بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
المَنَارُ المُنِيفْ فِي اخْتِصَارِ أَثَرِ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ
للشيخ / محمد عوامة – حفظه الله- .
الحمدُ لله رب العالمين , والصلاة والسلام على سيِّد الخلق أشرف المرسلين , نبينا محمدٍ صلوات الله وسلامه عليه, وعلى آله وصحبهِ السائرين, ومن تبعهم بإحسان إلى يومِ الدين؛ وبعدُ:
فهذا اختصارٌ مهذَّبٌ لكتابِ الشيخِ المحقق (محمد عوامة) حفظه الله الموسوم بـ"أثر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة الفقهاء رضي الله عنهم" وقد أودعَ فيهِ نفائسَ ودرر, وتنبيهاتٍ وعبر, اشتملتْ على ذكرِ أسبابِ اختلاف الأئمة الفقهاء بالإجمالِ والتفصيل, واشتملَ كذلك الدفاعَ عن علمِ الحديثِ وبيانِ منزلتهِ ومنزلةِ أهله والتشنيع على من يقصِّر في حقهم, وأوردَ الشيخ في آخر مصنِّفه خلاصةً مهمةً لما اشتمل عليه الكتاب.
* وبعدُ: فهذا أوانُ الشروع فيما ارتأيناهُ, ونسأل الله تعالى المزيدَ من فضله والتوفيق والسداد.
بيانُ منزلة الحديث الشريف عن الأئمة:
• قال أبو حنيفة: لم تزل الناس في صلاحٍ ما دامَ فيهم من يطلب الحديث, فإذا طلبوا العلمَ بلا حديثٍ فسدوا.
• قال الشافعي: أي أرضٍ تقلني إذا رويت عن النبي حديثًا وقلتُ غيره؟
• قال مالك: السننُ: سفينة نوح, من ركبها نجا, ومن تخلَّف عنها غرق.
• قال أحمد: من ردَّ حديث رسول الله فهو على شفا هلكة.
فهذه كلماتٌ من أئمة أجلاَّء تدلُ على "لزوم الأخذ بالسنة النبوية, وأن من تعلم السنة وعمل بها: كان من الفائزين الناجين, ومن أعرض عنها كان ذلك علامةَ خذلانه وانحرافه" .
* وفيما يلي ذكرٌ لأسباب اختلاف الأئمة الفقهاء –رضي الله عنهم- .
السببُ الأول: متى يصلحُ الحديث الشريف للعمل به؟
& وتوضيح ذلك من خلالِ توضيحنا لأربعِ نقاطٍ؛ ثنتان عن "سنده" وثنتان عن "متنه":
فالنقطة الأولى: الاختلاف في بعض شروط صحةِ الحديث.
& اتفق الجمهور على أن شروط الحديث الصحيح خمسة: اتصال السند, وثبوت عدالة الراوي, وثبوت ضبطه, وسلامة السند من الشذوذ, وسلامتهما من العلة.
* فأما الاتصال, فاختلفوا في تحقق صورةٍ من صور الاتصال وهي "مسألة اللقاء" فالبخاري يشترط ثبوت اللقاء بينهما ولو مرة, ومسلم يدعي الإجماع على أنهم يشترطون إمكان اللقاء لا ثبوته.
واختلفوا كذلك في "الحديث المرسل" فجمهور المحدثين أنه "ضعيف" وجمهور الفقهاء أنه "مقبول" مع أن الأحاديث المرسلة ليست بالعدد اليسير, قال العلاء البخاري: وفيه –أي رد المرسل- تعطيل كثير من السنن, فإن المراسيل جمعت فبلغت قريبًا من خمسين جزءًا اهـ.
* وأمَّا عدالة الراوي فمهيعها واسعٌ جدًا, فاختلفوا في نوعية العدالة (هل يكتفى بإسلامهِ على عدالتهِ؟) أو (لا بدَّ من ثبوت عدالته الظاهرة أو الباطنة؟) (وهل يكتفى تعديلٌ إمام أو لا بدَّ من إمامين؟) وكذا إهدار أحاديث لأنهم (عراقيون) أو لأنهم (أهل الرأي)؟ فعلى ذلك تجدُ شيخًا يجرح راويًا –وآخر يوثقه- فيضعِّف جميع أحاديثهِ؟ أو تجده يوثق راويا –وآخر يضعفه- فيصحِّح جميع أحاديثه؟
* وأما بقية الشروط, فاختلفوا فيهنَّ؛ من ذلك اشترط أبي حنيفة في ضبط الراوي أن يكونَ حفظه مستمرًا من حين التحمل إلى الأداء من غير نسيان.
