بيروت - د. أسعد السحمراني (كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية )
|
|
|
تجتاح الطرح الفكري سياسياً كان أم اقتصادياً أم ثقافياً أم فنياً، في الآونة الأخيرة، موجة عاتية من الشعارات يدور جلها حول مصطلح العولمة، بحيث باتت كلمة عولمة على كل شفة ولسان. وانقسم الناس حيالها بين رافض أو مسلم بها، وبين قائل بضرورة مواجهة مخاطرها، وآخر يقول، إن العولمة واقع علينا التعامل معه.
وشعارات العولمة هذه فرضت على مؤسسات وملتقيات كثيرة، وهي تظهر مذعورة حيال قرن قادم هو القرن الحادي والعشرون، مع أنه لا مبرر لهذا الذعر، فمصير الأمم وحركتها في مسيرة التاريخ لا يقومان على القفزات الفجائية، والحركات غير المحسوبة، وإنما تجري الأحداث دوماً بناء على معطيات وظروف وأسس، وهي في ذلك تنطلق من الخصائص الحضارية للأمة.
إن من يدقون طبول العولمة مسلّمين بعولمة/ أمركة، يبدو أنهم لم يقرأوا التاريخ الذي يشكل ذاكرة الشعوب ومصدر العبر والدروس لأجيالها، كما يظهر أنهم لم يعوا أن التقدم الحضاري نتاج لتراكم معرفي وإنمائي شامل يلتقي في حاضره عبر الماضي وتراثه مع التطلعات المستقبلية.
سقط الاتحاد السوفياتي السابق مع بداية العقد الأخير من القرن العشرين للميلاد، وتم نعي الحرب الباردة، فظن الأمريكي أنه بات متوحداً ينفرد بالقيادة العالمية، ولذلك زعموا أنهم يعملون لصياغة نظام عالمي جديد هو في حقيقة أمره أطماع استعمارية تجددت في أثوابها وأشكالها الخارجية، ولكن حقيقتها مكشوفة لكل عاقل.
إن الولايات المتحدة الأمريكية تظن أن توقف الحرب الباردة قد أخلى لها الساحة لتعبث بحضارات الأمم في مختلف الميادين، ولتضرب هويات الأمم وتعمل لسيادة قيمها البالية التي تشكل كميات من السموم الوافدة، وهي مادة قاتلة لمن قبلها من الشعوب.
إن المطروح هذه الأيام هو عولمة/ أمركة تسوّق فلسفة الاستهلاك والتبذير وهدر الثروات، وتروج الكاوبوي والهمبرغر وأفلام هوليود وإعلام C.N.N، وهي في كل ذلك تنطلق من محددات ثقافية لا تتلاءم مع هويتنا العربية، الإسلامية، وفي الوقت عينه لا تناسب هويات أمم وشعوب في أنحاء العالم كافة، لذلك ذهب الكاتب الاستراتيجي المسوق لعولمة الأمريكان هذه الأيام صامونيل هنتنجتون إلى القول بصدام الحضارات، وصرح بكل وضوح - ولم يضف جديداً في هذا - أن الإسلام يشكل عقبة وسداً منيعاً أمام عولمة الأمريكان، وأن الصدام واقع معه ومع أتباعه لا محالة.
وإذا كان الأمريكي يظن أن سيادة قيمه المادية ومفاهيمه الإباحية المستهترة بكرامة الإنسان أمر سهل، فإنه في ذلك واهم وغير واقعي، ولابد من التأكيد في هذا المقام لمن يريد أن يعرف بأن الشعوب - ونحن العرب والمسلمين منها - لم تعرض وطنيتها ودولها وحضارتها في سوق أو مزاد، مباح التصرف به للولايات المتحدة الأمريكية أو لسواها، كما أن محاولات نسخ الهوية ليست المحاولة الأولى في التاريخ. ولن يكون الأمريكي أسعد حظاً من سابقيه.
نتسوق في هذه العجالة إلى من يعتمدون سياسة التخاذل في مواجهة العولمة، واقعة هي الحالة البريطانية التي عملت للعولمة سابقاً ولم تفلح على الرغم من أنها ملكت ما لم ولن تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية الوصول إليه.
فبريطانيا، وكما سطر بول كينيدي في كتابه، «نشوء وسقوط القوى العظمى» كانت بين عامي 1760م و 1830م مسؤولة عن ما يقارب ثلثي حاصل الإنتاج الصناعي الأوروبي. ووثبت حصتها من إجمالي الناتج الصناعي العالمي من 1.9% إلى 9.5%، وارتفع في غضون الثلاثين عاماً التي أعقبت تلك الفترة إلى 19.9% برغم انتشار التكنولوجيا الحديثة في أقطار غربية أخرى، وأنتجت المملكة المتحدة (بريطانيا) في عام 1860م، الذي ربما كان ربيع بريطانيا الصناعي 35% من إنتاج الحديد العالمي و50% من الفحم والفحم الحجري، واستهلكت أقل بقليل من نصف الإنتاج العالمي من القطن الخام.
