بتـــــاريخ : 10/23/2008 5:59:46 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1375 0


    التراث الإسلامى - مداخل منهجية ومحاولة تطبيقية

    الناقل : heba | العمر :42 | المصدر : www.dar-alifta.org.eg

    كلمات مفتاحية  :
    إسلام فكر اسلامى

    يعانى القارئ المعاصر من صعوبات فى التعامل مع التراث الإسلامى ، فهل يمكن تقديم مداخل منهجية تساعدنا على الاقتراب من التراث الإسلامى ، مع نماذج تطبيقية لها ليتضح الأمر ؟
    والجواب : 
        أن حُسن فهم التراث تمثل خطوة أساسية لقضية التعامل مع هذا التراث، بما في ذلك القبول لبعض مناحيه والرفض لبعض آخر. والحاصل أن أمامنا كُـــتبًا ونصوصًا تشتمل على نتاج فكري ضخم؛ ضخم في امتداداته الزمنية والمكانية، وفي العمق الفلسفي والمنهجي الذي قدمه، وفي المضمون الهائل (ملايين المسائل في العلم الواحد) الذي استوعبه، كل ذلك عُرف بالتراث الإسلامي. 
        والواقع أن مفهوم "التراث" يطلق على كل ما أنتُج قبل مائة عام من وقتنا هذا. ورغم ذلك، فإن آخر من كتب بالطريقة التراثية القديمة (التي نجدها في أمهات الكتب الفقهية) وشاعت مؤلفاته هو العلامة البيجوري في حواشيه وشروحه المتعددة على الكتب المختلفة. ولو نظرنا في الفترة التي سبقت مؤلفات البيجوري، لوجدنا أنفسنا أمام تراث كبير حجمه الزماني يغطي أكثر من عشرة قرون (منذ فترة تدوين العلوم أواخر القرن الأول الهجري، ويمتد حتى عهد غير بعيد)، ويتسع مداه المكاني بشكل كبير؛ حيث تتعدد منابعه من الأندلس إلى الهندوراسيا، ومن شمالي إفريقيا إلى جنوبيها. كما نجد هذا التراث متشعب الجوانب؛ حيث تطرقت مؤلفاته إلى حقول وفنون مختلفة وعلوم متعددة، بل إنه يتشعب في كل فن بمدارسه ومذاهبه المختلفة، متناولاً مختلف أنماط تفكير الناس؛ فهناك مساحة ضخمة من النتاج الفكري الذي أينعته قرائح المسلمين. ونحن هنا بصدد محاولةٍ لالتماس مفاتيح هذا النتاج، التي من خلالها يمكن قراءة وفهم النص التراثي.
        إن التأمل في مشكلة التعامل مع النص التراثي المكتوب يأخذ باطِّراد إلى نتيجة مفادها: أن القارئ المعاصر قد فَقَدَ التصور الكلي الذي كان شائعاً لدى مؤلفي كتب التراث عبر الزمان والمكان. وعلى ذلك، فمن الممكن أن نقول إن الفهم الواعي للتراث الذي يمكننا من الإكمال والاستنباط/ أو القبول والرفض/ أو التمييز والاختيار أمام هذا التراث؛ هذا الفهم يتطلب إدراك التصورات الكلية التي كانت قائمةً في أذهانهم، وحاكمةً عليها، حتى شاعت (هذه التصورات) وكأنها مسلمات. وبالتالي، فإن فقْد هذه التصورات أو عدم استيعاب المعاصرين واستحضارهم لها عند قراءة التراث، يجعل خيراً كثيراً يفوتنا، وفهمًا دقيقاً يعوّزنا.
        هناك أيضاً نقطة أخرى مرتبطة بهذه التصورات، ألا وهي قضية "النظريات الحاكمة" التي حكمتْ الذهنَ المسلم عند إنشاء تلك العلوم, أو التي تفاعل معها العقل التراثي عندما دوَّن هذه العلوم.  هذه النظريات الحاكمة عادةً لا نجدها مسطورة بشكل صريح في الكتب التي بين أيدينا، بل نجد عناصرها في الكتب موزعة بين عصورها، وموزعة أيضاً بين المذاهب والأشخاص و العلماء والفقهاء الذين قاموا بتأليف كل ذلك.
        وعلماء المسلمين المحدثون (منذ أكثر من خمسين سنة) يحاولون في بعض العلوم -وخاصةً منها العلوم الفقهية وبعض علوم العربية- أن يستنبطوا مثل هذه النظريات الكلية الحاكمة، وأن يعدّوا الرسائل العلمية فيها، سواء لدرجة الماجستير أو الدكتوراه، وقد قطع الكثيرون منهم في ذلك شوطاً كبيرًا. فلقد كتبوا في نظرية المِلْكية، ونظرية المال، ونظرية الحق، ونظرية العقد، ونظرية الضمان، وفي نظرية المسئولية، وهكذا.... كتبوا في هذا كثيراً، ولكن الأمر لم يسِر في كل العلوم مسيرته في الفقه. كما أنه أيضاً لم يسِر بصورة منتظمة، أو على درجة واحدة من الإتقان ومن العمق. فأصبح لدينا اليوم نظريات أمكن لها إدراك عمق التفكير التراثي، ونظريات أخرى ما زلنا في بدايتها. فنظرية العقد –مثلاً- في الفقه الإسلامي نضجت بما فيه الكفاية، وبما يمكِّن من أن نستعملها كمفتاح نستطيع من خلاله إدراك كثير من عناصر العقود في الفقه الإسلامي، بل وفي غيره من النظم القانونية.
