون السفر في ساعات الصباح حيث وجدت متعتي الخاصة في مرات سابقة وأنا أرقب من علٍ تلك الجبال والسهول والمدن والغابات والمحيطات التي تبدو أشكالاً مختلفة ومتداخلة يصعب التعرف إليها لولا تلك الصور السابقة التي تختزنها الذاكرة... وكم من المرات كاد أن يقتلني الحزن وأنا أنظر في الأمداء التي تنام على أحلامنا وتاريخنا... بل في كثير من الأحيان خامرني شعور بضرورة القفز فوق هذه المدينة أو تلك لأرى ناسها وأعانقهم وأذوب في سمرتهم وأحلامهم وعذاباتهم، وما كنت أصحو من هواجسي إلا على صوت مضيفة الطائرة وهي تعلن قرب الوصول... وتعطي تعليماتها الخاصة بسلامة الركاب وأمنهم.
الآن وانا أعبر البوابة رقم (22) متجهاً نحو الطائرة تلاحقني ذيول الشمس التي بدأت تخترق واجهات المطار الزجاجية لتنداح ذابلة فوق المقاعد والوجوه والأمتعة والأهداب التي أضناها الانتظار ولتخترق الكثير من الأماكن المحرمة ولتتلاشى أخيراً أمام الأضواء المبهرة على أقدام الدرج المتحرك حيث أقف في هذه اللحظة تماماً، لأسير في خط مستقيم إلى حيث الطائرة التي تجثم على أرض المطار، يشدني طفل على كتف امه بدأ يبتسم لي ويلوّح بيده كأنه يعرفني من ألف عام، ورغم احتراز والدته لذلك إلا أنه ظلّ يعابثني حتى دخول الطائرة، حيث غفا مع أحلامه، تاركاً لي تلويحته وابتسامته الأخيرة التي تقطعت على حواف الوجوه الكثيرة وهي تبحث عن أماكنها المناسبة داخل الطائرة.
بعضهم أسلم رأسه للنوم فور الجلوس أوكاد، وبعضهم وضع قبعته بين يديه وراح يتأملها. ومنهم من دار واستدار قارئاً الوجوه وأشكال الرؤوس التي غاب نصفها في المقاعد الوثيرة... ومنهم من ضاعت عيناه في فضاء الطائرة وأضوائها، أو عبر نوافذها الضيقة حيث تسربت آخر خيوط الضياء....، وثمة جلبة هنا وهناك وأحاديث دافئة أحياناً وصارخة أحياناً أخرى. وثمة من ينهض ليضع حقيبته في مكانها المخصص، أو يفتح محفظة أغلقها للتو ليعبث بأوراقها سريعاً ثم يعيدها كما كانت بعد أن يتحسس جيوبه الداخلية، ووجوه ليس لها معنى حيث تبدو ساهمة محايدة كأنها أدمنت السفر فصار شيئاً عادياً، وبكاء طفل رضيع يصل إليك مقطّعاً وتنهدات حزينة تنبعث من بعض الجوار الذين تستطيع أن تدرك فوراً أنهم يغادرون البلاد لأول مرة في حياتهم.....
ومع حركة المضيفات النشطة بين المقاعد جيئة وذهاباً تتلاشى الجلبة رويداً رويداً إلى أن تنعدم مع النداء الأول لربط الاحزمة والصدمة الأولى لإقلاع الطائرة وهي تقبض على مسارها في فضاء يمور بالاحتمالات.
وبعد أن استوت الطائرة تماماً عادت جلبة الكبار والصغار وانطلقت الألسن لتتابع الأحاديث التي لم تكتمل، أو لتواصل لغوها في أمور شتى. سرحت عيناي عبر النافذة التي تفضي إلى فراغ بلا حدود وقد حاولت مراراً استطلاع الأماكن التي نطير فوقها، فبدت لي الكثير من المدن كتلاً ملتهبة يلفها غبش المساء، تمر سريعاً أو تختفي فجأة، أو تبدو أحياناً كأنها ومضة زناد تظهر ثم تخبو..... وفي أعماقي تنداح أفكار ومشاعر تتناقض أحياناً وتأتلف أحياناً أخرى... وفي كل مرة أحاول أن أضع مخططاً لهذه المدينة أو تلك، شوارعها... ناسها... ضجيجها أحلامها... انكساراتها ثم ينتهي كل ذلك عند كلمة من شاب يجلس جانبي، أو صوت ينبعث من المقاعد المجاورة.. أو قرقعة الكؤوس تطوف بها المضيفات.
