لقد حرص الإسلام حرصًا بالغًا على تنمية الإنسان وتنمية موارده الاقتصادية، ليعيش حياة طيبة كريمة، هانئة مليئة بالإنجاز والعمل. العمل الصالح الذي يؤتي ثماره مرتين: مرة في الحياة الدنيا، ومرة في الحياة الآخرة، وهي الحياة التي ترتفع بالمسلم من حد الكفاف إلى حد الكفاية والرفاهية.
ولم يكن لفظ التنمية الاقتصادية شــائعًا في الكتابات الإسـلامية الأولى، إلا أن المعنى قد استخدم كثيرًا بألفاظ مختلفة منها: العمارة والتمكين والنماء والتثمير، وقد ورد بعض هذه الألفاظ ومترادفاتها في القرآن الكريم وفي بعض الأحاديث النبوية الشريفة، وظهرت بوضوح في كتابات الأئمة والعلماء وخطبهم في عصور الإسلام المبكرة والوسيطة.
مفهوم شامل
ويمكننا القول إن للتنمية الاقتصادية في الإسلام مفهومًا شاملاً عريضًا، يستوعب كل ما يؤدي إلى الحياة الطيبة للإنسان الذي كرمه الله تعالى، وجعله خليفته في الأرض، وأمره بإصلاحها ونهاه عن السعي فيها بالفساد والخراب والدمار وإهلاك الحرث والنسل.
لقد حاول بعض الكتاب استنباط مفهوم للتنمية في الإسلام، استنادًا إلى نصوص أو معان قرآنية، فقيل إن التنمية هي طلب عمارة الأرض، وذلك من قوله تعالى {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [ هود : 61]. وقيل إن التنـمية تعــني «الحياة الطيبة»، إشارة إلى معنى الآية الكريمة {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل:97]. وقيل هي نقل المجتمع من الوضع الذي لا يرضاه الله، إلى الوضع الذي يرضاه.
التنمية في الإسلام
وضع الإسلام للتنمية حسابًا خاصًا، فجعلها في حكم الواجب، وقد فسر علماء التفسير قول الله عز وجل {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود :61]. على أنها تفيد الوجوب، فالسين والتاء في «استعمركم» للطلب، والطلب المطلق من الله يكون على سبيل الوجوب، وفي تلك الآية يقول الإمام الجصاص:«إن في ذلك دلالة على وجوب عمارة الأرض بالزراعة والغرس والأبنية».
ثم إن الإسلام لما أوجب العمارة على خلقه، جعل لهم في مقابل ذلك حوافز عظيمة، وذلك لما في الحوافز والدوافع والقيم التي تحرك الأفراد، من دور أساسي في إنجاح هذه العملية.
ويعتقد أكثر كتاب التنمية في الاقتصاد الإسلامي، أن القيم التي يربي الإسلام أبناءه عليها، ملائمة لتحقيق التنمية الاقتصادية، ولعل أول من أشار إلى هذه النقطة بصورة عملية ومنظمة «مالك بن نبي» في كتابه: «المسلم في عالم الاقتصاد» الذي ركز فيه على دور الإنسان في المجتمع المسلم كلبنة أولى لعملية التنمية.
هذا فيما يتعلق بالحوافز الذاتية التي تجعل الإنسان يسعى لتحقيق التنمية من خلال المنهج التربوي الإسلامي. أما في مجال الحوافز الأخروية والروحية، فنجد أن هناك آيات كثيرة، وأحاديث ترغب في العمل وتحث عليه، ومن الحوافز الأخروية قول الله تعالى {ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لايظلمون} [الأحقاف:19]. وقوله تعالى {إنا لانضيع أجر من أحسن عملا}[الكهف:30]. وكذلك قوله تعالى {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر :10]. ومن ذلك قول النبي [:«ما من مسلم يغرس غرسًا ، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة».