- وحينئذٍ يتبين لنا ضعف قول الأستاذ عبد الوهاب خلاف "فكلُّ حديث: من الميسور معرفة أنه متواتر أو غير متواتر, وصحيح أو ضعيف أو حسن".
- وتأمَّل نصيحةَ الإمام ابن حزمٍ لإبراهيم الباجي ينصحهُ ويرشدُهُ, قال: إذا وردت عليك مسألة فاعرضها على كتاب الله, فإن وجدتها فيه وإلا فاعرضها على السنة, فإن وجدت ذلك فيها وإلاَّ فاعرضها على مسائل الإجماع, فإن وجدتها وإلاَّ فالأصل الإباحة فافعلها!
فأجابه إبراهيم الباجي: ما أرشدتني إليه يفتقر إلى عمرٍ طويل وعلم طويل لأنه يفتقر لمعرفةِ الكتاب ومعرفة ناسخه ومنسوخه ومؤوله وظاهره...اهـ وذكر أمورًا يدخلها الاختلاف كثيرًا.
والنقطة الثانية: هل يعمل بغير الثابت من السنة؟
اتفق العلماء على قبول الحديث الذي في رتبة الصحة أو الحسن وعلى العمل به, واختلفوا في الحديث الضعيف؛ هل يعمل بهِ؟ فجماهيرهم إلى العمل به في (الفضائل والمستحبات) على شروطٍ معلومةٍ عندهم.
ولكن! هل يعمل به في الأحكام الشرعية؟ فالأئمة الثلاثة (أبي حنيفة ومالك وأحمد) وجمهور المحدثين (كأبي داود والنسائي وأبي حاتم) على العملِ بهِ بشرطين: ألاَّ يشتدَّ ضعفه, وألاَّ يوجد في المسألة غيره.
* ويقدِّمُ الإمام أحمد بن حنبل وابن حزمٍ الحديثَ الضعيفَ على "الرأي", وبعضهم يقدِّمه على "القياس" الذي هو أحد مصادر التشريع التي اتفق على الاعتماد عليها جميع الأمة إلاَّ من شذَّ!.
* ويرى أمثال الإمام الشافعي ومن بعده كالإمام النووي أن الترجيحَ بالمرسلِ جائزٌ.
* ويرى أمثال الإمام البيهقي ومن بعده كالإمام ابن جزي الكلبي وابن القيم أنه إذا عرضَ حديث صحيح يحتملُ معنين لا يرجِّح بينهما, ووردَ حديث ضعيف يرجِّح أحد المعنيين فإنَّا نأخذ به وإن كان ضعيفًا.
فحينئذٍ يتبين لنا جليًّا أن للحديث الضعيف قيمة واعتبارًا في نظرِ أئمتنا السالفين خلافًا لمن أهدره مطلقًا وردَّه.
والنقطة الثالثة: إثبات لفظِهِ النبوي الشريف؟
ومعنى ذلك "ضرورة التأكد من لفظِ قولِ النبي", وذلك فيما إذا وردَ الحديث بلفظينِ يترتب على الأخذ بأحدهما أحكام غير الأحكام المترتبة على الأخذ باللفظ الآخر, ويعنونُ المحدثون والأصوليون هذه المسألة بـ"الرواية المعنى" فيرى جمهور أهل العلمِ جوازَ ذلكَ بشرطِ: أن يكونَ عالمًا باللغةِ العربيةِ, وزادَ أبو حنيفةَ: أن يكونَ فقيهًا.
وهذا مثالٌ جليٌ يـبِينُ لكَ المراد: روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: (من صلى على جنازة في المسجدِ فلا شيءَ عليهِ) وفي نسخٍ (فلا شيءَ له) شكَّ أبو عليٍ اللؤلؤي –راوية سنن أبي داود كما هو معروف.
* فمن أخذَ من الأئمة –كالشافعي- بالرواية الأولى (فلا شيءَ عليه) أجازَ الصلاة على الجنازة في المسجد من غير كراهة, ومن أخذ من الأئمة –كأبي حنيفة- بالرواية الثانية (فلا شيءَ له) كرهَ الصَّلاة عليه في المسجد.