لقد بدا أن بريطانيا التي تشكل نفوسها (سكانها) آنذاك 2% من نفوس العالم و10% من نفوس أوروبا، أقدر على إنتاج ما يقارب 40 إلى 50% من الإنتاج العالمي من الصناعات الحديثة وحوالي 55 إلى 60% من إنتاج أوروبا، وبلغ استهلاكها من مصادر الطاقة الحديثة (الفحم، الفحم الحجري، والزيت) في عام 1860م خمسة أضعاف استهلاك فرنسا، و 155 مرة بقدر الاستهلاك الروسي. وكانت لوحدها مسؤولة عن خمس تجارة العالم، وخمسي تجارة البضائع المصنعة، ومخرت أكثر من ثلث السفن التجارية في العالم في عباب البحار رافعة العلم البريطاني.
الأمركة وقيم المادة
وبريطانيا بكل هذه الإمكانات لم تتمكن من الإمساك بالقرار العالمي، ولم تنجح في نسخ هويات الأمم والشعوب، ولا أظن ما في أيدي الأمريكان اليوم يصل إلى هذا المستوى المهم، إلا إذا ذكرنا أن سكان الولايات المتحدة الأمريكية الذين يبلغون 4% من سكان العالم يستهلكون 50% من كوكايين العالم، أو إذا ذكرنا أن عشرات الملايين من سكان أمريكا شاذون جنسياً يمارسون المثلية في العلاقات الجنسية، أو أن نسبة اللقطاء من الأطفال المولودين عندهم أعلى منها في أي منطقة من العالم. فهل هذه هي العولمة التي يريدون تسويقها؟ أم أنهم يريدون تسويق مفاهيم مؤتمر المرأة الذي عقد في بكين منذ ثلاثة أعوام وكان دعوة لإباحية تهلك الحرث والنسل، وتضرب قيم الأسرة وشبكة العلاقات الاجتماعية؟ وهل عولمتهم هي العلاقات الزائفة مع مونيكا لوينيسكي وبولا جونز وسواهما؟
إن العولمة/ الأمركة المطروحة هي مشروع إلغاء لكل ما هو غير أمريكي/ غربي، وهي بالتالي دعوة لسيادة ثقافة نابعة من قيم المادة والكم، ثقافة لا مكان فيها للإنسان رغم ادعائهم وزعمهم أنهم حريصون على حقوق الإنسان. وهذه العولمة تهدد بشكل أساسي العالمين العربي والإسلامي لأن قيمنا النابعة من الإسلام لا تقر ما هم عليه.
إن أمريكا والغرب ومعهما جوقات من المتخاذلين يبشرون بعولمة تتضمن مشروع إلغاء لكل ما هو غير غربي - أمريكي، وحجتهم أن ما يساعد على ذلك هو التطور في وسائل الاتصال والتواصل، وتراهم يبالغون في تداول مقولة إن العالم بات قرية صغيرة، ونسي هؤلاء أن خصائص الأمم لا تلغيها حالات تواصل إعلامي أو ما سوى ذلك، وغاب عنهم أن التمايز والتغاير بين الأمم والحضارات أمر متأصل لا يلغيه التلاقح الحضاري والانفتاح الثقافي.
وما يؤكد التغير في خصائص الأمم أن الله تعالى أبلغنا عن ذلك في مواقع متعددة من القرآن الكريم منها قوله تعالى: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين}. وكذلك قول الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}.
الاختراق والعدوانية
إن العولمة التي يريدونها إنما هي عولمة الاختراق، وهي عدوانية الطابع تحاول ضرب كل مواطن وركائز القوة في أمتنا، ومن هذا القبيل ما يذكره أحدهم وهو صاموئيل هنتنجتون حيث يقول: «الحكومات السعودية والليبية وغيرها استخدمت ثرواتها النفطية لاستثارة وتمويل عملية الإحياء الإسلامي، والثروة الإسلامية أدت بالمسلمين إلى أن يتحولوا بسرعة عن الافتتان بالثقافة الغربية إلى الانغماس العميق في ثقافتهم والاستعداد لتوكيد مكانة وأهمية الإسلام في الدول غير الإسلامية. ومثلما كان ينظر إلى الثروة النفطية كدليل على تفوق الإسلام، الزخم الذي صنعه الارتفاع الشديد في ارتفاع أسعار النفط هبط في الثمانينيات، ولكن النمو السكاني كان قوة رافعة باستمرار».
