[والصراط منصوب على متن جهنم، وهو الجسر الذي بين الجنة والنار، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدوا، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يزحف زحفا، ومنهم من يخطف خطفا ويلقى في جهنم ؛ فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم] .
(الشرح) * قوله: (والصراط منصوب على متن جهنم، وهو الجسر الذي بين الجنة والنار، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم...): من الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بما بعد البعث، ومن جملة ما بعد البعث: الصراط، وقد ورد ذكره في السنة وإن لم يصرح به في القرآن، قال بعضهم: إنه مذكور في القرآن بلفظ غير صريح وهو الورود المذكور في قوله تعالى:
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم: 71] قيل: إن ورود الناس كلهم يتمثل في مرورهم على هذا الصراط. ولكنه ورد صراحة في السنة في أحاديث متفق عليها أو محققة الصحة، وإن لم تكن متفقا عليها، فلما كان كذلك صدقها أهل السنة، واعتقدوا ثبوت ما جاء فيها، وأدخلوها في جملة عقائدهم. وذلك لأن الأحاديث الصحيحة الثابتة تفيد اليقين، فتدخل في جملة الاعتقاد، وإن خالف في ذلك من خالف من طائفة أهل الكلام الذين قالوا: إن الأحاديث الآحادية لا تفيد اليقين، عللوا هذا بقولهم: إن أحاديث الصراط لم تبلغ حد التواتر فلا يُعتقد مدلولها؛ وذلك لأنهم ردوا أحاديث أصح منها وأكثر، مثل أحاديث نزول الرب كما يشاء في كل ليلة كما ورد في الأحاديث الصحيحة الثابتة، ومع ذلك ردوها؛ لأنها أخبار آحادية ولأنها في العقيدة، والعقيدة لا بد فيها من اليقين والأخبار المتواترة ونحوها. فيقال لهم: كذلك أحاديث أحوال الآخرة، أنتم تعتقدونها وتصدقون بمدلولها، فتؤمنون مثلا وتصدقون بأحاديث تطاير الصحف والحوض، وبأحاديث الصراط وبأحاديث القنطرة وما أشبه ذلك، وإن لم يبلغ بعضها حد التواتر فتصدقون بذلك، فقد فرقتم بين متماثلين. والحاصل أن من جملة الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بالصراط والصراط كما ذكر منصوب على متن جهنم، وهو جسر بين الجنة والنار، أو أنه على متن النار يمر الناس عليه في طريقهم وعبورهم، فيمرون على النار. فالمؤمن قوي الإيمان لا يحس بحرارة النار، وكأنه ما مر عليها، حتى ورد في بعض الآثار أن النار تقول: جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي وذلك في أثناء هذا العبور، فيمر الناس على هذا الصراط على قدر أعمالهم في الدنيا، وعلى قدر تمسكهم بالصراط المستقيم في الدنيا، فإن هنا صراطا مستقيما في الدنيا وصراطا مستقيما في الآخرة، إلا أن صراط الدنيا معنوي، وصراط الآخرة حسي، فالذي يتمسك بالصراط المعنوي، يوفق للسير والسلوك على الصراط الحسي. والصراط المعنوي هو الذي نسأل الله في صلاتنا أن يهديناه نقول:
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله:
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153] تقدم في الآيات إرشادات وأوامر ذكر الله تعالى أن هذه الإرشادات من الصراط الذي أمر الله الناس بأن يسلكوه فقال:
وَأَنَّ هَذَا يعني هذه الإرشادات وهذه الأوامر التي أولها قول الله تعالى:
