هل هناك أفكار ومفاهيم شائعة حول التراث الإسلامي ونموذجه المعرفي، طرأت علينا من منهجيات العلوم الحديثة ؟
والجواب :
هناك العديد من المشكلات التي تواجه عقل الباحث أو طالب العلم المعاصر عند الاقتراب من تراثه. لعل أولاها- تتعلق بالباحث نفسه؛ وتتمثل في ضآلة المعرفة بمعلومات التراث في جزئياته وكلياته، وثانيتها-وهي التي نقف عندها- تتعلق بالمسافة بين التراث وبين العلم الحديث؛ وتتمثل في كمّ المصطلحات الملتبسة بين لغة العلوم الاجتماعية والإنسانية المعاصرة وبين النصوص التراثية، بل ونصوص الأصليْن (الكتاب والسُّنة) نفسها.
إن ثمة أفكارًا ومفاهيم شائعة حول التراث الإسلامي ونموذجه المعرفي، ليست سوى تلبيسات طرأت من منهجيات العلوم الحديثة، من قبيل قضية الإطلاق والنسبية. فلا يمكن القول إن النموذج المعرفي الإسلامي مطلق وإن الغربي نسبي، هذا الكلام باطل. وبطلانه يتمثل في أن القول "بالنسبية" كأساس هو أيضًا إطلاق؛ حيث يمثل منطلقًا لا نقاش فيه. وبالتالي مهما أنكر هؤلاء الإطلاقَ فهم يقعون فيه، ولابد علينا من فك هذا الاشتباك!
وكذلك قضية القيمية والمادّية، ودعوى أن النموذج الإسلامي قيمي، وأن النموذج الغربي مادي غير قيمي، هو كلام خطأ ملتبس؛ لأن النموذج الغربي قيمي أيضًا. الفارق بين النموذجين أن النموذج الإسلامي يعتمد الوحي مصدرًا لمعرفته والآخر لا يعتمد الوحي. أو أن المعرفة الإسلامية قائمة على مصدرين: الوحي والوجود..في حين أن المعرفة الأخرى قائمة على الوجود وحده. ليس الخلاف في التناول العلمي بقيم أو بدون، فالقيم لازمة والتحيز حتم، لكن الفارق يدور حول: من الذي سوف يحدّد هذه القيم؟ فالغربي -ومن على شاكلته- يصطدم معي فعلاً في نموذجي حين أقول: إنني اعتمد على الوحي في معرفتي. يقول: لا مانع أن تؤمن بالوحي؛ لأن نموذجي (أي الغربي) يقول: أنت حر في إيمانك، أما أن تجعل الوحي مصدرًا للمعرفة فلا.. فالوحي مصدر إيمان فقط.
ثم قضية الدين (أو الإيمان) والعلم: هم يفرقون بين المعرفة والإيمان، ويجعلونها ثنائية متقابلة، ويجعلون مسألة الإيمان خارج العلم، ويقصرون العلم على مفهوم الـ Science. والواقع أن العلم (الساينس) كلمة موضوعة بإزاء "العلم التجريبي الذي لا يثبت إلا بالمشاهدة"، وإذا جرى تعميم هذا المفهوم على كل ما هو "علم وعلمي"، فإن مسألة وجود الله تعالى تعد مسألة غير علمية؛ لأننا لم نشهد الله تعالى وقضية الألوهية لا تدخل المعمل.
أما عندنا فهذا غير مقبول؛ لأن "العلم" عندنا هو "الإدراك الجازم المطابق للواقع الناشئ عن دليل، سواء كان في المعمل أو في العقل أو بالعادة…الخ". و"العلم" عندنا غير المعرفة؛ لأن العلم لا يستدعي سبق الجهل على خلاف "المعرفة" التي تستدعي ذلك.
فالمشكلة في اللبس الكائن من عدم إمكان ترجمة كلمة "علم" العربية إلى كلمة غير "ساينس" تؤدي المعنى الواسع عندنا، وبالتالي نحتاج إلى ترجمتها شرحًا في جُمَل لا في كلمة واحدة. وبالمثل يقع اللبس من أن "ساينس" التي تعني "العلم الإمبريقي" تترجم عندنا "العلم"!!