وفي مجال الحوافز الدنيوية، فقد وردت أحاديث كثيرة، فمثلاً في مجال الأعمال المخصوصة كالزراعة، جاءت أحاديث تجعل العمل الزراعي في الأراضي غير المملوكة سببًا في التملك، وهذا الحافز يتسم مع طبيعة الإنسان المجبولة على حب المال والتملك. ومن ذلك قول النبي [:«من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وما أكلت العافية منه له به صدقة».
مرتكزات أساسية
للتنمية الاقتصادية في نظام الإسلام الشامل، موضع عظيم، ذلك لأنها تؤدي إلى بلوغ الحياة الكريمة التي أمر الله الناس أن يبتغوها في الدنيا ووعد عباده المؤمنين بأفضل منها في الآخرة.
ومن هذه النظرة الشمولية، المتعددة الجوانب والأبعاد للإسلام تجاه قضية التنمية، نجد أن الإسلام قد ركز على ثلاثة مبادئ مهمة، من المبادئ الحركية للحياة الاجتماعية، وهي:
ـ الاستخدام الأمثل للموارد والبيئة والطبيعة التي وهبها الله تعالى للإنسان وسخرها له.
ـ الالتزام بأولويات تنمية الإنتاج، والتي تقوم على توفير الاحتياجات الضرورية الدينية، والمعيشية، لجميع أفراد المجتمع دون إسراف أو تقتير، قبل توجيه الموارد لإنتاج غيرها من السلع.
ـ إن تنمية ثروة المجتمع وسيلة لتحقيق طاعة الله، ورفاهية المجتمع وعدالة التوزيع بين أفراد المجتمع. ومن هنا يتبين الربط المباشر لعملية التنمية بالعبادة، والمستمد من قوله تعالى{هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود:61]. إذا ما ربط ذلك بالهدف النهائي لهذه النشأة والاستعمار، والمتجسد في قوله تعالى{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}[الذاريات:56].
ونخلص من ذلك إلى القول أن مفهوم التنمية الاقتصادية في الإسلام، مفهوم شامل نواحي التعمير في الحياة كافة، تبدأ بتنمية الإنسان ذاتيًا، وذلك بتربيته دينيًا وبدنيًا وروحيًا وخلقيًا، ليقوم بالدور المنوط به إسلاميًا، ومن خلال ذلك تنشأ عملية تعمير الأرض، الموضع الذي يعيش فيه الإنسان اقتصاديًا، واجتماعيًا، وسياسيًا ... إلخ، لتتحقق له الحياة الطيبة التي ينشدها، ويستطيع في ضوئها أن يحقق الغاية العظمى، وهي إفراد العبادة لله وتحسينها.
كما أن التنمية الإسلامية، هي تنمية شاملة، لأنها تتضمن جميع الاحتياجات البشرية من مأكل وملبس، ومسكن، ونقل، وتعليم، وتطبيب، وترفيه، وحق العمل، وحرية التعبير، وممارسة الشعائر الدينية... إلخ، بحيث لا تقتصر على إشباع بعض الضروريات، أو الحاجات دون الأخرى.
ولذلك فقد ارتبط مفهوم التنمية في الإسلام بالقيم والأخلاق الفاضلة، وأصبح تحقيق التنمية مطلبًا جماعيًا وفرديًا وحكوميًا، يسهم فيه كل فرد من أفراد المجتمع.
أهداف جليلة
للتنمية الاقتصادية في الإسلام مبادئ وأهداف جليلة، يمكن أن نجملها اختصارًا في اثنين:
ـ هدف اقتصادي مرحلي يتمثل في استخدام الموارد الطبيعية لتحقيق الرخاء الاقتصادي للفرد والجماعة.
ـ وهدف إنساني، وهو الهدف النهائي ويتمثل في استخدام ثمار التقدم الاقتصادي، لنشر المبادئ والقيم الإنسانية الرفيعة متمثلة في السلام والعدل والمعرفة الكاملة بالله عز وجل.
