سيادة المستهلك المنقوصة
د. عبد الواحد خالد الحميد
يعتقد الاقتصاديون أن المستهلك هو "السيد" الذي يتحكم في السوق.. فهو يأمر – بقوة ماله – ويحدد ما يجب إنتاجه.. وما على السوق سوى الاستجابة لأنه إن لم يستجب لذوق المستهلك فسوف يهجره وسوف تبور السلع وتتكدس لدى الباعة ولن تجد من يشتريها! من هنا جاء مصطلح "سيادة المستهلك".. فلا أحد يتحكم به وهو السيد المطاع، وعندما حاولت الدول الاشتراكية (سابقاً) أن تفرض وصايتها على الاقتصاد وتسلب من المستهلك سيادته فشلت اقتصاداتها ثم انهارت مجتمعاتها بالكامل وتحولت إلى النقيض التام: إلى الرأسمالية الموغلة في وحشيتها حتى وجدنا أن المافيات صارت تسيطر على النظام البنكي في بعض الدول التي تحولت بشكل سريع وغير مدروس إلى النظام الرأسمالي.
ومع تطور فن "الإعلان" بدأ المعلنون يسحبون البساط من تحت أقدام المستهلك، وصار مصطلح "سيادة المستهلك" في بعض الأحيان أقرب إلى التصور النظري منه إلى الممارسة الفعلية لأن "ذوق المستهلك" صار يتشكل وفق الحملات الإعلانية التي يصوغها متخصصون بحيث "تقود" المستهلك إلى شراء سلع معينة ليس لأنها جديرة في حد ذاتها بالشراء وإنما لأن الذوق العام يتم تشكيله على النحو الذي تريده الشركات والمنشآت التجارية التي تدفع تكاليف الإعلان ثم تقوم بترحيلها إلى الفاتورة النهائية التي يدفعها المستهلك..
هذا الكلام لا يقلل أبداً من أهمية "المستهلك" في الاقتصاد، لكن "سيادته" لم تعد كما كانت سابقاً، وقد قرأت مؤخراً بعض الإحصائيات التي تدل على أن "سيادة" المستهلك السعودي والخليجي قد تم اختراقها تحت وطأة الإعلانات التي تركز على الأسواق السعودية والخليجية.. وتقول وكالة رويترز أن ما تم إنفاقه على الإعلانات في دول مجلس التعاون الخليجي في عام 2003م وصل إلى ما يقارب ثلاثة مليارات من الدولارات "2.8 مليار دولار) وقد جاءت المملكة على رأس قائمة الدول الخليجية حيث بلغ الإنفاق على الإعلانات مبلغ 499 مليون دولار!
ويبدو أن الإنفاق الإعلاني في حالة تزايد.. فقد زاد خلال عام 2003م عما كان عليه في عام 2002م بنسبة 16%على الرغم مما مرت به المنطقة من أزمات وحروب وقلاقل!
هذا يعني أن سيادة المستهلك التي يتغنى بها الاقتصاديون صارت سيادة منقوصة.. وقد كتب قبل سنوات الاقتصادي الشهير "جالبرث" عن سيادة المستهلك التي مزقتها الحملات الإعلانية.. فماذا ترى سيقول الرجل عنا لو رأى الحملات التي تتفنن في بثها الفضائيات العربية الموجهة إلى الأسواق السعودية والخليجية؟!
بالتأكيد سوف يترحم "جالبرث" على سيادة المستهلك.. لكننا، على أي حال، في زمن السيادات المنقوصة بعد أن صارت أمريكا هي سيدة العالم بلا منازع ليس في الاقتصاد فقط وإنما في كل شيء، وإذا كانت سيادة المستهلك الخليجي غدت منقوصة فإن سيادة المستهلك في دول الغرب ليست أحسن حالاً، ومن المدهش أ، "الذوق الاستهلاكي" يتوحد ويتجانس في جميع أنحاء العالم لأن الشركات العالمية اخترقت الحدود التي كانت تفصل الدول والمجتمعات ولهذا فإن الهامبورجر الأمريكي الذي يشتريه مزارعو أرياف تكساس وايداهو ونبراسكا في أمريكا وهو نفس الهامبورجر الذي يشتريه سكان لندن وبكين والقاهرة وطوكيو والرياض وموسكو وجميع مدن العالم.
|