        وبالإضافة إلى القصور المعاصر في الإلمام بقضيتي "التصورات الكلية" و"النظريات الكلية الحاكمة" - مما يجعل الإنسان غير قادر على الاتصال بالتراث بالشكل المرجو- تبرز قضيه "المصطلحات"؛ فلكل علم ومذهب مصطلحات دقيقة، إذا ما فَقَدَها القارئ المعاصر أو طالب العلم الباحث؛ فإنه لا يدرك الكثير مما بين يديه. ويقف هذا حجر عثرة أمام الفهم العميق والمتأني لتراثنا الإسلامي.
        والقضية الرابعة التي ينبغي على الباحث في التراث فهمها هي "قضية العلوم الخادمة". فكل علم من هذه العلوم كان يعتمد على "بُنية فكرية"، هي عبارة عما حصَّله العالِم من درْسٍ في مختلف العلوم. فالذي كَتَبَ في الفقه درسَ قبلُ في المنطق، ودرسَ في علم الكلام، وفَقهَ قبل ذلك فيما يُسمى بعلم الوضع، ودَرَسَ علوم العربية بالإضافة إلى الأصول. وهكذا نجد أن علوماً كثيرة كوَّنت لديه النسيج الفكري والبنية الذهنية؛ فراح -وهو يتكلم في الفقه- يتكلم بهذه الأداة التي تولدت لديه من تفاعل هذه الحقول المختلفة في ذهنه.
        ونحن -مثلاً اليوم- عندما نريد أن نعادل شهادات الكليات، فإنه لابد من معرفة كمِّ العلوم التي درسها الطالب، وعدد ساعات الدراسة، وكمِّ المعلومات التي تلقاها الطالب في هذه الساعات؛ حتى يمكن تحديد ما إذا كان مساوياً لما تلقاه الطالب الآخر في الجامعة التي يتقدم إليها. فكمُّ الساعات التي تلقاها الفقيه قديماً كانت تشتمل على علوم كثيرة، قد تغيب عن كثير من المطلعين.
        وهذا هو الذي أثر في إنشاء العبارة والصياغة وكتابة العلم بالأساليب التي نرى التراث عليها. فلما كتبَ الفقه رأيناه وكأنه مستبطنٌ للمنطق، مستبطنٌ لما عليه علماء الكلام من المفاهيم، مستبطنٌ لما عليه علماء الحكمة العالية، مستبطنٌ لما كان عليه كل علماء الأصول. وهكذا في كل فن وكل علم، عندما كان صاحبه يصوغه فإنه يفعل ذلك متأثراً بما تلقاه من درس في حياته العلمية. فكانت العلوم بعضها يخدم بعضًا، فتكوِّن نسيجاً واحدًا وبنية فكرية واحدة. هذا الأمر يجب أن يكون أساسًا ومنطلقًا لدى الباحث والقارئ في الأصول حتى يمكننا أن نُكمل المسيرة.
        هناك نقطة خامسة تتعلق بقراءتنا للتراث، ألا وهي الصياغة اللغوية والمنطقية، والتي تحتم علينا أن ندرك "فلسفة اللغة" وعلاقاتها بما في الأذهان وما في الأعيان. هذه الصياغات لابد علينا أن نتوقف عندها كثيراً ونعيها بطريقة أساسية؛ حتى تصبح مفتاحاً لنا لقراءة التراث كله بكافة تشعباته وكافة أنواعه.
        هذه هي الخمسة متطلبات لقراءة التراث، والتي سنفرد كل واحدة منها بموضوع يخصها بإذن الله تعالى. ونرجو الله عز وجل أن يعيننا على إلقاء بعض الضوء عليها وحواليها. ولست أدعي أن هذه المحاور هي فقط التي نحتاجها لفك شفرة التراث، ولكنها -على كل حال- هي أهم المحاور والمفاتيح الرئيسية لفهم التراث. كما تجدر الإشارة إلى أن الاتصال بالتراث يأتي على درجات ومستويات مختلفة، ونحن الآن بصدد التعامل مع المستوى الأول منه. ولكننا إن أردنا التقدم خطوة إلى الأمام، فعلينا أن نعالج هذه الموضوعات بمستوى آخر. والمستويات منها المبتدئ، ومنها المتوسط، ومنها ما هو منتهٍ بالإجمال، لكنها في الحقيقة كثيرة لا تنتهي، كأنها من الكم المتصل وليس بالكم المنفصل.

        على كل حال، فلقد وقع الاختيار على قطعة من مؤلَّف تراثي ألَّــفه صاحبه في القرن السابع الهجري، وهو الإمام النووي. والإمام النووي كان فقيهاً ومحدثاً ومفسِّراً وأصوليًا، وهو عمدة في المذهب الشافعي، وله كتاب صار هو الكتاب الأهم في فقه الشافعية من بعده، قام فيه بما رأى أنه واجب عليه في وقته، أو واجب الوقت، فلخَّص الفقه الشافعي، ولخّص مسيرة الفقه كلها في كتابه هذا المسمَّى بـ"منهاج الطالبين وعمدة المفتين"، وعادةً يُطلق عليه اختصاراً "المنهاج". وحتى ندرك شيئًا سريعاً من طبيعة هذا الكتاب، فعلينا أولاً أن نتعرض لمسيرة المذهب الشافعي من بدايته وحتى ظهور الإمام النووي.