والأمثلة كثيرةٌ, والتتبع لها بنفي حصرها في عددٍ معين, لذلكَ استحبَّ الخطيب للرَّواي "أن يوردَ الأحاديثَ بألفاظها لأنَّ ذلك أسلم له, فإن كان ممن يروي على المعنى دون اعتبار اللفظِ: فيجبُ أن يكون توقِّيه أشد, وتحرُّزه أكثر, خوفًا من إحالة المعنى الذي به يتغيَّر الحكم اهـ. ثم ذكرَ الخطيبُ في كتابه [الكفاية] مثالاً على وهمِ وقعَ فيه إمام الحديث شعبة بن الحجاج, فما ظنُّكَ بمن دونَه؟
* هذا, وقد فضَّل الأئمة ما يتداوله الفقهاء على ما يتداوله غيرهم, فقد عقدَ الإمام الرامهرزي في [المحدث الفاصل] فصلاً طويل بعنوان (القول في فضل من جمع بين الرواية والدراية) وذكرَ قول وكيع بن الجراح أن سفيان بن الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود أرجح من الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود, لأن سفيان ومنصور وإبراهيم وعلمقة وابن مسعود كلهم فقهاء, مع أن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود – أعلى سندًا وأقرب!- .
وقال ابن حبان في [مقدمة صحيحه]: وأما زيادة الألفاظ في الروايات فإنا لا نقبل شيئا منها إلاَّ عمَّن كان الغالب عليه الفقه, لأن أصحاب الحديث الغالبُ عليهم حفظ الأسامي والأسانيد دون المتون اهـ.
والنقطة الرابعة: إثبات ضبطه من حيث العربية.
ومعنى ذلك "ضرورة التحري كيف نطقَ النبيُّ هذه الكلمة؟ مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة" ومحلُّه ما إذا اختلف نقل الرواة لهذه الكلمة" فإن الروايات إن اختلفت حصل الخلاف الفقهي ولا بدَّ.
وهذا ضربٌ من الأمثلةِ يوضح أثر ما ذكرناه:
(المثال الأول) قوله –عليه الصلاة والسلام- (ذكاةُ الجنين ذكاة أمه) فمن رجَّح كأبي حنيفة وابن حزم نصبَ "ذكاة" الثانية –على تقدير: يذكَّى تذكيةً مثلَ ذكاةِ أمه- قال؛ بأن الجنين يذكَّى بمثلِ ذكاةِ أمه, ومن رجَّح كالشافعي رفعها –على أنها خبر المبتدأ-؛ أسقطَ ذكاة الجنين, وكلٌ من الطرفين له أدلةٌ وحججٌ.
(المثال الثاني) قولُ النبي –عليه الصلاة والسلام- في الحديث (هو لكَ عبدُ بن زمعة) فالجماعةُ رفعوا (عبدُ) على النداء أي: هو الولد لك يا عبدُ بن زمعة, والحنفية ترجِّحُ تنوين (عبدٌ) على الابتداء, أي هو الولدُ لك عبدٌ, وتنصب "ابن" على النداء المضاف.
(شبهةٌ) إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي؟
يقولُ بعضُهُم: قال الإمام الشافعي: إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي, وها قد صحَّ حديثٌ بخلافِ مذهبِ الشافعي, فحينئذٍ ننسبُ ما صحَّ إلى مذهبِ الشافعي, فنكون علمنا بمذهبِ إمامٍ معتبر, ولا يليق أن نقول: مذهبُ الشافعي الذي دوِّن في كتب مذهبه فقط!
والجوابُ: أن هذه الجملة هي لسانُ حالِ كل مسلم عقل معنى قول (لا إله إلا الله محمد رسول الله)! بل هذا نفسُ إخوانهِ من الأئمة أجمعين كما قال ابن كثير في [التفسير], وأمَّا المرادُ من هذه الجملةُ فنقولُ ما يلي:
أولاً: ليسَ معنى هذه الجملة أن "كل حديث يصحُّ عندَ أيِّ أحد" أن ينسبَ ذلك القول إلى الإمام الشافعي –رحمه الله-! وإلاَّ اختلطَ وأخلطَ الناس مذهبه.
ثانيًا: أوضحَ معنى هذه العبارة كل من السادة الحنفية والشافعية والمالكية.
أمَّا الحنفية, فقد قال العلامة ابن الشِّحنة الكبير في [شرحه الهداية]: إذا صح الحديث وكان على خلاف المذهب عمل بالحديث ويكون ذلك مذهبه، ولا يخرج مقلده عن كونه حنيفا بالعمل به، فقد صح عنه أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي, وقد حكي ذلك ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الائمة اهـ.