وترتكز عملية التنمية الاقتصادية في الإسلام على مرتكزين أساسيين، يمكنانها من تحقيق هذه الأهداف، هما:
أولاً: مرتكز العقيدة الإسلامية، والتي ينبع منها إقامة أكبر قدر من العمران، والتقدم الاقتصادي والاجتماعي على ظهر الأرض. ذلك لأن العقيدة الإسلامية ترسم للإنسان دوره في الحياة ومسؤوليته تجاهها، ثم تأمره أمرًا صريحًا بأن ينهض بكل ما يحقق له الرخاء الاقتصادي والاجتماعي.
ثانيًا: مرتكز الإرادة المجتمعية «الجماعية» وإنماء الشخصية الجماعية للمجتمع المسلم، والتي تستند إلى القيم الاجتماعية الإسلامية.
والإسلام، بهذين المرتكزين، يقف موقفًا مغايرًا تمامًا للمرتكزات الوضعية في التنمية، والتي تستمد من فهم الفكر الإنمائي الوضعي بطبيعة المشكلة الاقتصادية، وبالتالي جوهر عملية التنمية وأبعادها.
فالنظم الوضعية ترى أن الأصل هو ندرة الموارد، وعدم كفايتها لإشباع حاجة الإنسان، بينما نجد الأصل في الإسلام هو وفرة الموارد الطبيعية وكفايتها لتلبية حاجات البشر جميعًا لقوله تعالى {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار* وآتاكم من ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} [إبراهيم : 33 - 34].
والنظم الوضعية تركز تركيزًا شديدًا على الجانب الاقتصادي لعملية التنمية فترجع التخلف لاعتبارات مادية بحتة، كندرة رأس المال، أو نقص المهارات التنظيمية، أو تخلف الفن الإنتاجي أو النمو السكاني السريع، كما تجد علاج هذا التخلف في التقدم المادي، كزيادة تراكم رأس المال، وتطوير التكنولوجيا وتنويع الهيكل الإنتاجي.
وفي الآونة الأخيرة أصبح الدمار والخراب والإبادة الجماعية للشعوب المستضعفة جزءًا من استراتيجيات التنمية الوضعية، إذ يؤدي هذا الخراب في اعتقادهم إلى إعادة التوازن في التركيبة السكانية لصالح هذه الدول المتجبرة، ثم يبدأ مسلسل النهب العالمي لثروات المستضعفين من خلال ما يسمى إعادة الإعمار على نهج (إني لأقتله وأبكيه معًا) فبئس ما كانوا يصنعون.
تنمية الإنسان
أما في النظام الإسلامي، فإن جوهر التنمية هو تنمية الإنسان نفسه، وليس مجرد تنمية الموارد الاقتصادية المتاحة لإشباع حاجاته، فهي تنمية أخلاقية تهدف إلى تكوين الإنسان السوي الذي يشكل نواة مجتمع المتقين، والذي ينظر إلى التقدم المادي من منطلق الخلافة في الأرض، التي سيحاسب عليها أمام المولى عز وجل.
ولذلك فإن عمارة الأرض ـ أي التنمية بالمصطلح الحــديث ـ ليست عملاً دنيويًا محضًا، بل هي عمل تعبدي فيه طاعة لله عز وجل. ولا يتعارض الجانب التقليدي في التنمية، وعمارة الأرض مع تحقيق الرفاهية المادية للمجتمع الإسـلامي. وعلى ذلك لا تنصرف جـهود التنمية في الإسلام إلى مجــرد تحسين مستوى دخل أفراد المجتمع أو توفير حد الكفاف أو إشباع حاجاتهم الأساسية فقط ـ كما تهدف النظم الإنمائية المعاصرة ـ وإنما تنشد أساسًا تحقيق الكفاية المعيشية لكل فرد من أفراد المجتمع، على النحو الذي يخرجهم من دائرة الفقر إلى حد الغنى.
وخلاصة القول، فإن التنمية الاقتصادية في الإسلام، تنمية شاملة متوازنة تجمع بين تنمية الإنسان، وإعداده إعدادًا صحيحًا ـ ليضطلع بمسؤولياته أمام الله عز وجل ـ وبين تنمية البيئة المحيطة به اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا، لتمكنه من القيام بهذه المسؤوليات على الشكل المطلوب خير قيام.