قوله:
( الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن ) .
شرح:
هذا مبدأ الدخول في الصفات، بدأ في صفات الله - تعالى - بهذه الجملة: ( لا يخلو من علمه مكان ) معلوم لكل مؤمن أن ربنا - سبحانه وتعالى - مطلع علينا، وعالم بأحوالنا، ويعلم أسرارنا وعلانياتنا؛ فلأجل ذلك يذكر دائمًا هذا الأمر مثل قوله تعالى:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( ق:16 ) يعلم الله خطرات النفس ووساوس الصدر، وهواجس القلب، بل يعلم أخفى من ذلك.
فسر بعض العلماء قوله تعالى:
يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ( طه:7 ) أن السر: ما أضمره العبد في قلبه ولم يحرك به شفتيه، فضلا عن أن يتكلم به عند أحد، وأخفى من السر: هو ما سوف يخطر له فيما بعد، قبل أن يحدث به نفسه ، ولكن الله يعلم أنه سيفعله فيما يُستقبل أو سيخطر بباله .
إذا فالله - تعالى - لا يخلو من علمه مكان، أية مكان صغير أو كبير، يعلم ما يكون فيه، يعلم من يكون في هذا المكان، وعددهم، ونياتهم وأسرارهم، وعلانيتهم، ولا يشغله هذا عن المكان الثاني ولا عن البلاد الثانية، ولا عن أهل السماوات ولا عن أهل الأرض، فإنه كل يوم هو في شأن لا يشغله شأن عن شأن، يعلم كل مكان وما يحدث فيه.
قلت:إن هذا أول ما بدأ في الصفات حيث ذكر عِلم الله تعالى ، وأنه واسع ومحيط بالأشياء، وعليم بها، ويفسر ابن قدامة رحمه الله بهذه الكلمة (الآيات التي فيها المعية) يشير إلى أنها محمولة على العلم كقوله:
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ( الحديد:4 ) .
فإن ذلك معية العلم والاطلاع، والقرب والهيمنة، والقدرة والنظر والرؤية، وهو معكم أين ما كنتم يراقب ويطلع عليكم، ويعلم أسراركم، ويعلم أعمالكم، وكذلك قوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ ( المجادلة:7 ) يعلم ما يسرونه وما يتناجون به.
ولعل ابن قدامة رحمه الله يرد بهذه الجملة على المعتزلة والحلولية والفلاسفة والكثير من الصوفية والجهمية، فهؤلاء عقيدتهم - والعياذ بالله - إنكار صفة العلو، وادعاء أن الله بذاته في كل مكان؛ فلذلك قال: ( لا يخلو من علمه مكان ) ردًّا على من يقول: إنه بذاته في كل مكان ، وهذا قول الحلولية الذين يدعون أنه حال بذاته في المخلوقات كلها، وهذا عين الكفر وعين الجحود؛ فإن الرب - تعالى - بائن من خلقه مع كونه مستويًا على عرشه.