        بدايةً، نعلم أن الإمام الشافعي -بعد رحلته إلى الحجاز وإلى اليمن وإلى العراق- استقر به المقام في مصر وبها مات، حيث يوجد ضريحه في الحيّ المشهور باسمه في القاهرة. ولما حلَّ الإمام الشافعي بمصر كان له تلامذة، منهم البويطي، ومنهم الربيع المرادي، ومنهم الربيع الجيزي، تلقوا عنه العلم وكتبوا ما أملاه. وبالتالي صارت كُتب الشافعي حُجة في مذهبه، وتلا هؤلاء علماء آخرون خدموا المذهب الشافعي، وخدموا هذه الكتب.وهذا من جملة مذاهب المجتهدين الموجودة التي وصلت إلى مائة مذهب، إلا أن أربعة منها هي التي نالت من الشهرة والخدمة ما لم تنله مذاهب أخرى، وهي مذاهب الحنفية والمالكية والشافعية ومذهب الحنابلة.
        ولما ألَّف الإمام الشافعي كتبه وشاعت في أوساط الناس قام أصحابه و تلاميذه بخدمة المذهب ونشرِه والتدليل عليه، لدرجة أن المزني جمع كل ما قاله الإمام الشافعي، ولخّصه في صورة مسائل متتالية، وسمي هذا الكتاب "مختصر المزني".
        ثم جاء الإمام البيهقي فجعل كل مسألة من تلك المسائل في كتاب "المزني" عنواناً كبيرًا لباب من أبواب كتاب كبير، وضعه وأسماه بـ"السنن الكبرى". يأتي فيه بالعنوان [المشتمل على الحكم] ثم يأتي بعده بالأحاديث التي تعد دليلاً عنده على هذا الحكم الذي ذهب إليه الإمام؛ حتى قيل إن الشافعي له المِنَّة على كل الشافعية [تابعي المذهب الشافعي] إلى يوم القيامة إلا البيهقي، فله مِنة على الشافعي؛ حيث أظهر أدلة الشافعي على مسائله في هذا السفر الأعظم المسمَّى بالسُّنن الكبرى.
        استمر هذا العطاء لعلماء الشافعية جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن، حتى وصلنا إلى القرن الخامس لنجد الإمام أبا المعالي الجويني الذي ألف كتاباً عظيماً في الفقه الشافعي سماه بـ"نهاية المطلب في معرفة المذهب"، ثم يأتي تلميذه الإمام أبو حامد الغزالي ليؤلف كتاباً هذَّب فيه كتاب أستاذه وسماه "البسيط"، واختُصر "البسيط" فى "الوسيط" ، واختصر "الوسيط" في "الوجيز" ، واختُصر الأخير في "الخلاصة". وأصبحت هذه الكتب للجويني وتلميذه هي الكتب التي اعتُمدت لنقل هذا المذهب جيلاً بعد جيل إلى أن أتى الإمام الرافعي والإمام النووي وهما من أهل القرن السابع الهجري. فألف الرافعي كتاباً رائعاً سماه "فتح العزيز في شرح كتاب الوجيز للغزالي"، وألف بعد ذلك كتابًا سماه "المحرّر".
        وجاء الإمام النووي إلى كتاب" المحرر" والذي يعد تلخيصاً للمذهب، ولخصه في الكتاب الذي بين أيدينا "المنهاج". ثم جاء الجلال المحلي (جلال الدين المحلي) وشرحَ المنهاج. هنا ظهر فارق كبير بين الكتاب الذي يدرّس وبين الكتاب الذي يعد من أمهات المذهب. فهناك كتب كثيرة جيدة وفيها من العلم ما الله به عليم، ولكنها رغم ذلك لا تصلح للدرس. فالدراسة تحتاج إلى أمر محدد يستطيع فيه الأستاذ أن يدير العملية التعليمية مع طلبته؛ كتابٍ واضح محدد له بداية وله نهاية، وله مصطلحه الخاص بغير تشعب، فالتشعب قد يجعل الطالب والأستاذ يقضيان الأزمان المديدة دون أن يصلا إلى شيء.
        فكان المنهاج كتابًا مدرسياً؛ لذا كثرت عليه الشروح حتى وصلت إلى أكثر من ستين شرحاً، كان أكثرها شيوعاً شرح الجلال المحلي. وكان كل أستاذ -يشرح الجلال المحلي- يضع مذكرة تعين الطالب على الفهم؛ لذا فالمنهاج نسميه "المتن"، وكتاب الجلال نسميه "الشرح"، أما المذكرات فنسميها "الحاشية". وعلى ذلك فلقد كثر شرحُ الشرح، فأصبحت لدينا حواشٍ عظيمة مثل: حاشية القليوبي، وحاشية الشيخ عميرة، وكانا من علماء الأزهر الشافعية الذين درّسوا هذا الكتاب.
        ولننطلق –في محاولتنا تبين الطريق إلى التراث- من عبارة ذكرها المتن نقرأها أولاً، ثم نرى مدى فهمنا المباشر لها، ثم حال هذا الفهم إذا ما نحن وعينا واستوعبنا التصورات الكلية, والنظريات الضابطة الحاكمة, والمصطلحات والتعريفات, وكذلك العلوم الخادمة، والصياغة اللغوية المنطقية؛ حيث إن إدراك هذه الخلفية يمكّننا من فهم شفرة هذا النص التراثي (وقس عليه سائر النصوص) بما يجعلنا نتعامل معه بصورة أجدى وأجود.
