بتـــــاريخ : 11/18/2008 6:03:53 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 927 0


    الحريــــق

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : محمـــود زعـــرور | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الحريــــق محمـــود زعـــرور

     

    وكنت كلما أمعنت النظر جيداً، تدرك، أكثر فأكثر التغير الشامل، الذي أصاب صديقك.‏

    وقدرت، على الفور، أن التغير قد ترك آثاره الدالة، وعلاماته البينة، وكانت هذه الآثار، وتلك العلامات ناتئة، ونافرة، تقدم نفسها بسرعة، ومن النظرات الأولى، ولا تحتاج إلى الانتباه الكبير، أو التفحص الشديد والعميق، كما ظننت في بداية هذه الزيارة.‏

    لقد جذب انتباهك كثيراً وعلى نحو صارخ، ومرعب هذا الارتجاف الكبير الذي حل بأطرافه، وبدا واضحاً، وملفتاً، وبشكل يبعث على الأسى والحزن المؤلمين.‏

    أدركت في زيارتك له أن يديه أصبحتا ضعيفتين، متراخيتين، وأن شيئاً قريباً من الشلل قد سكن في عروقهما، وقد شكل لك هذا الأمر صدمة قوية، وضربة موجعة لم تقدر على مواجهتها.‏

    وأصبحت تعود بذاكرتك البعيدة، التي تمتد إلى سنوات طويلة، إلى تلك الأيام التي عرفته فيها، وقضيت معه شطراً مديداً ومهماً من عمرك، وأحلامك، وآلامك، وشاركته الكثير من الأعمال التي تطلبت وقتذاك، الصبر، والدأب، والسهر الطويل.‏

    لقد عرفت فيه، يومها، القوة، والعزيمة، والإصرار، وتلك القدرة العالية التي تتفجر في الجسم الشاب، المعافى، ذاك الجسم الذي يحمل في جوانحه، وداخله روح مكافحة، ونفس وثابة، لا تعرفان التعب والضعف أبداً.‏

    إنك تذكر دوماً لقاءاتك به، وما إن يصافحك شاداً بقوة وحميمية على يدك، حتى تدرك أن لصديقك طاقة فولاذية جبارة، وبهذه الطاقة التي كان يتميز بها، يدخل امتحان الحياة، والزمن شاهراً حلمه الزاهي، والصادق مثل سلاح ماض، سيغير به الناس والأيام.‏

    كان يحلو لك أن تتطلع كثيراً في عينيه، ولا تدرك كنه شعورك، أو إحساسك، عندما ترى ذاك البريق الساطع، النفاذ، الذي كان يشع بقوة من ضوئهما، وكان هذا الضوء الخارق، الحاد، والصافي، محل مفاجأة عظيمة، ممتدة، ودهشة كبيرة لا تنتهي.‏

    أما اليوم، ومنذ اللحظات الأولى فقد شعرت بانكسار، واخترقت قلبك سكاكين حادة، قوية، دامية، مؤلمة، عندما لاحظت، بسرعة، هاتين العينين المطفأتين والمميتتين.‏

    لقد شعرت أن هاتين العينين لا روح فيهما، وقد هجرهما ذاك البريق الخاص، والمتوهج.‏

    وأدركت، على الفور، أية خسارة قد تمت، وأي حزن قد أصاب صديقك، لأن عبء تلك السنين، وأثرها، كانا ثقيلين، إلى حد كبير.‏

    وقدرت أن الخسارة صارت تلازمه، وأن الحزن أضحى حالة يومية يعيشها بتوحد وإدغام تامين.‏

    أنت تعرف ما حل به، فقد شاركته منذ سنوات بعيدة تلك الزنزانة المكتظة، الباردة حتى الزمهرير في الشتاء والحارقة، واللاهبة في الصيف.‏

    وتلك الأحداث المتلاحقة، والوقائع المختلفة، التي كنتما وجهاً لوجه معها، تركت آثارها المؤلمة ونتائجها القاسية.‏

    تذكرت الحريق الذي شب في ذاك الجناح، ولم تكونوا الفاعلين فيه، أو المدبرين والمسببين له، لكن لعنته الكاوية أصابت الجميع.‏

    وقد شاع أثناء ذلك وبعده حالات شتى من الحصار، والقهر، والتدمير النفسي، تركت الإحباط الرهيب، والخيبة المريرة.‏

    لقد اضطررتم لمواجهة كل ذلك، والتعايش معه، يوماً بيوم، ولحظة بلحظة، وهذا تطلب منكم الصبر والبأس، وأورثكم الوهن في الأعصاب، والتلف في الروح.‏