أتناول صحيفة من الجيب القماشي للمقعد، أقرأ عناوينها الرئيسية ثم انتقل لتفصيلات أخرى في قضايا السياسة والناس والمجتمع... وأضعها جانباً ليلتقطها الشاب الذي يجلس بجواري، ثم لا يلبث أن يسترخي ويلقي بها جانباً ألتقطها مرة اخرى، أقرأ الأبراج وأخباراً أخرى ليس لها معنى، ثم أعود لحقيبتي أدقق النظر في مضامين البحث، أرتب هوامشه من جديد، وأرتجل في أعماقي خطاباً خاصاً، وأتخيل الوجوه وهي ترنو إليّ إعجاباً وتقديراً، وعبر الأمداء الواسعة تصل إليَّ اصداء حناجر الفقراء وهي تهتف حباً.
ثم لاتلبث عيناي أن تسرحا عبر النافذة لتضيعا وسط الظلام تزينه التماعات النجوم التي ولدت الآن من رحم الفراغ، وبعض النيازك التي تومض سريعاً ثم تنطفئ، تتقد أحلامي من جديد لتلف وجوه الناس الذين عشقتهم وهم ينامون على أحزانهم فيخيل إلي أني ذلك المارد الذي لن يموت أبداً حتى يوقظهم جميعاً، فينهضوا وهم يقبضون على جمرة أوجاعهم، ليشعلوا بها نار أحلامهم وتاريخهم ثم يتضاءل الحلم بينما تنخفض الطائرة وتبدأ استدارتها في سماء العاصمة لتهبط رويداً رويداً فوق تلال تشتعل بالضياء تتداخل حيناً فتبدو كتلة واحدة ثم تفترق لتصبح الشوارع أكثر وضوحاً تمتد قناديلها على خطوط متوازية لأجد نفسي في سماء المطار مباشرة ترتفع أبراجه بالضياء، وتمتد ساحاته الرئيسية حتى حدود الظلام.
تنهض الأجساد المتعبة، وتنفرج الشفاه، وتتفتح الأهداب الناعسة لتطلق أحلامها، ويدب الصحو من جديد على صوت المضيفة وهي تهنىء الجميع بسلامة الوصول.
تقاطرنا نحو البوابة الرئيسية، وارتفعت جلبة الصغار والكبار معاً، وتداخلت الوجوه والرؤوس والأحلام والاحتمالات، وطارت العيون نحو أيدي المستقبلين وتلويحاتهم، وورودهم، وصخبهم وهم يعلنون نهاية الانتظار الموجع الممض.
التهمتُ وجوه المستقبلين وأيديهم ونار عيونهم اللائبة، فنهضت في داخلي أحلامي الغابرة... فهذه الوجوه هي ذاتها التي حلمت بها، وهي ذاتها التي ارقني مصيرها، وهي ذاتها التي أذوب في سمرتها لأحمل ملامحها جميعاً.
قبضت على حقيبتي شددت يدي فوق حمالتها جيداً ودرت واستدرت بين الجموع، حتى ارتكزت عيناي على لوحة صغيرة يرفعها شاب أسمر طويل، نبتت عيناه العسليتان تحت جبهة عريضة بدأت خيوط السنين تعبر أطرافها، كتب عليها.
((ندوة العرب في المواجهة))
عرفت أنه مرافقي، رفعت يدي.... لوّحت له... تناهض على كعبيه قليلاً، وتناهضت أنا أيضاً.... انفرجت شفتاه عن ابتسامة... صافحته معانقاً..... ثم اتجهنا إلى العاصمة.
الشوارع والبيوت التي بدت لي قبل قليل كتلة واحدة متراصة حيناً ومتباعدة أحياناً أخرى، تمتد أمامي الآن بكل مافيها من حركة العابرين، وواجهات المحال ترتكز فوقها لوحاتها الكهربائية لتعلن أسماءها بحروف عربية حيناً ولاتينية في أغلب الأحيان وإعلانات لبضائع وشركات وأفلام وتظاهرات ومباريات وصور لرجال ونساء...، وصوت مرافقي هادئاً رخيماً يحدثني عن الندوة وأهميتها وظروفها والمشاركين فيها، وأنوار السيارات المبهرة تواجهنا حيناً وتجتازنا أحياناً أخرى... وأحلام وذكريات وهواجس وأوجاع لايمكن أن تتسع لها ردهات الفندق الذي ندخله الآن حيث ستنعقد الندوة.