        وقبل عرض هذه العبارة يجدر بنا أن ننتبه إلى قضية القراءة؛ حيث يختلف الوضع عند قراءته قراءة صحيحة عن قراءته قراءة غير صحيحة.
    ولنرَ ما يقول
    (1):
        "كتاب البيع، أَخَّرَه عن العبادات؛ لأنها أفضل الأعمال؛ ولأن الاضطرار إليها أكثر؛ ولقلة أفراد فاعله. ولفظه في الأصل مصدر؛ ولذا أفرده، وإن كان تحته أنواع، ثم صار اسمًا لما فيه مقابلة على ما سيأتي. ثم إن أُريد به أحد شقي العقد الذي يُسمى من يأتي به بائعاً، فيعرف بأنه تمليك بعوض على وجه مخصوص، ويقابله الشراء الذي هو الشِّق الآخر الذي يسمى من يأتي به مشترياً، و يعرف بأنه تملك بعوض كذلك. ويجوز إطلاق اسم البائع على المشتري وعكسه اعتباراً، والتعبير بالتمليك والتملك بالنظر للمعنى الشرعي كما سيأتي.
        وإن أريد به المركَّب من الشقين معًا؛ بمعنى العلقة الحاصلة من الشقين التي ترد عليها الإجازة والفسخ، فيقال له لغةً: مقابلة شيء بشيء على وجه المعاوضة، فيدخل فيه ما لا يصح تملكه كالاختصاص، وما لو لم تكن صيغة كالمعاطاة، وخرج بوجه المعاوضة نحو السلام. وشرعاً: عقد معاوضة مالية تفيد ملك عين أو منفعة على التأبيد لا على وجه القربى. وأركانه ثلاثة: عاقد، ومعقود عليه، وصيغة. وهي في الحقيقة ستة أركان كما سيأتي.
        والعقد -في التعريف- جنس وشأنه الإدخال. لكن إذا كان بينه وبين فصله عموم من وجه يخرج بكلٍ منهما ما دخل في عموم الآخر. ولذلك قالوا: خرج بالعقد المعاطاة، وبالمعاوضة نحو الهدية، وبالمالية نحو النكاح، وبإفادة ملك العين الإيجارة، وبغير وجه القربى القرض. والمراد بالمنفعة بيع نحو حق الممر. والتقييد بالتأبيد فيه لإخراج الإيجارة أيضاً. وإخراج الشيء الواحد بقيدين غير معيب.
        وهذا التعريف أولى من التعريف بأنه مقابلة مال بمال على وجهٍ مخصوص لما لا يخفى [ كأن الكل يدرك إدراكًا عميقاً بما لا يخفي على أحد من الناس].
        ثم البيع منحصر في خمسة أطراف: الأول في صحته وفساده. والثاني في جوازه ولزومه. والثالث في حُكمه قبل القبض وبعده. والرابع في الألفاظ المطلقة. والخامس في التحالف ومعاملة العبيد، وأفضل المكاسب الزراعة ثم الصناعة ثم التجارة على الراجح".
        هذا النص الذي أوردناه هو الذي سنحاول أن نفهمه. ولعل الانطباعات حوله قد اختلفت من قارئ لآخر، بل تفاوت إدراكه ووعي معانيه بين القارئين. هذا التفاوت يعود -في الأصل والأغلب- إلى تفاوت في تحصيل التصور الكلي، والعلوم الخادمة، والمصطلحات، والنظريات الحاكمة. ونقدم بيان طرف من ذلك، قبل أن نقف على الأمور الأربعة تفصيلاً.
        فالمؤلف التراثي يقول هنا: "كتاب البيع". والبيع يسمى في النحو مصدرًا؛ وذلك لأن النحويين تصوروا جذر الكلمة ومادتها ورأوا التشكيلات المختلفة لها، وسألوا أنفسهم: أين مصدر هذه التشكيلات: بيع، بع، يبيع، بائع، مبيع، مبيعات، بيوع، مبايعة، ابتياع... وهكذا؟ وجدوا أن كل هذه الكلمات ترجع إلى "ب اع" أو "ب ي ع": الباء والألف والعين، أو الباء والياء والعين. وهذا ما قد تعلمناه في المراحل الأولى عند الكشف عن الكلمة في القاموس أو المعجم؛ حيث نبحث عن الجذر أو الأصل. رأى البصريون (وهم يمثلون مدرسة في النحو)، أنه المصدر"بيع" هو الجذر أو هو مصدر الاشتقاق، ومنه تتولد أو تُشتق باقي الكلمات: باع، يبيع، بائع.. .
        فسموا هذا مصدرًا، والمصدر لدى النحاة يدل على حَدَثٍ، وليس دالاً على ذات. والحدث هو الفِعْل لغةً، مثل انتقال الشيء من هنا إلى هناك. هذا الحدث نسميه انتقالاً، وهو المصدر خاليًا من الزمن. أما إذا ارتبط الحدث بزمنٍ فقد استحال الأمر فعلاً؛ مثل: "باع"؛ أي أحدث البيع في الزمن الماضي، و"يبيع" أي أحدثه البيع في الزمن الحاضر، وهكذا. فهناك مصدر وهو دال على الحدث.
