برزت خلال العقد الحالي من القرن الحادي والعشرين أهمية اقتصاد المعرفة كواحد من أهم محركات التقدم والتطور في المجتمعات الإنسانية حاليا، بحيث أصبحت المعرفة ركيزة أساسية لأي مجتمع يسعى إلى التقدم وتبوء مكانة لائقة بين المجتمعات الحديثة.
المقال التالي للكاتب عبد الرحمن الحاج يسلط الضوء على اقتصاد المعرفة وأهيمته ومدى قدرته على إحداث تغيرات جوهرية في حياة الإنسان حاليا.
يعرف عبد الرحمن الحاج اقتصاد المعرفة بأنه الاقتصاد الذي تحقق فيه المعرفة الجزء الأعظم من القيمة المضافة، وهذا يعني أن المعرفة في هذا الاقتصاد، تشكل مكوناً أساسياً في العملية الإنتاجية كما في التسويق, وأن النمو يزداد بزيادة هذا المكون القائم على تكنولوجيا المعلومات والاتصال, باعتبارها المنصة الأساسية التي منها يطلق.
الاقتصاد المبني على المعرفة ليس اقتصاداً جديداً بالكامل، فقد كان للمعرفة دور قديم ومهم في الاقتصاد, لكن الجديد هو أن حجم المساحة التي تحتلها المعرفة في هذا الاقتصاد أصبح أكبر مما سبق وأكثر عمقاً مما كان معروفاً، بل أصبح هذا الاقتصاد في قطاع منه، يقوم على المعلومات من الألف إلى الياء, أي أن المعلومات هي العنصر الوحيد في العملية الإنتاجية, والمعلومات هي المنتج الوحيد في هذا الاقتصاد, والمعلومات وتكنولوجياتها هي التي تشكل أو تحدد أساليب الإنتاج وفرص التسويق ومجالاته، سواء أكانت المعلومات مجرد بيانات، أم بحوثاً علمية وخبرات ومهارات, وكلاهما صحيح، وهذا ما اصطلح على تسميته بالاقتصاد بعد الصناعي.
يعتبر اقتصاد المعرفة فرعاً جديداً من فروع العلوم الاقتصادية، ظهر في الآونة الأخيرة، يقوم أساساً على الثورة الاتصالية غير المسبوقة، والتي تتجاوز في حجمها ونوعيتها وآثارها ما سبق أن أنجزته البشرية من اختراعات وإبداعات وابتكارات طوال تاريخها. فالتوظيف المتزايد لتقنيات الإعلام والاتصال والمعلومات في مجمل الأنشطة أصبح سمة تميّز عالمنا اليوم. كما يقوم على فهم جديد أكثر عمقاً لدور المعرفة، ورأس المال البشري في تطور الاقتصاد وتقدم المجتمع، فضلاً عن كونه مولداً فعلياً للثروة، فقد باتت المعلومات مورداً أساسياً من الموارد الاقتصادية له خصوصيته, بل إنها المورد الاستراتيجي الجديد في الحياة الاقتصادية, المكمل للموارد الطبيعية. كما تشكل تكنولوجيا المعلومات في عصرنا الراهن العنصر الأساس في النمو الاقتصادي، فالتقدم الحاصل في التكنولوجيا، والتغير السريع الذي تحدثه في الاقتصاد، يؤثران ليس في درجة النمو وسرعته فحسب, وإنما أيضاً في نوعية حياة الإنسان، ومع التطور الهائل لأنظمة المعلوماتية, تحولت تكنولوجيا المعلومات إلى أحد أهم جوانب تطور الاقتصاد العالمي, حيث بلغ حجم السوق العالمية للخدمات المعلوماتية عام 2000 حوالي تريليون دولار، لقد أدخلت ثورة المعلومات المجتمعات العصرية المتقدمة في الحقبة ما بعد الصناعية. إن مفهوم “المعرفة” ليس بالأمر الجديد بالطبع، فالمعرفة رافقت الإنسان منذ أن تفتح وعيه، وارتقت معه من مستوياتها البدائية مرافقة لاتساع مداركه وتعمقها حتى وصلت إلى ذراها الحالية، إلا أن الجديد اليوم هو حجم تأثيرها على الحياة الاقتصادية والاجتماعية وعلى نمو حياة الإنسان.
عموماً، كان لثورة المعلومات والاتصالات دور الريادة في هذا التحول، بل باتت المعلومات مورداً أساسياً من الموارد الاقتصادية، وقد بلغ حجم صناعة المعلومات في العالم الآن أكثر من ثلاثة تريليونات دولار، تمثل نصف الناتج القومي للدول الصناعية.
يركز الاقتصاديون، على تقديم ثورة تكنولوجيا المعلومات كفرصة للتطور الاقتصادي والمعرفي الذي يتيح تشكيل قاعدة راسخة للازدهار الاقتصادي، ويرى كثيرون أن العالم صار يتعامل فعلاً مع صناعات معرفية تكون الأفكار منتجاتها والبينات موادها الأولية والعقل البشري أداتها، إلى حد باتت المعرفة المكون الرئيسي للنظام الاقتصادي والاجتماعي المعاصر، من هذا المنطلق أصبحت البشرية على عتبة عصر جديد تلعب فيه إجراءات حقن الاختراعات في الاقتصاد، والإبداع في المجالات التكنولوجية، دوراً مفتاحياً في تسريع حركة المعرفة وضخها من أقنية العولمة الجارية حالياً، وفي هذا السياق بزغت مفاهيم الاقتصاد الرقمي والتجارة الإلكترونية التي تشكل المعرفة جوهرها والقوة المحركة الرئيسية فيها.
