بيروت: شكّل تدهور أسعار النفط منذ حزيران (يونيو) الماضي إحدى أبرز القضايا على الساحة الاقتصادية والسياسية العالمية. ويميل البعض إلى التفسيرات السهلة للتطورات الاقتصادية المعقدة والمتشابكة، وتعليقها على شماعة العوامل السياسية والمؤامرات، والحديث عن اتفاق سعودي - أميركي للضغط على روسيا وايران، علمًا أن تراجع الأسعار يؤدي إلى إضعاف موسكو وطهران فعلًا.
من جهة ثانية، هناك من يجمع على أن الأسباب الأساسية لهذا التراجع بحت اقتصادية، وأبرزها وفرة المعروض وتدهور الاقتصادات الأوروبية واتجاه بعضها نحو الانكماش، وتراجع النمو في الصين.
لكن السياسي يغلب الاقتصادي في آراء قراء "إيلاف"، الذين شاركوا في استفتائها حول أسباب تراجع أسعار النفط، اقتصادية أم سياسية. فقد بلغ عدد المشاركين 1999 قارئًا، رجح 299 منهم (أي 15 بالمئة) الأسباب الاقتصادية، بينما اعتبر 1700 قارئ (أي 85 بالمئة) أن الأسباب وراء تراجع أسعار النفط سياسية.
جملة عوامل
يُعزى تراجع أسعار النفط إلى جملة عوامل وأسباب اقتصادية، يمكن ايجازها بما اصطلح على تسميته بالدورات الاقتصادية للنظام الرأسمالي بين فترة وأخرى، والتي باتت حاليًا تتراوح ما بين 5 و12 سنة، حين ترتفع البطالة ويُسجّل انكماش اقتصادي يؤثر في أسعار المواد الأولية، ومنها النفط والغاز.
هذا ما أكده الخبير اﻻقتصادي في قطاع النفط والغاز رودي بارودي لـ"إيلاف"، إذ رأى أن تراجع أسعار النفط بهذه الطريقة بين فترة وأخرى أمر طبيعي، "ولا يمكن لأي اقتصاد الاستمرار في النمو من دون تسجيل أي تراجع، واعتدنا أن نرى هكذا انخفاضات بين فترة وأخرى لأسباب عديدة ومختلفة".
ومن هذه الأسباب العديدة والمختلفة، يورد بارودي تراجع النمو في الإقتصادات الأوروبية، إذ بلغ خلال الربع الثالث من العام الحالي في الإتحاد الأوروبي 0.3 بالمئة فقط، و0.22 بالمئة في منطقة اليورو، بينما سجلت ألمانيا، أقوى اقتصاد أوروبي، 0.1 بالمئة نموًا، وفرنسا 0.3 بالمئة، بينما سجلت ايطاليا انكماشًا.
ودفع ذلك برئيسة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد إلى التحذير من احتمال انزلاق منطقة اليورو إلى الركود في حال عدم تبني السياسات الاقتصادية السليمة. واعتبرت أن احتمال حدوث انكماش طويل الأمد في منطقة اليورو يراوح بين 35 و40 بالمئة، مشيرة إلى أن تعافي دول العالم من أزمة 2008 المالية مستمر، لكن بوتيرة ضعيفة.
النمو الصيني
والوضع ليس أفضل في الصين، أبرز مستوردي النفط، إذ نما الاقتصاد الصيني 7.3 بالمئة خلال الربع الثالث من السنة، وهو أقل معدل منذ الربع الأول في العام 2009، مقارنة بـ7.5 بالمئة خلال الربع الثاني.
والجدير ذكره هنا أن على الصين الحفاظ على نمو نسبته 7.2 بالمئة سنويًا كحد أدنى لتفادي ارتفاع معدلات البطالة. وبالرغم من هذا التراجع الضئيل والأقرب إلى الاستقرار في النمو، إلا أنه يحد من الطلب الصيني على النفط، ما يشكل بدوره سببًا إضافيًا لتراجع أسعار النفط.