    وأنت تنظر إلي يديه المرتجفتين بدت لك واضحة وبارزة آثار الحروق الباقية، التي أضحت كوشم قديم، وهاجمتك، على الفور، تفاصيل يوم الحريق، وصورة صديقك وهو يقرع بقوة تلك القضبان الحارقة بكلتا يديه، وأتتك صيحاته المتشنجة، وهو يطلب النجدة، والمساعدة، مستغيثاً وباكياً.‏

    وصارت تتعالى الصيحات، وتتوالى النداءات، وبعد برهة علت الضجة، وخيم الذعر، وبسط الخوف جناحيه الخرافيين في فضاءات الغرف الأخرى.‏

    كان الموت احتراقاً، أو اختناقاً، هاجساً مرعباً، وقاتلاً، سيطر على الجميع، فألسنة اللهب تتصاعد من الإسفنج المكوم أكداساً هائلة الحجم في زاوية الممر، والدخان المتصاعد، الكثيف، نشر راياته السود كعلامة حداد مباغت.‏

    واللحظات التي عشتها، كانت حداً فاصلاً لاختبار الفرص، والإرادات، والحظوظ، وكانت، كذلك، امتحاناً قاسيا، وعنيفاً، للروح بين نداء الحياة الغريزي، وبين الذعر المدمر من احتمال موت جحيمي.‏

    لقد شعرت في تلك اللحظات الرهيبة، يوم ذاك، أن عمراً بكامله، وبكل ما اشتمل عليه من شتى صنوف السلوك، والمشاعر، والأحاسيس، كالحب والكره، الإقدام والإحجام، الأمل واليأس، الدنو والبعد، الفرح والحزن، الطهر والدنس، الضحك والبكاء، العبث والمعنى، وباختصار، لقد تكثف الوجود كله، والعدم كله في البرهات القصيرة والفاصلة، وشكلت ضغطاً هائلاً بحجم مصير غامض، أو قدر سديمي، مثل طلسم أو لغز، وكان لها القدرة الخارقة، والحاسمة، في صياغة النهاية المحتومة، أو فتح باب النجاة من جديد، وعلى نحو قريب من البداية الأسطورية.‏

    والصورة الأكثر رعباً، والأكثر قسوة، تلك الصورة الرهيبة للباب الحديدي، ولقضبانه، ولتلك الألسنة من اللهب التي امتدت، وتطاولت وصارت تنشر وهجها، ودخانها، وأذاها، والحالة شبه الهستيرية التي أصابت الجميع، فتجسدت في القرع الجنوني على الحديد الحارق، المحمى، والذي غدا كجمر أحمر، بل شديد الاحمرار.‏

    لقد تمكن الخوف، وسيطر الذعر، فهرع الجميع، متناوبين تارة، ومتدافعين تارة أخرى نحو الباب، رغم أن الاقتراب من القضبان يسبب ألماً لا يوصف بسبب من الحرارة العالية التي يرسلها اللهب المتطاول، والدخان الأسود.‏

    لكن، لا الحرارة، ولا اللهب الحارق، ولا الدخان اللافح، ولا اشتعال الحديد توهجاً واحمراراً، كان يمنع من الدنو ودق الباب بحركات وأصوات بدت منفعلة، متشنجة، يوجهها دافع طبيعي وبدائي للبقاء والحياة.‏

    لقد كان يؤلمك كثيراً منظر تلك الأيدي، وهي ما إن تمسك بالحديد حتى تكتوي بتلك النار التي أضحت كامنة فيه، فيصيبها التشوه في الحال، وتغدو الصرخات والنداءات أشبه بالعويل، والنشيج.‏

    وصرت تستعيد ما أعقب تلك اللحظات، وكان صديقك يروي لك تفاصيل جديدة عن تنقله من سجن لآخر، وأحوال الأيام الغريبة التي عاشها.‏

    - هل ستكمل دراستك؟‏

    سألته بصوت خافت.‏

    - بالطبع. سأعود إلى الجامعة، وبعد شهرين سأقدم امتحاني في مواد السنة الأخيرة الباقية.‏

    أجابك بثقة.‏

    وكنت تتأمل من جديد وجهه، وتنظر ملياً في عينيه، وأنت تستمع إلى كلماته.‏

    وأدركت أنك أطلت في زيارته، وقدرت الراحة التي يحتاجها، فودعته وخرجت

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الحريــــق محمـــود زعـــرور

    تعليقات الزوار ()