صباحاً بدأ المشاركون يتوافدون إلى الردهة الرئيسية للفندق استعداداً للصعود إلى الطابق السادس حيث قاعة الاجتماعات، تحلق بعضهم حول المناضد الزجاجية اللامعة الموزعة في زوايا عديدة وبعضهم اتكأ إلى المساند المخملية المنتشرة في أطراف القاعة، وثمة من ظل واقفاً يتبادل الأحاديث مع بعض المشاركين وبعضهم لايزال يدخل الآن... وهنا وهناك ترتفع الأيدي ملوحة، أو تلتصق الوجوه عناقاً، وتفترُ الشفاه عن ابتسامات تولدها حركة الرؤوس التي تومئ تحية أو ترتفع استجابة لتحية أخرى، وتتوحد الوجوه وسط دفء الأحاديث وحرارة اللقاء، ومسافات الزمن.... وجوه كثيرة تنضح بها الذاكرة لترتسم أمامي الآن وسط بحر من الأحلام والعذابات والأفراح الصغيرة والأحداث التي تمتد إلى سنوات طويلة من تاريخنا... فهذا الدكتور عبد القادر السوداني كما عرفته أول مرة تماماً، وذلك الدكتور شرف من مصر وعبد الرؤوف والياس من لبنان وعلى منضدة بلورية لامعة يجلس قبالتي رجل أنيق تتدلى من عنقه ربطة عنق حمراء موشاة بخيوط كريستالية تلتمع تارةً وتخبو تارة أخرى على نحو متناغم بين حركة الرجل وأضواء الثريات المتدلية في سقف القاعة... لقد عرفته تماماً... كنا نقول له:
أبو الليل، أو سبع الليل، وألقاب أخرى لاأذكرها الآن. كل ماأذكره الآن، أني التقيته أول مرة في إحدى قواعد الفدائيين، وإلى جانبه رجل ستيني تبدو ملامحه مألوفه لدي، يومئ برأسه أحياناً ويرفع حاجبيه مستغرباً أحياناً أخرى لكنه في كل الأحوال لايقول شيئاً.
وقبل أن ترتشف الشفاه آخر محتويات الكؤوس، وآخر مسافات السجائر المحترقة كان ثمة صوت يدعو الجميع للصعود إلى الطابق السادس حيث ستبدأ أعمال الندوة بعد قليل.
بعض الأيدي قبضت على حقائب ((السامسونايت)) وبعضها على حقائب جلدية منتفخة وبعضها التف حول مصنفات ورقية عتيقة، بينما كان البعض يتفحص نظارته ويمسحها ويعيدها سريعاً وهو يواصل السير نحو المصعد، حيث بدأ المشاركون صعودهم على مجموعات متلاحقة.... أحياناً تدخل مجموعة كبيرة متراصة، ثم لايلبث أن يخرج بعضهم بانتظار الفرصة اللاحقة، وأحياناً يدخل بعضهم فيومئ إلى زميل آخر للالتحاق به، وتتوحد الأنفاس والوجوه في المرآة المرتكزة في صدر المصعد.
كنت أنا والدكتور عبد القادر وشرف وآخرون بانتظار الفرصة القادمة، دخلناً معاً، التصقت أكتافنا، وتقاربت رؤوسنا وتوحدت أنفاسنا، والتقت عيوننا على وجه المرآة الصقيل، في هذه اللحظة تماماً وقبل أن ينغلق الباب على الفرجة الأخيرة كانت قدم الرجل تنزلق سريعة لتفتح باب المصعد من جديد، كان لاهثاً متوتراً حاول عنوة أن يجد فراغاً مناسباً لجسده الهش الذي يبدو متكوراً حول بطنه ارتفع صوت جرس الانذار في المصعد لكنه لم يأبه، التفتنا إليه دفعة واحدة، فلم يأبه لذلك أيضاً.
ظل متطامناً حيناً ومتشاغلاً بربطة عنقه أحياناً أخرى..... وجه لم نألفه من قبل.
قال الدكتور عبد القادر.... لو سمحت ياأخ..... ثم كررت ذلك أيضاً..... بينما كانت عيناه تجوسان وجوهنا.
قال وهو يشير بيده إلى لوحة الأرقام المضاءة:
((شيشا- شيشا)) ثم أردف موضحاً... الشادش.... الشادش.... قال ذلك وهو يبتسم، ويطيّر نظراته في سقف المصعد.
تراقصت عيوننا الغاضبة بين وجهه المنتفخ، وسطح المرآة الصقيل حيث انهمرت خيوط الدماء واشتعلت المآقي بالحمرة القانية.
شددت يدي على مقبض حقيبتي، دفعته خارجاً، ترامى من جديد نحو الداخل، دفعه عبد القادر..، ودفعه الآخرون، ثم تابعنا الصعود بينما كانت عيناه تختنقان عبر الفرجة الأخيرة لباب المصعد
|