        ويثور تساؤل، إن كان الإنسان المحدِث أو الأشياء المحدَثة تتعدد، فهل هذا الحدث يمكن أن يتعدد؟ هنا، وجد النحويون أن الحدث لا يتعدد؛ لأن قضية الانتقال هي قضية واحدة، وقضية الضرب تعبر عن ضرب واحد، لا يتعدد كونه اصطدام جسم بجسم آخر. والاصطدام في عقل الإنسان واحد؛ أي كينونته في عقل الإنسان واحدة. وهنا أسسوا قاعدة في النحو تعبر عن هذه الحالة الذهنية، هي أن "المصادر لا تجمع". فالمصدر لا جمع له، هذا في الأصل.
        لكن النحويين أثاروا تساؤلاً آخر، مفاده: أليس للتعدد نفسه أنواع؟ فهل هناك نوع من أنواع التعدد التي يمكن أن ندركها في المصدر، كأن يكون هناك ضرب قوي وضرب ضعيف وضرب متوسط؟ فالاصطدام منه الضرب القوي، ومنه الضعيف؛ لذا رأوا إمكانية جمع المصدر من هذه الجهة، إذا ما تصورنا له أفراداً مختلفة. فالمصدر هو في ذاته، غيرُهُ هو في تصور أفرادٍ له. فالضرب -في ذاته- لا يتعدد، ولكن هو -من حيث كونه شديدًا- غيره من حيث كونه خفيفاً؛ لذا يجوز الجمع إذا ما نُظر من هذه الجهة.
        إن التأمل في هذه الميكانيزمات التي طرحها علماء النحو لفهم الكلمة تدلنا على أن عقليتهم هي من ذلك النوع الذي يمكن أن نطلق عليه "العقلية الفارقة"؛ حيث كانوا يفرِّقون ما بين الأشياء. هذا المنهج الذي يعبر عنه الإنجليز بـ approach. وهم -أي النحاة- يعبرون عنه بـ"الاعتبار". لو اعتبرنا الحدث في ذاته، فإنه لا يتعدد. أما لو اعتبرنا صفاته، فإنه يتعدد ويُجمع. و"الاعتبار" هو المدخل الذي يتناول منه المرء مسألته.
        ولما كان الأمر كذلك، فيجب علينا أن نعي كيف كان يفكر النحاة بصورة إجمالية، وكذلك كيف كان يفكر "المتكلمون" بصورة إجمالية،... وهكذا؛ وذلك حتى نفهم مثل هذه النصوص. هذه  الاعتبارات فهمها الشيخ القليوبي عن أساتذته، وتعامل بها مع النصوص، ولم يذكرها في حاشيته ولا يمكن أن يذكرها؛ لأن هذه الأمور متعددة المجالات: من منطق ونحو وعلم كلام. لذا علينا أن نحصِّل هذا القدر المفتاحي الذي نستطيع أن نفهم به أي نص بعد ذلك.
        ولنقرأ من "كتاب البيع" في "المنهاج": "آخِره عن العبادات". ماذا يعني "آخره عن العبادات"؟ هذا يعني أن البيع من العبادات، فهل هذا فهم صحيح؟ هذا خطأ! لماذا..؟ لأن المعنى الصحيح هو أن الإمام قد أخَّر كتاب البيع عن العبادات. فلقد بدأ بالعبادات: الصلاة، الصوم، الحج، وبعد أن فرغ من الحج تناول كتاب "البيوع". إذًا فـ"أخَّره عن العبادات"؛ أي تناولـه بعد أن فَرَغَ من مناقشة وتفصيل العبادات. فلو قُرئِتْ بالمعنى الخاطئ السابق بألف المد
    * -مثلما يحدث مع بعض من لا يُدركون اللغة- لاختلف المعنى عما أراده المؤلف التراثي.
        أما قوله "لأنها أفضل الأعمال" فيعني أن المؤلف بدأ بالأفضل وهي العبادات؛ لأن المرء دائمًا يحب أن يُصدِّر كلامه بأفضل الأشياء. "ولأن الاضطرار إليها أكثر"، وهذا أمر طبيعي، فجميع المسلمين محتم عليهم أداء العبادات والقيام بالشعائر من إقامة الصلاة وأداء الصوم وغيرهما إلا المعذورين، ولكن لا يُحتم عليهم البيع والشراء. فليس من الضروري أن يبيع الإنسان أو يشتري في حياته؛ لذا كانت بدايته في مؤلفه بما كان المسلمون أحوج إلى فهمه وإدراكه في حياتهم، وهو عبادتهم وطقوسهم اليومية.
        "ولقلة أفراد فاعله"؛ أي إن البيع والشراء مَن يقومون به أقل ممن يقوم بالعبادات. وهنا تتدخل الصياغات اللغوية بما يُحتِّم علينا التوقف عند هذه العبارة وتمحيصها. فيقول: "ولفظه في الأصل مصدر". اللفظ هنا يعود على "البيع"، وهو مصدرٌ مِن "بَاعَ" "يبيعُ"، مصدره بيْعٌ، ويكمل: "فلذا أفرده"؛ أي لأنه مصدر فقد أفرده، أي جعله مفردًا، فقال:[بيع] ولم يقل[بيوع]. وذلك لأن المصدر دالٌّ على الحدث، والحدث واحدٌ لا يتعدد في الأصل كما أشرنا؛ فلذا أفرده.
