[ فصل: ومن أصول الفرقة الناجية: أن الدين والإيمان قول وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح. وأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية ] .
(الشرح) قوله: ( فصل: ومن أصول الفرقة الناجية: أن الدين والإيمان قول وعمل: ...): من أصول أهل السنة: القول في الإيمان ؛ لأن الإيمان والدين قول وعمل واعتقاد، وأنها كلها داخلة في الدين وفي الإيمان، فالإيمان: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان، وأن الأعمال من مسمى الإيمان ؛ الأعمال التي هي العبادات داخلة في الإيمان. فليس الإيمان هو العقيدة فقط، بل الإيمان أصله التصديق، ولكن تدخل الأعمال في مسمى الإيمان، فالصلاة من الإيمان قال تعالى:
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [ البقرة: 143] أي صلاتكم، والصدقة من الإيمان، وصلة الأقارب والأرحام من الإيمان، وكذلك الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، والنصيحة للمسلمين، وفعل الخير معهم، كل هذا من الإيمان. وكذلك الأذكار القولية، والكلمات الطيبة كلها من الإيمان: كلمة الشهادتين من الإيمان، والتسبيح والتكبير من الإيمان، وقراءة القرآن من الإيمان ؛ إذا كان بنية صادقة، وتعلم العلم وتعليمه من الإيمان؛ إذا كان لوجه الله، وهكذا سائر الأقوال المحمودة داخلة في اسم الإيمان. فالأعمال من الإيمان يقول الله تعالى:
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا [ السجدة: 15] فجعل الخرور من علامات الإيمان، وجعل التسبيح من الإيمان. وقال تعالى:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] فوجل القلب من الإيمان
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [ الأنفال: 2 ] فالتأثر بالآيات من الإيمان
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [ الأنفال: 2] والتوكل عمل قلبي وهو من الإيمان
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [ الأنفال: 3 ]. إقام الصلاة والنفقة في سبيل الله وفي وجوه الخير وعلى المستحقين، كل ذلك من الإيمان
أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [ الأنفال: 4] ويقول تعالى:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الحجرات: 15] فجعل الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله من الإيمان، فظهر بذلك أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان. وخالفت في ذلك طائفة المرجئة، حيث جعلوا الإيمان مجرد التصديق وقالوا: إن هذا أصله في اللغة. والجواب: صحيح أن أصل الإيمان في اللغة هو التصديق، ولكن الشرع استعمله استعمالا خاصا، فله مسمًى شرعي وله مسمًى لغوي، كما أن الكفر استعمله الشرع استعمالا خاصا. الكفر لغة: الستر والتغطية، ولكن استعمله الشرع في إنكار الدين ورد الشرع. النفاق في اللغة: معناه الاستخفاء، أما النفاق في الشرع فهو إظهار الإيمان وإبطان الكفر. فإذا هذه مسميات شرعية ؛ الكفر، والشرك، والنفاق، والإيمان، والإسلام ونحوها كلها مسميات نقلها الشارع من المسمى اللغوي إلى المسمى الشرعي، فأصبحت أعمالا من شعائر الدين، كما أن الشرع أيضا نقل العبادات من مسماها اللغوي إلى مسماها الشرعي. فالعرب ما كانوا يعرفون أن الصلاة هي مجموع هذه الأعمال، إنما الصلاة عندهم الدعاء. وما كانوا يعرفون الصيام بأنه هذا الإمساك في رمضان ونحوه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وإنما الصيام عندهم مجرد الإمساك عن الحركة ونحوها. ونقل الشارع اسم الزكاة من التطهير إلى هذا الجزء من المال الذي يخرج، ونقل الصلاة ونحوها من معناها اللغوي الذي تعرفه العرب إلى معنى آخر شرعي. فأصبح الإيمان شرعا هو: القول باللسان، كالنطق بالشهادتين والأذكار. والاعتقاد بالجنان: كاعتقاد وحدانية الله والتصديق بأسمائه وصفاته واعتقاد الجزاء على الأعمال، واعتقاد البعث والنشور وما أشبهه. والعمل بالأركان: كالركوع، والسجود، والطواف بالبيت، والصلاة، والجهاد. الكل داخل في اسم الإيمان. ويتفاوت أهل الإيمان في الإيمان: فبعضهم إيمانه أكبر من الجبال، وبعضهم إيمانه أقل من الذرة أو مثل الذرة، كما في قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة:
. فيدل على أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالعصيان ؛ إذا ذكرنا الله وصلينا وصمنا وتصدقنا وعملنا أعمالا خيرية، كثر إيماننا وقوي. وإذا غفلنا ولهونا وعصينا، نقص إيماننا وضعف. والله تعالى قد ذكر أن الإيمان يزيد، وكل شيء يقبل الزيادة فهو قابل للنقصان، قال الله تعالى:
لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [ الفتح: 4 ] وقال:
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [ الأنفال: 2] قال تعالى:
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [ التوبة: 124، 125 ] فإذا كان الإيمان يقبل الزيادة، فانه يقبل النقصان. ولقد كان السلف يعترفون بذلك فيقول أحدهم: اجلس بنا نؤمن ساعة ؛ أي نذكر الله تعالى أو نعمل بعض الأعمال الصالحة التي تكون في كفة الأعمال الصالحة، فيثقل بها ميزان حسناتنا يوم القيامة، ويقوى بها إيماننا ويزيد في الدنيا. فالعبد في أحواله كلها إما في زيادة إيمان، وإما في نقصان إيمان، فإذا تكلم بكلمة خير زاد إيمانه، وإذا تكلم بكلمة شر نقص إيمانه، فإذا ذكر الله وسبَّحه كان هذا خيرا، وإذا سب الله وسب دينه وشتم المسلمين ونحو ذلك نقص إيمانه بحسب ما فعل، وقد يذهب إيمانه بالكلية. وإذا أخرج درهما وتصدق به لوجه الله زاد إيمانه، وإذا أخرج مالا كثيرا أو قليلا في سبيل الشيطان، اشترى به لهوا أو لعبا، أو عمل به عمل سوء، نقص بذلك إيمانه. إذا خطا خطوات إلى المساجد ليؤدي العبادات ونحوها زاد إيمانه، وإذا خطا خطوات إلى آلات الملاهي وأماكن الغناء والرقص ونحوها نقص بذلك إيمانه. فهو بين هاتين الحالتين، ولأيهما يكون أغلب، فمن يكون إلى الخير دائما يزيد إيمانه ويقوى، فإن قوته هذه تكون مسيطرة على الضعف، فإذا أراد الجانب الثاني أن يزاحم هذا الإيمان القوي لم يجد منفذا، بل يجد قلبا ممتلئًا بالإيمان، فإرادة الشر لا تجد لها محلا، فلا يكون للشر سبيل إلى قلب هذا المؤمن، الذي قوي إيمانه، وتضاعفت وكثرت أعماله الصالحة. فعلى كل حال، الإيمان: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان، وهو قول أهل السنة، وخالفت في ذلك المرجئة الذين جعلوا الإيمان مجرد التصديق، وخالفت في ذلك أيضا طوائف من فقهاء الحنفية وجعلوه عمل القلب، وقالت أيضا طائفة: إن الإيمان مجرد المعرفة، ولهم أقوال في ذلك كلها منتقدة.