وهنا نلاحظ من هذا القول الذي ورد في كتاب صدام الحضارات، كيف أن نظام العولمة عمل لتخفيض أسعار النفط كي يضرب أحد مرتكزات التمويل للحركة الثقافية والدعوة الإسلامية. ولكنه بقي حائراً كيف يواجه النمو السكاني في أمتنا كماً ونوعاً. إن دعوتهم للعولمة تريد إحلال الليبرالية الغربية محل كل الحضارات والرسالات والثقافات والنظم، أي أنها مشروع إلغاء للآخر والمسلم في الطليعة لأنهم يرون في الإسلام الحاجز المانع بعد سقوط الشيوعية.
دعوى نهاية التاريخ !
وقد أعلن ذلك فرانسيس فوكوياما الأمريكي الياباني الأصل دون مواربة، يقول فوكوياما: «يبدو لي - أخيراً - أن الجنس البشري كما لو كان قطاراً طويلاً من العربات الخشبية التي تجرها الجياد متجهة إلى مدينة بعينها عبر طريق طويل في قلب الصحراء، بعض هذه العربات قد حددت وجهتها بدقة ووصلت إليها بأسرع وقت ممكن، والبعض الآخر تعرض لهجوم من الآباش الهنود الحمر، فضل الطرق، راحو يبحثون عن طريق بديلة للوصول إلى المدينة. وفي النهاية يجد الجميع أنفسهم مجبرين على استعمال الطريق نفسه. ولو عبر طرق فرعية. للوصول إلى غايتهم. وفعلاً تصل أغلب هذه العربات إلى المدينة في النهاية، وهذه العربات عندما تصل لا تختلف عن بعضها البعض إلا في شيء واحد وهو توقيت وصولها إلى المدينة، سرعة أو بطء وصولها إلى الديمقراطية الليبرالية، ومن ثم نهاية رحلتها الطويلة، نهاية التاريخ..».
إن فوكوياما في قوله هذا الوارد في كتابه الداعي للعولمة والمعنون: «نهاية التاريخ» إنما يصرح بفكرة الإلغاء عندما يقول بأن المدينة الوحيدة هي الديمقراطية الليبرالية ومن لم يدخلها لا يزال خارج المدينة، كما أن الدخول إليها بزعمه هو نهاية التاريخ. ولدعاة العولمة ولفوكوياما نقول: مزاعمكم هذه لن تغير من الحقيقة شيئاً وأما الحضارة التي تحقق كرامة الإنسان وسعادته فنحن صناعها بفضل الهدي السماوي وستبقى.
المشروع الاستعماري الاستطاني
إن العولمة مشروع استعماري أمريكي، والصهيونية من أدواته، وهذا المشروع يحمل في ثناياه كل أشكال التحديات والأطماع العدوانية، وهو غزو لا يكتفي بجانب أو قطاع ونقول: إن العولمة/ الأمركة غزو ثقافي اجتماعي اقتصادي سياسي يستهدف الدين والقيم والفضائل والهوية، كل ذلك يعملون له باسم العولمة وحقوق الإنسان.
إن مواجهتنا للعولمة/ الأمركة والصهينة تحتاج منا إلى التشبث بالهوية الثقافية والتحصن بالحصن الثقافي لأنه العامل الأقوى في المواجهة، ومهمتنا أن نبرز معالم هذه الهوية الإسلامية المؤمنة التي تقوم على قاعدة السماحة وقبول الآخر إذا كان غير ممارس للعدوان علينا، وواجبنا رد كل عدوان على الدين أو الثقافة أو الأرض والمقدسات، ففي مسألة قبول الآخر لابد من التنبه إلى هذا الجانب، والكلمة الفصل هي قول الله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}.
إننا نملك نظام القيم المؤهل لإنقاذ البشرية كلها مما تعانيه في ظل انتشار القيم المادية، وقيم الغرب والأمركة الاستعمارية، نملك قيم العدل والحرية وحقوق الإنسان، لكن أخذ الدور يحتاج إلى مجهود كبير لابد من أن تتضافر فيه الجهود، وأن تقوم صيغ التكامل والتعاون بين مؤسسات المجتمع المدني - المؤسسات الأهلية - وبين الحكومات كي نرد التحديات، ونحتل المكانة المناسبة وقيمنا الحضارية وفي ذلك مصلحة للبشرية جمعاء.
نشر في مجلة (المعرفة) عدد (46) بتاريخ (محرم 1420هـ -أبريل/مايو 1999م)