        وربما يدفع البعض أنه في بعض الكتب تُجمع المصادر، فيقال: باب أو كتاب "البيوع". وهنا يرد المؤلف التراثي: "وإن كان تحته أنواع"؛ أي إنه من الممكن أن نقول: "بيوعًا" لا باعتبار أنه حدثٌ، بل باعتبار أن تحته أنواعًا؛ أي أنواع البيع. أما تناوله هنا فتناولٌ للحدث مجرداً؛ لذا كان اقترابًا للقضية من مدخل أنها حَدَثٌ.
        ويكمل: "ثم صار اسمًا". وضمير الفعل "صار" عائد على "البيع". ويُكمل: "لما فيه مقابلة"؛ أي إن كلمة "بيع" أصبحت اسماً لكل حدثٍ فيه مقابلة، وكذلك كلمة شراء، فيقول:¯ سبحانه وتعالى )إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ(- الآية 111, سورة التوبة. وهكذا أي مقابلة سُميت بيعاً وشراءً.
        ويُكمل: "ثم إن أريد به أحد شقي العقد"، هنا لابد لنا من إدراك قضية "الاعتبار" أو قضية "المدخل"؛ حيث أتى المؤلف بثلاثة مداخل هاهنا: الأول- إذا دخلنا إلى البيع باعتباره صفةً من صفات البائع. الثاني- إذا دخلنا إلى البيع باعتباره صفة من صفات المشتري. الثالث- البيع كعلاقة بين البائع والمشتري. ثلاثة مداخل يمكن لنا أن نختار من أيّــها.
        فبدأ يقول: "ثم إن أريد به أحد شقي العقد الذي يسمى من يأتي به بائعًا، فيعرف بأنه تمليك بعوض على وجهٍ مخصوص". لاحظ الفارق بين "تمليك بعوض على وجهٍ مخصوص" التي في هذا المدخل الأول (من جهة البائع)، و بين"تملك بعوض كذلك" في المدخل الثاني (من جهة المشتري).
        "تمليك بعوض" هنا تمثل المقابَلة؛ أي إن هناك سلعة وفي مقابلها توجد نقود، والبيع تمليك السلعة في مقابل النقود، فيقول البائع: لقد قمت بتمليك سلعتي لهذا الإنسان وأخذت منه عوضًا. "على وجهٍ مخصوص"؛ أي بطريقة مخصوصة؛ أي طريقة تتعلق بكيفية إيقاع البيع؛ كأن يقول البائع للمشتري: قمت ببيع هذه السلعة لك بعشرة قروش، فيردّ المشتري: وأنا اشتريتها منك بعشرة قروش. هذا الذي يشير إلى التوافق الضروري لقيام علاقة البيع.
        ثم نجده يدخل إلى القضية من مدخل الشراء، فيقول: "ويقابله الشراء الذي هو الشق الآخر الذي يسمَّى من يأتي به مشترياً و يعرف بأنه تملّك". لاحظ كلمة "تملك" في الشراء، والفارق بينها وبين "تمليك" في البيع. "بعوض" كالمعنى السابق. وكلمة "كذلك" هنا تشير إلى العبارة السابقة: "على وجه المخصوص" في التعريف الأول.
        ويُكمل: "ويجوز إطلاق اسم البائع على المشتري وعكسه"؛ أي يجوز أن نسمى المشتري بائعًا وأن نسمي البائع مشتريًا. "اعتبارا"ً؛ أي إنني -من مدخل ثالث- سأطلق اسم "بائع" أو "مشترٍ" على أي من الطرفين من أي اعتبار أعتبره أنا. فإذا ما قلتُ إن صاحب العوض (أ) هو البائع باعتباره صاحب النقود، يكون الطرف الآخر صاحب العوض (ب) أي صاحب السلعة هو المشتري، فيكون صاحب المال هو الذي يقوم ببيع النقود مقابل المال باعتباره معاوضًا.
        بعض الفقهاء يرفضون هذا المدخل، ويرون أن صاحب النقود هو المشتري تحديدًا وأن صاحب السلعة هو البائع. ولكن ماذا إذا لم تكن هناك نقود وتمت مبادلة السلعة مقابل سلعة، ككتاب مقابل كتاب مثلاً؛ أي مقايضة. هذا بيع وشراء باتفاقٍ، فمن هو البائع ومن هو المشتري؟ هنا لا يمكن تحديد أطراف العلاقة إلا باعتبار. فكلمة "اعتباراً" تعني: من حيث أردت أن أدخل إلى المسألة وأعتبر.
        ويُكمل المؤلف "ويجوز إطلاق اسم البائع على المشتري وعكسه اعتباراً". والتعبير..": هنا استعمل كلمتين متشابهتين اعتبارًا؛ أي إن لكل منهما وجهَ معنًى. ويكمل: "والتعبير بالتمليك والتملك بالنظر إلى المعنى الشرعي". هنا اكتملت الجملة فظهر المراد منها، الأمر الذي يدلنا على ضرورة فهم النسبة التامة للجملة المفيدة في الصياغات اللغوية: أين تبدأ؟ وأين تنتهي؟ فقوله: "المعنى الشرعي" لتمييز المعنى المقصود عن غيره من المعاني العرفية أو اللغوية أو غيرها، ويقصد أن معاني التمليك والتملُّك ستكون في هذا السياق بالنظر إلى النظرية الشرعية، التي ستتضح عند تفصيل النظريات الحاكمة.
