يقول نابليون: 'لا يستطيع أحد أن يقود أفرادًا دون أن يقوم بتوضيح المستقبل الخاص بهم، فالقائد هو بائع الأمل'.من خلال هذا القول الحكيم يتضح لنا أن الدور الأعظم للقائد هو بلورة الرؤية والأهداف البعيدة.
فتعريف القيادة كما مر علينا من قبل هو ' تحريك الناس نحو الهدف ' فأي تحريك هذا الذي سيقوم به القائد إذا لم تكن هنا رؤية واضحة للأهداف التي سيحرك متبوعه تجاهها، ففلا عجب إذن أن تنشئ دولة مثل السويد وزارة تابعة لرئيس الوزراء للاهتمام بالمستقبل وذلك منذ عام 1973م.
وقد بلغ عدد المؤسسات المهتمة بالدراسات المستقبلية في أمريكا وحدها نحوًا من 600 مؤسسة، وتشكل الدراسات المستقبلية نحوًا من 415 مقررًا دراسيًا موزعه على 8 ولايات أمريكية.
صفات الرؤية الجديدة:
أولاً: توضح صورة المستقبل المنشود:
عندما تتضح في ذهن القائد صورة المستقبل ينتقل ذلك الاتضاح بالتالي إلى الأتباع ويصبح ذلك أملاً لديهم وتتولد لديهم الرغبة الأكيدة في تحقيقه، كما يتولد لديهم الشعور الحقيقي بالأهمية والعطاء، ويظل هذا الشعور يتغلغل في قلوبهم وأرواحهم حتى يستخرج أفضل ما لديهم، ولذلك حرص سيد القادة محمد صلى الله عليه وسلم على أن يوضح لأصحابه رضي الله عنهم صورة مستقبل الدعوة من أول يوم بشكل يعلى هممهم، ويذكي طموحهم، فانظر إليه وهو يرسم لهم الصورة:
'ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل عزًا يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر'.
ثانيًا: قراءة المستقبل:
يقول هنري فايول: ' جوهر الإدارة هو قوة التنبؤ قبل حدوث الأشياء ' فلا بد أن يكون لدى القائد سبق النظر وقدرة على توقع المستقبل، بحيث يقدر كل الاحتمالات ويقدر أن أصعبها قد يقع، ومن ثم يستعد له، وانظر لقائد النبيين محمد صلى الله عليه وسلم يوم أن ينزل الله عليه ملك الجبال يسأله أن يطبق الأخشبين على أهل الطائف بعد أن آذوا النبي عليه الصلاة والسلام إيذاءًا شديدًا لكنه صلى الله عليه وسلم لبعد نظره وقدرته على توقع المستقبل يقول له: ' بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا ' أما نحن فلا نفكر إلا فيما نزرعه اليوم لنحصده في الغد ونأكله بعد الغد.
ثالثًا: الهدف الواضح الذي يلهب الحماس:
من الأزمات التي يعاني منها الإنسان المعاصر: تحديد الغاية النهائية لكل أنشطة البشر، ففي الغرب مع كل الجهود الضخمة والتقدم العمراني المذهب يظل هناك سؤال محير عندهم: وماذا بعد ؟ ما هي النهاية ؟
ونظرًا لإلغاء الدين عمليًا فإن كل الأسئلة تظل معلقة حائرة لديهم، لا تجد عندهم أي إجابة شافية، المسلم في الأصل لا يعاني من هذه المشكلة لأن الله جل وعلا حدد له الغاية النهائية التي ينبغي أن تكون هدفًا واضحًا يلهب حماسة في جميع أنشطة حياته قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فالمسلم الواعي يدرك جديًا أن هدفه في الحياة هو:
' الفوز برضا الله تعالى والجنة والنجاة من النار من خلال عمران الأرض بمنهج الإسلام والقضاء على كل طاغوت ليكون الحكم لله وحده'.
ومع كل هذا الوضوح إلا أن تطاول الأمد على كثير من المسلمين وتشعب الدنيا في قلوبهم ِأدى إلى نسيانهم الهدف الذي جاؤوا من أجله، فعاملوا هذا الهدف معاملة المهمل المنسي أما سيد القادة محمد صلى الله عليه وسلم فتصفه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فتقول: 'من رآه رأى غاديًا رائحًا لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة، بل رفع له علم فشمر إليه اليوم المضمار وغدا السباق والغاية الجنة أو النار' [حديث ضعيف].
رابعًا: على مستوى عالٍ من الانجاز والمثاليات:
تعتبر ماليزيا من أفضل الدول التي استطاعت أن تبنى خطتها الاستراتيجية على رؤية واضحة وعلى مستوى عالٍ من الإنجار والمثاليات، ففي نهاية 1985م وضعت لها رؤية لمدة عشر سنين من 1985 إلى 1995م وكان هدفها آنذاك أن تصبح إحدى الدول الصناعية، واستطاعت أن تحقق هذا الهدف فارتفع معدل النمو من 1,2% ليصل إلى 8% واستمر هذا المعدل حتى 1995م، وهو يعتبر أكبر معدل نمو العالم في ذلك الحين، وفي عام 1994م وضعت ماليزيا رؤية جديدة سمتها 20/20 VISSION وجعلت هدفها أن تصبح إحدى دول العالم الأول في خلال 20 عامًا، علمًا بأنها اليوم تعد من دول العالم الثاني.
خامسًا: محاطة بروح الصبر والتفاؤل:
حكى أن كسرى أنوشروان مر بفلاح عجوز يغرس شجرة لا تثمر إلا بعد سنوات طويلة قد لا يمتد إليها عمر هذا الفلاح العجوز فقال له كسرى: كيف تتعب نفسك في غرس هذه الشجرة التي لن تنال من ثمارها شيئًا ؟ فأجاب الفلاح قائلاً: ' لقد غرس الناس قبلنا فأكلنا، ونغرس لمن بعدنا ليأكلوا ' يا لها من كلمات ذات عبر، تضيء لنا الطريق، تخبر أنه لا بد من الصبر والتفاؤل لتحقيق الهدف، ذلك أن كل هدف جاد طموح نابع من رؤية مستقبلية جيدة لا بد وأن تقف دون تحقيق مصاعب وعوائق، ولا يمكن للقائد أن يتغلب عليها إلا إذا كانت لديه روح الصبر والتفاؤل، ويصور لنا الشاعر هذا المعنى أبلغ تصوير حين يقول مخاطبًا كل قائد همام:
سعيت للمجد والساعون قد بلغوا جهد النفوس وألقوا دونـه الأزرا
وكابدوا المجد حتى مل أكثـرهم وعانق المجد من أوفى ومن صبرا
لا تحسب المجد تمرًا أنـت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصـبرا
وهكذا أيها القائد فدون حلاوة لا بد من تجرع مرارة الصبر، فتسلح به، واضمم إليه روح التفاؤل وأنت تضع لعملك رؤيتك المستقبلية، وبذلك تكون خطوات خطوة جادة على طريق صناعة نفسك كقائد، ولئن كنا حدثناك هذه المرة عن سمات الرؤية الجيدة، فلا بد أن نحدثك بعد ذلك عن الطريق إلى وضع الرؤية المستقبلية تفصيليًا، وهذا ما نعدك به إن شاء الله في المرة القادمة.
مراجع:
صناعة القائد د. طارق السويدان - أ. فيصل باشراحيل