ومشكلة الترجمة واختلاف أوعية اللغات المختلفة مشكلة كبيرة لابد من الانتباه لها، سواء في تناول التراث الإسلامي أو تناول العلوم الحديثة ذات الارتباط الوثيق بالآخر. فالمفاهيم الإسلامية لم تُترجم إلى اللغات الأخرى، ولم يُبذَل فيها ما بُذل مثلاً في إعداد الترمنولوجي الهندوكي الذي نقل إلى فهم الآخرين في قواميس كبيرة ؛ حيث إن دارس الفلسفة والأديان والمجتمعات في الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرهما يسهل عليه أن يفهم الترمنولوجي الهندوكي حتى بالحكاية الصوتية. وعندما جاء "رينيه جينو"* الفرنسي ليترجم عن الإسلام لم يجد ما يترجم به سوى الترمينولوجي الهندوكي. فكلمة "شيخ طريقة" مثلاً لم يجد لها مقابلاً فرنسياً فأخذ كلمة "جورو" الهندوكية. وعندما جئنا نحن لننقل عن الرجل لم نجد في القواميس الفرنسية هذه الكلمة "جورو".
هذا ما نحاول أن نقوم به نحن حاليًا إزاء نحو ثلاثمائة مصطلح دخلت الإنجليزية من قبيل Haj, Jihad, Umma, Ulama ... . والترجمات الصوتية عن العربية الموجودة حاليًا في الغرب لم تؤخذ لا من اللغة العربية ولا من الأصول أو العلوم الإسلامية، إنما من الحياة المشهودة في بلاد المسلمين ومن العقليات القائمة.. وهذا مكمن خطر يزيد من تعميق هوة سوء الفهم المتبادل. هم يرون مسلمين يتقاتلون فيترجمون ذلك تحت كلمة JIHAD وهو نوع من التحريف، فلا يكون في تعريف الـ JIHAD إلا نوع من الإرهاب والإفساد في الأرض وحب سفك الدماء. وقِس على ذلك تعبيرات "الإيمان" و"الدين" و"السياسة" و"النبي" و"الخلافة" و"الأمة" و"العلم".
والخلاصة أنه لا يوجد قاموس مفردات Vocabulary أو Glossary إسلامي.. هم صدّروا إلينا كلمات كثيرة سيما مع التقنيات المستوردة من قبيل الــ تي في، الكمبيوتر، البرلمان، التيك آواي.. نستعملها في العربية كما هي وبذات المعاني التي يقصدونها، فلماذا لا نقول عن العلم "ELM" إذا لم نجد في الإنجليزية ما يقابل ما عندنا..؟ المسلمون الأوائل صنعوا الجسر بينهم وبين الآخر على أساس مما عند المسلمين أنفسهم، فعرّبوا الآخرين، بينما نحن اليوم -وفي هذه اللحظة التاريخية- نصنع الجسر من عندهم، وندّعى أنه مزيج مما عندنا وعندهم. نحن نتوسل إلى لغاتهم كي تقبل كلماتنا ومفرداتنا لتوضع في أوعيتهم! هذه المشكلة الكبرى في عدم الفهم التام لهذه القضية. فالمطلوب الآن في ظل المغلوبية الحضارية، وتبعية حضارة المغلوب لحضارة الغالب، أن نـتعرف إلى الآخر الغالب وإلى لغته.
وبالنسبة للمصطلحات الملتبسة بين دارس العلوم الاجتماعية والإنسانية المعاصر وبين النصوص التراثية، فقد يرى البعض أن ثمة ضرورة لوجود وسيط يقف بين دارس العلوم الاجتماعية ودارس العلوم الشرعية لفض مضامين هذه المفاهيم. لكننا –في هذا السياق الذي نحن بصدده- نسعى لما هو أعمق وأبعد من ذلك, نريد أن يكون الدارس هو المنتِج نفسه للمعرفة وللعلم وللمفهوم, والقادر على نقله والتعامل به، وإن كان الأمر مشتملاً على الكثير من العقبات والصعوبات.
الهوامش:
----------------------------
* مفكر فرنسي أسلم، وسمى نفسه الشيخ عبد الواحد يحي، ولد 1886م وتوفي 1951، وأسلم على يديه أعداد كبيرة في الغرب.
المصدر : الطريق إلى فهم التراث ، لفضيلة مفتى الديار المصرية ، الدكتور على جمعة .