        ويُكمل: "وإن أريد به -أي بالبيع- المركَّب من الشقين معاً –أي البيع و الشراء- بمعنى العُلقة -أي الرابطة أو العلاقة- الحاصلة من الشقين التي ترد عليها الإجازة والفسخ". هذه العلاقة أو هذا الاتفاق الذي يقع بين طرفين، والذي يرد عليه إمكان أن: نجيزه ونُمضيه، أو أن نفسخه وننهيه، هذه الرابطة هي المحل الذي نريد أن نعرِّف البيع من خلاله. وهو بذلك "مقابلة شيء بشيء على وجه المعاوضة".
        لو سكت المؤلف التراثي لانطبق التعريف على كل مقابلة حتى الزواج مثلاً، ففيه مقابلة، ولكن ليس فيه معاوضة. فإذا كان الرجل يدفع مهراً، ولكن ليس في معاوضة لشيء آخر، ولكن يأتي من قبيل الود والهدية المفروضة.
        فيقول المؤلف: "فيدخل فيه.."، ثم في آخر السطر نفسه يقول: "وخرج بوجه المعاوضة"، مسألة ما "يدخل" في المفهوم وما "يخرج" من تعريفه، أمر لا يمكن أن نفهمه إلا إذا أدركنا التصور الكلي لقضايا التعريف في المنطق؛ حيث للمناطقة تصور كامل وقصة كبيرة في التعريف، لابد من فهمها حتى ندرك الكثير من النصوص التراثية.
        فيقولون -في تعريف الإنسان مثلاً-: إنه "حيوان ناطق". "حيوان": كائن متحرك بالإرادة ؛ أي إنه كائن إذا ما أراد أن يحصل على شيء، فإنه يسعى ويتحرك إليه.
        إذن فعندما قلنا: إن الإنسان "حيوان"، فلقد أخرجنا الإنسان من دائرة الجماد الذي لا يتحرك، ومن دائرة النبات الذي إن تحرك فهو يتحرك بمنطق الاستجابة لمحرِّك خارج عنه كالهواء وليس بالإرادة. ولكن الحيوان البهيم يدخل في نوع "الحيوان" ككائن متحرك بالإرادة؛ لذا عندما قلنا: "ناطق"، فنحن قد أخرجنا البهائم من الدائرة؛ وذلك لأنها ليست ناطقة، والنطق ينطوي على التفكير الذي يؤثر على اللسان فيجعله ينطق.
        فالكلام المرتب الذي ينطق به الإنسان هو آية من آيات الله عز وجل، خاصية من خصائصه التي خلقة الله عز وجل بها. ففي قوله سبحانه وتعالى : {فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} - الآية 23, سورة الذاريات, جعلها آية من آيات الله سبحانه وتعالى فى الإنسان، وهي آية معجزة فريدة، إذا ما تأملت كيف تخرج الحروف، وكيف تتركب في شكل جملة وعبارة، وتُنقل إلى الذهن، ويضع الإنسان ذلك بإزاء معان تخطر له. هذا أمر معقد كبير وعجيب يتم في سرعة ويسر. لذا كان مجال قَسَمٍ وإرشادٍ لنا على منةٍ من مننه عز وجل. إذًا، فلقد أدخل هذا التعريف أفراد الإنسان العقلاء في مفهوم "الإنسان"، وأخرج منه البهائم و الحيوانات. لذا فكلمة "يدخل" وكلمة "يخرج" من الكلمات المنطقية التي يُراد بها تصور معين سنراه عند حديثنا عن التصورات الكلية.
        و يكمل المؤلف "فيدخل فيه" -أي في التعريف- "ما لا يصلح تملُّكه كالاخـتصاص"، وهذا لا يمكن إدراك معناه إلا بعد مناقشة النظريات الحاكمة؛ فنظرية المال تقسِّم الأشياء إلى أعيان ومنافع، وتقسم الأعيان بدورها إلى ما يجوز أن يكون له قيمة أو "المقوَّم"، وما لا يجوز أن يكون له قيمة أو "غير المقوَّم". وقد يكون في الأخير ما له منفعة، فماذا نصنع إذا كان المِلك (أي المِلكية) لا يقوم إلا على المقوَّم؟ هنا رأى الفقهاء أنه لما كان الحال كذلك، فإن الأمر يتطلب أن يُطلق على "غير المقوَّم" الذي لا يقع عليه المِلك -أي لا يمكن أن يتملكه أحد- مفهومًا آخر يضم كافة أشكاله: ما به منفعة وما ليس به منفعة؛ وهذا الاسم هو الاختصاص.
        والاختصاص؛ يعني أن شيئًا ما يخص إنسانًا أو يخص شيئًا آخر؛ أي إن هذا الشيء خاص بي مثلاً. فالشافعية لديهم روث البهائم نجس، والنجس لا يُملك، إلا أن الفلاح في أرضه يحتاج إلى هذا الروث في مناحٍ شتى، فهل يجوز بيعه وتداوله في السوق التجارية بين الناس؟ هنا -وفق قاعدة "النجس لا يُملك"- لا يجوز، إلا أنه -وفق قاعدة الاختصاص- فإن الروث يخص أحد أفراد الناس؛ أي إنه مختص به؛ فإنه لشدة حاجة الناس لهذا التعامل؛ ولأنه أصبح ضرورة لتسهيل حياة الناس في مجتمعات معينة، فإنه يجوز أن أنقله من بيتي إلى بيت جاري وأرفع يدي عن اختصاصي به.