إن استمرار المعلومات والمعرفة بالانتشار في جل الأنشطة الرقمية التي تسود معظم قطاعات الأنشطة الاقتصادية بات يحتم ضرورة معاودة التفكير بهذا المورد الجديد الذي بدأ يحمل تأثيرات ملموسة على الآلة الاقتصادية العالمية، والذي يميزه كون كثير من المجالات الاستثمارية, الصناعية والخدماتية, التي خلقها هي ببساطة بدائل للنشاطات القائمة, كما أن الصناعات الجديدة, رغم أنها تتطلب استثمارات كبيرة في مراحلها الأولى, المرتبطة خصوصاً بميدان الأبحاث والتطوير العلمي, فإنها لا تتطلب في مراحلها اللاحقة إنفاقاً استثمارياً كبيراً، أو درجة عالية من تشغيل اليد العاملة, مقارنة بصناعات تقليدية, كصناعة السيارات مثلاً، مما يجعل هذا النشاط من أنسب الأنشطة لدول الخليج العربي.
ويرى الباحثون أن من مستلزمات الانطلاق في الاقتصاد الجديد إعادة هيكلة الإنفاق العام وترشيده، وإجراء زيادة حاسمة في الإنفاق المخصص لتعزيز المعرفة، ابتداء من المدرسة الابتدائية وصولاً إلى التعليم الجامعي، مع توجيه الاهتمام لمراكز البحث العلمي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن إنفاق الولايات المتحدة في ميدان البحث العلمي والابتكارات يزيد على إنفاق الدول المتقدمة الأخرى مجتمعة، مما يساهم في جعل الاقتصاد الأمريكي الأكثر تطوراً ودينامية في العالم، فقد بلغ إنفاق الدول الغربية في هذا المجال 360 مليار دولار في العام 2000م، وكانت حصة الولايات المتحدة منها 180 ملياراً، وثاني هذه المستلزمات العمل على خلق وتطوير رأس المال البشري بنوعية عالية، وعلى الدول خلق المناخ المناسب للمعرفة، فالمعرفة اليوم ليست “ترفاً فكرياً” بل أصبحت أهم عنصر من عناصر الإنتاج، أما آخر ولربما أهم هذه المستلزمات من الناحية الأهلية، فهي إدراك المستثمرين والشركات لأهمية اقتصاد المعرفة، والملاحظ أن الشركات العالمية الكبرى العابرة للقوميات، تساهم في تمويل جزء من تعليم العاملين لديها، ورفع مستوى تدريبهم وكفاءتهم، وتخصص جزءاً مهماً من استثماراتها للبحث العلمي والابتكار.
ومن الواضح أنه سيكون للثورة التكنولوجية الجديدة أثر كبير في توزيع الدخل, سواء في داخل البلدان أو في ما بينها، بحيث تجري هذه العملية لمصلحة الفئات الأكثر احتكاكاً بالتكنولوجيا الجديدة, ولمصلحة الاختصاصات العصرية والأكثر حداثة، التي يغلب فيها عنصر الشباب, وذلك على حساب المجالات والاختصاصات التقليدية، كما أنها ستكون لمصلحة كبار المنتجين والشركات الكبرى العابرة للقوميات والمؤسسات ذات الإنتاج الموجه للتصدير، وبديهي أنها ستكون أيضاً في مصلحة الدول الأكثر تطوراً، القادرة على الاستفادة من الميزات المطلقة والنسبية التي يوفرها لها امتلاك التكنولوجيا.
قفزت دول الخليج قفزات كبيرة في هذا الاتجاه، وعلى سبيل المثال فإنه من المتوقع أن تنمو سوق إدارة الوثائق والمحتوى في دول مجلس التعاون الخليجي بمعدل 32 في المئة خلال العام الجاري، وتأتي هذه التوقعات في ضوء معدلات الطلب المتزايدة لتبني حلول إدارة المحتوى من قبل الهيئات الحكومية وشبه الحكومية والشركات العاملة في قطاع النفط والغاز والمؤسسات المصرفية، وتتوقع الدراسات أن يصل حجم الإنفاق على برامج وخدمات إدارة المحتوى والمستندات في دول مجلس التعاون الخليجي هذا العام إلى 94 مليون دولار أمريكي مقارنة مع 72 مليون دولار خلال العام الماضي، كما أن حجم الإنفاق على حلول إدارة المحتوى خلال العام 2004 قد بلغ 23 مليون دولار أمريكي في دولة الإمارات العربية المتحدة و16 مليون دولار في المملكة العربية السعودية.
غير أنه ورغم النشاط الملحوظ في دول الخليج وخاصة في الإمارات، إلا أن الدول العربية في مجملها مازالت في موقع المتلقي السلبي, لا المنتج, لثمار وإنجازات الثورة العلمية التكنولوجية في كل مراحلها، فثورة التكنولوجيا, وبالأخص ثورة الاتصالات والإنترنت, تؤثر في تعليم الإنسان وتربيته وتدريبه, وتجعل عامل السرعة في التأقلم مع التغيير من أهم العوامل الاقتصادية الإنتاجية. فالمجتمع, وكذلك الإنسان, الذي لا يسعى إلى مواكبة التطور العلمي والتكنولوجي سرعان ما يجد نفسه عاجزاً عن ولوج الاقتصاد الجديد والمساهمة فيه. والدولة التي لا تدرك أن المعرفة هي اليوم العامل الأكثر أهمية للانتقال من التخلف إلى التطور ومن الفقر إلى الغنى ستجد نفسها حتماً على هامش مسيرة التقدم.