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [الأنعام: 151] إلخ الآيات. ذكر في هذه الآيات إرشادات: أولها: النهي عن الشرك. وثانيها: الأمر بالإحسان إلى الوالدين. وثالثها: النهي عن قتل الأولاد خشية الفقر. ورابعها: النهي عن قُرْبان الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وخامسها: النهي عن قتل النفس بغير حق. وسادسها: النهي عن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن. وسابعها: الأمر بإيفاء المكاييل والموازين بالقسط. وثامنها: الأمر بالعدل في الأقوال والأفعال ونحوها، إلى أن تمت هذه الإرشادات وأتمها الله تعالي بقوله:
وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا [الأنعام: 152] وهذا هو الأمر التاسع ثم الأمر العاشر قوله:
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153]. فهذه الأشياء هي الصراط المعنوي الذي في الدنيا، فالذي يكون عاملا بهذه الأوامر وتاركا لهذه المحرمات، هو الذي يكون مهتديا على الصراط المستقيم. وقد ذكر الله تعالى أنه صراط المُنْعَم عليهم. وفسر الذين أنعم الله عليهم بقوله تعالى:
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69]. هؤلاء هم أهل النعمة الذين نقول عنهم في صلاتنا:
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 17] فالذي يسلك طريق هؤلاء، ويعمل بأعمالهم، ويتبع إرشاداتهم، ويسير على نهجهم، ويقتفي سنة الأنبياء والخلفاء الراشدين والصحابة المهديين والشهداء الصالحين، وسلف الأمة وأئمتها المهديين، ويسلك طريقهم سواء في الأعمال أو في الاعتقادات، فهذا من الذين اهتدوا وساروا على هذا الصراط المعنوي، فإذا وفق العبد لهذا الصراط وتجنب طريق أهل الغضب وأهل الضلال؛ فإنه يسير في الآخرة على الصراط الحسي سيرا مستقيما، لكن على قدر تمسك الناس. وذلك أن تمسك الناس في هذه الدنيا بالصراط وسيرهم عليه مختلف، فمنهم من يكون سيره بطيئًا، بحيث إنهم في الدنيا يُخِلُّونَ بكثير من الواجبات، ويرتكبون كثيرا من المحرمات ويقصرون ويخالفون في شيء من الاعتقادات، فيكون سيرهم في الدنيا سيرا ضعيفا. ومنهم من يكون متوسطا فيكون محافظا على الواجبات، وتاركا للمحرمات، وإن لم يحافظ على السنن والمندوبات وإن لم يترك المكروهات والمباحات ونحوها، فهذا سيره على الصراط الأخروي أقوى من الأول. وهكذا، من كان أتم تمسكا بالصراط الدنيوي المعنوي بأن يكون مثلا محافظا على الواجبات، وآتيا للمستحبات، وتاركا لجميع المحرمات، وتاركا للمكروهات ولبعض المباحات، فهذا هو الذي يكون سيره سريعا غاية السرعة على ذلك الصراط المستقيم الذي يُنصب على متن جهنم. وقد ورد في أوصاف الصراط الأخروي أوصاف كثيرة، ولكن بعضها لم يثبت، وقد ورد في أحاديث صححها بعضهم ما يدل على دقته وحرارته؛ فورد أن الصراط الذي يسير الناس عليه: أحر من الجمر، وأنه أدق من الشعرة، وأحد من السيف لكن بعض ذلك لم يثبت، وغالبه يكون من القُصاص، لكن بعض الروايات التي ورد فيها أنه أدق من الشعرة وأحد من السيف صححها بعض العلماء، وكذلك وصفه بأنه أحر من الجمر قد رواه بعض العلماء. فعلى كل حال فإن هذا يدل على أن هذا الصراط في غاية من الدقة والحرارة، ولكن يُثبت الله عليه أهل الإيمان حيث ثبتوا على أعمالهم وعقائدهم في الدنيا، فثبتهم على هذا الصراط في الآخرة. وهكذا أيضا لما كانوا متمسكين بالأعمال الصالحة في الدنيا، كان تمسكهم سببا في سرعة قطعهم لهذا الصراط بسرعة. فقد روي في بعض الآثار في وصفه أن طوله مسيرة ألف عام صعودا واستواءه مسيرة ألف عام، وأن الهبوط منه أيضا مسيرة ألف عام. وإذا كان كذلك فمتى يقطعه الذي يسير سيرا معتادا؟ ولكن لما كان الذين رزقهم الله الأعمال الصالحة والاستعداد للقاء الله تعالى قد كملوا ما طلب منهم؛ رزقهم الله سرعة السير عليه، فلذلك ذكر في هذه الأحاديث أنهم يسيرون عليه سيرا سريعا، فمنهم من يمر كالبرق. قيل للنبي صلى الله عليه وسلم:
فلا تراه قد ظهر إلا ويختفي في لحظة وفي طرفة عين. ومنهم من يمر كالريح، والريح معلوم سرعة سيرها فإنها تقطع مسافات كبيرة في لحظات فإنها تأتي من الشمال مثلا ثم لا تلبث أن تمر على بلاد كثيرة في تلك الجهة، حيث إن الله تعالى يُسَيِّرها كيف يشاء. فمن الناس من يمر كهذه الريح في سرعتها وانطلاقها، ومنهم- كما في بعض الروايات- من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، والفرس أيضا سريع السير؛ لشدة جريه؛ يقطع المسافات الطويلة في زمن قصير. ومنهم من يمر كركاب الإبل، كالذين يركبون الدواب: على الإبل، ومنهم من يمشي مشيا على الأقدام، ومنهم من يزحف زحفا على يديه، أو على رجليه، أو على مقعدته. ويسير الناس أيضا على هذا الصراط على قدر أنوارهم، وقد ورد في بعض الآثار أنهم يُعْطَوْنَ أنوارا يسيرون بها. يقول الله تعالى:
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ [الحديد: 13] وذلك أنها تقسم عليه الأنوار، فإذا ساروا قليلا؛ انطفأت أنوار المنافقين وقالوا للمؤمنين: أعطونا قبسًا من نوركم، فإذا قالوا ذلك قالوا لهم: ارجعوا حيث قسمت الأنوار اطلبوا نورا لكم، فيسير المؤمنون على هذا الصراط على قدر أنوارهم التي أعطوها. يقول المؤمنون:
رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا [التحريم: 8] وذلك عندما يرون نور المنافقين قد انطفأ يدعون الله بقولهم:
رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا فمنهم من يكون نوره كالجبل يضيء له مد بصره بحيث لا يخفى عليه شيء مما أمامه، ومنهم من يكون دون ذلك، حتى ورد في بعض الأحاديث أن منهم من نوره على رأس إبهامه؛ ينطفئ ساعة ويتقد أخرى، فإذا اتقد قدم رجله، وإذا انطفأ وقف. فسرعة سيرهم وبطؤه وقوة أنوارهم وضعفها، يرجع إلى أعمالهم في الدنيا. ثم ذكر أيضا أن منهم المخطوف والمُلْقى في النار، حيث ورد في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم:
فلا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعواهم اللهم سلم سلم، ويقول:
. فمنهم من ينجو ويسلم بفضل الله تعالى عليه، ومنهم من يخدش بأن يناله ما يناله من تلك العقبات ومن تلك الضربات ونحوها. ومنهم من تخطفه تلك الكلاليب. والكلاليب هي حديد. معكوف رأسه محدد يجتذب به اللحم إذا ألقى في النار، فتلك الكلاليب كثيرة الرءوس ومثلها النبي صلى الله عليه وسلم بشوك السعدان لكثرة رءوسه المحددة إلا أنه قال: غير أنه لا يعلم قدرها إلا الله . فتخطف من أمرت بخطفه، فإذا اختطف الذي أمرت بخطفه فلا شك أنه يسقط، وليس تحته إلا النار والعياذ بالله، فالذي ينجو من هذا الصراط هو الذي ينجو من العذاب ولا يدخل النار أصلا، والذي يقع فيها هو الذي يقع في العذاب.