        "رفع اليد عن الاختصاص" -وفق عبارتهم- تعني التنازل عن خصوصية هذا الشيء وتركه لآخر، وذلك في مقابل مال أو نقود. أمر قريب الشّبه بالبيع، ولكن فقهاء الشافعية يرفضون أن يُطلق عليه مفهوم "البيع"، وإن كانوا يُطلقون عليه "تبادلاً" عن طريق رفع اليد عن الاختصاص. وبالتالي فهم هنا يشيرون إلى أنه إذا كان معنى "البيع" في اللغة يتضمن هذه الحالة، إلا أن معناه في الشرع لا يشمل هذه الحالة. يفعلون هذا حتى يحافظوا على ما أقروه من أحكام لقضية البيع والشراء، ويجيزون هذا التعامل وفق مفهومهم حتى لا يضعوا الناس في الحرج.
        ونعود إلى المؤلف: "فيدخل فيه –أي تعريف البيع لغةً، وليس شرعاً- ما لا يصح تملكه كالاختصاص"؛ أي مثل الاختصاص؛ أي يدخل في البيع رفع اليد عن الاختصاص. "وما لو لم تكن صيغة كالمعاطاة".
        هنا لكي نفهم هذه الفقرة من النص لابد من معرفة معنى المعاطاة. فـ"المعاطاة" مصطلح لدى الفقهاء يُطلق على بعض عقود البيع والشراء التي تقوم بين الناس دون صيغة معينة. فمثلاً حين تعطي البائع مقدارًا معينًا من المال، ليعطيك قدرًا معينًا من السلعة دون أي صيغة تحدد مقدار المال أو تحدد مقدار السلعة المقابل، هنا تقع المعاطاة. ويأتي في نفس المسار الآلة الحديثة التي نضع فيها النقود ونأخذ منها السلعة.
        إن "الصيغة" تعد ركنًا في البيع؛ لذا فإن هذا التبادل الذي قام بين الناس سواء في مسألة الاختصاص أو التعاملات التي تشبه المعاطاة، هذا التبادل يسمى بيعاً لغةً، ولكنه لا يسمى ببيع شرعاً.
        لذا نجده يُكمل: "وخرج بوجه المعاوضة". هنا عبارة "وجه المعاوضة" أخرَجت من تعريف البيع عدةَ صور من التبادلات والمقابلات، حتى أخرجت منه إلقاء السلام والرد عليه. وبالتالي، فإن عبارة "بوجه المعاوضة"، قيدت دائرة التعريف.
        ويُكمل: "وشرعاً- عقد معاوضة مالية تفيد ملك عين أو منفعة على التأبيد لا على وجه القربى".  وهكذا نجد التعريف يشتمل على عدة أجزاء؛ فهو يتركب من "عقد" أولاً، ومعاوضة ثانيًا، ومالية ثالثًا، ورابعًا- تفيد ملك عين أو منفعة، وخامسًا- على التأبيد، وسادساً- لا على وجه القربى. كل من هذه الأجزاء تشير إلى مضامين ومعانٍ تحدد تماماً المفهوم الشرعي للبيع.
        ويُكمل: "وأركانه ثلاثة عاقد ومعقود عليه وصيغة..." وهكذا.

    خلاصة الأمر:
        إن ما سبق ذكره يشير إلى أهميه ما نسعى إليه من تحليل للنصوص التراثية والقواعد والمتطلبات اللازم إدراكها والوعي بها؛ حتى يمكن استيعاب ما أراد مؤلفو هذه النصوص نقله للقارئ وقتئذٍ، وبما في ذلك فهم التصورات الكلية أو بعضها الذي يفيد في فهم شفرة التراث، وكذلك فهم بعض النظريات الحاكمة والمصطلحات والتعريفات والصياغات اللغوية والعلوم الخادمة في هذه الأمور ، ثم نعود إلى النص كرة أخرى، فننظر: هل اختلف فهم هذا النص الذي بين أيدينا بعد تناول هذه المتطلبات عما كان عليه فهمنا قبل تناولها؟!

     

    الهوامش:
    --------------------------
    (1)
    لم نرغب في ضبط وتشكيل النص -على نحو ما أراد الشيخ- ليوضح أخطاء القراءة ممكنة الوقوع؛ ولأن النصوص التراثية في كتبها الأصلية لا ترد مضبوطة التشكيل (التحرير).
    (*)
    آثر الشيخ –أثناء المحاضرة- قراءة كلمة "أخَّرَه" وهي (فعل) على ظاهرها المتبادر إلى الذهن كـ(اسم)، فقرأها "آخِرُه"حتى يعطي مثالاً عمليًا على الخطأ الذي يمكن أن يقع في مثله القارئ المعاصر للتراث إذا لم يعتبر للعناصر المفتاحية التي أشار إليها الشيخ حفظه الله .

     

    المصدر : الطريق إلى فهم التراث ، لفضيلة مفتى الديار المصرية ، الدكتور على جمعة .

    كلمات مفتاحية  :
    إسلام فكر اسلامى

    تعليقات الزوار ()