ويضيف بارودي إلى هذه الأسباب تقصير النمو الاقتصادي في أميركا، الذي لا يزال أقل من التوقعات المتفائلة، "في حين أن إنتاج النفط والغاز في أميركا، خصوصًا من المصادر غير التقليدية، مثل النفط والغاز الصخري، بلغ معدلات قياسية عند 8 ملايين برميل يوميًا".
وفي مقابل ذلك، يشير بارودي إلى العامل الأساسي في تراجع الأسعار المتمثل في وفرة العرض في الأسواق النفطية، ويُقدر بنحو 94 مليون برميل يوميًا في العام 2014، بينما يقدر الاستهلاك بنحو 92 مليون برميل، ما شكل ضغطًا كبيرًا على الأسعار. ويشار هنا إلى أن التراجع البطيء والتدريجي للأسعار يعزوه بعض المراقبين إلى مبادرة الدول المستوردة إلى شراء كميات تفوق احتياجاتها لتعزيز مخزونها الاستراتيجي مستفيدة من الأسعار المتدنية.
نتائج سياسية لا أسباب
يضيف المحلل السياسي سامي نادر سببًا آخر لتدهور أسعار النفط، "هو احتدام المنافسة بين الدول المنتجة للنفط الصخري والأخرى المنتجة للنفط التقليدي، ورفض منظمة أوبك في اجتماعها الأخير خفض الإنتاج، بسبب تعثر تجارب سابقة بدءًا من سبعينات القرن الماضي بسبب عدم التزام الدول الأعضاء بحصص الإنتاج المقررة، ما اضطر السعودية في مرات عديدة إلى لعب دور المنتج المرن وتحملها أعباء خفض الإنتاج، وهو أمر مستبعد حاليًا".
ولم ينفِ بارودي ونادر أن تراجع أسعار النفط قد تكون له نتائج سياسية تتمثل في تشديد الضغوط على روسيا وايران، لكنهما استبعدا أي اتفاق ضمني بين أميركا وبعض الدول الخليجية على ذلك، علمًا أن هذه الدول ستتأثر سلبًا بانخفاض الأسعار. يذكر هنا أن روسيا تحتاج لتحقيق التوازن في موازنتها العامة إلى سعر لا يقل عن 100 دولار للبرميل، بينما تحتاج ايران إلى سعر لا يقل عن 120 دولارًا.
توقعات مستقبلية
وعن مستقبل أسعار النفط، أكد بارودي أنها ستعاود الارتفاع، مستبعدًا أي انخفاض اضافي. وقال: "ببساطة، الأسعار سترتفع لأن العالم يحتاج أكثر مما هو متاح من النفط، وقد يصل سعر البرميل إلى 100 أو 120 دولارًا مجددًا، لكن ذلك لن يحصل قبل سنة أو سنة ونصف على أقل تقدير". وتراجع الأسعار سيساهم في انتعاش النمو الاقتصادي العالمي، ما يؤدي تلقائيًا إلى ارتفاع الطلب على الطاقة.
يضاف إلى ذلك أن تراجع أسعار النفط سيؤدي إلى خروج بعض المنتجين من السوق، إذ أشار بارودي إلى أن "تراجع سعر برميل النفط إلى 60 دولارًا سيجعل انتاج النفط الصخري في أميركا غير مجدٍ اقتصاديًا".
وعندما يقترب سعر البرميل من 100 دولار، تتراجع أرباح شركات النفط الصخري، وعند 90 دولارًا قد تبدو بعض المشاريع أقل جاذبية، وإذا ما انخفضت إلى ما دون 80 دولارًا قد تتعثر بعض المشاريع.
ولم يستبعد نادر تراجع أسعار النفط إلى 45 دولارًا، واستقرارها عند 60 دولارًا لفترة غير قصيرة، مستبعدًا صعودها فوق 100 دولار قريبًا، لأن العام 2015 لن يشهد ارتفاعًا للطلب، ما سيؤدي إلى استمرار وفرة المعروض وتدني الطلب.