قيَّد العلامة ابن عابدين في [حاشيته] قيدًا مهمًا إذ يقول: ولا يخفى أن ذلك لمن كان أهلا للنظر في النصوص ومعرفة محكمها من منسوخها، فإذا نظر أهل المذهب في الدليل وعملوا به صح نسبته إلى المذهب لكونه صادرا بإذن صاحب المذهب، إذ لا شك أنه لو علم ضعف دليله رجع عنه واتبع الدليل الأقوى اهـ.
* فيوضِّح ابن عابدين أن هذا القيد (لمن كان أهلاً) من المسلمات بل هو البدهيات التي لا ينازعُ فيها.
وأما الشافعية, فقد قال الإمام النووي في [مقدمة المجموع]: وهذا الذي قاله الشافعي ليس معناه أن كل أحد رأى حديثا صحيحا قال: هذا مذهب الشافعي وعمل بظاهره: وإنما هذا فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب على ما تقدم من صفته أو قريب منه؛ وشرطه: أن يغلب على ظنه أن الشافعي رحمه الله لم يقف على هذا الحديث أو لم يعلم صحته؛ وهذا انما يكون بعد مطالعة كتب الشافعي كلها ونحوها من كتب أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها وهذا شرط صعب قل من ينصف به؛ وإنما اشترطوا ما ذكرنا لأن الشافعي رحمه الله ترك العمل بظاهر أحاديث كثيرة رآها وعلمها لكن قام الدليل عنده على طعن فيها أو نسخها أو تخصيصها أو تأويلها أو نحو ذلك اهـ.
* وقد صنَّف الإمام السبكي رسالةً سمَّاها [معنى قول الإمام المطلبي: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي] ونقلَ كلام النووي المشار إليهِ آنفًا, وكذا كلام ابن الصلاحِ في ذلك ثم قال: وهذا تبيينٌ لصعوبةِ المقامِ حتى لا يغترَّ بهِ كل أحدٍ اهـ. * وردَّ الإمام السبكي في رسالته وغيره على كثيرٍ من العلماءِ ممَّن نسبَ قولاً إلى الشافعي بناء على كلمتِهِ هذا, منهم (الإمام ابن حبان في صحيحه) ومنهم (أبو محمد الجويني) إذ إنه حاولَ أن يؤلِّف كتابًا يجمعُ فيها مسائلَ يعزوها إلى الشافعي تعويلاً منه على قولهِ المحكي!, ومنهم (أبو الحسن الكَرَجي) وغيره من العلماء.
وأمَّا المالكية, فقد قال الإمام القرافي في [شرح التنقيح]: وكثير من فقهاء الشافعية يعتمدون على هذا يعني قول الإمام الشافعي (إذا صح الحديث ...) ويقولون: مذهب الشافعي كذا لأن الحديث صح فيه، وهو غلط !! لأنه لا بد من انتفاء المعارض، والعلم بعدم المعارض يتوقف على من له أهلية استقراء الشريعة حتى يحسن أن يقال لا معارض لهذا الحديث، أما استقراء غير المجتهد المطلق فلا عبرة به فهذا القائل من الشافعية ينبغي أن يحصل لنفسه أهلية الاستقراء قبل أن يصرح بهذه الفتيا اهـ.
• وقال أبو بكر المالكي في ترجمته لأسد بن الفرات (والمشهور عن أسد رحمه الله أنه كان يلتزم من أقوال أهل المدينة وأهل العراق, ما وافق الحقَّ عنده, ويحقُّ له ذلك لاستبحاره في العلوم, وبحثهِ عنها, وكثرةِ من لقيَ من العلماء المحققين اهـ).
• فتأمل هذه الأسباب الثلاثة التي أهلتهِ إلى ذلكَ, وإنما ذلك لئلاَّ يحصل بلبلةٌ في الدين واضطرابٌ في العلمِ, فينسبَ حينئذ كلِّ شيخٍ إلى الشافعي قولاً تحتَ تطبيق شعار (إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي!).
فلكلِّ ميدانٍ رجالهُ , ولا يجوزُ لأحدٍ أن يتعدَّى طوره!
ثالثًا: يتبين للقارئ جليًا أن الأئمة السابقين المتبذهبين كان بعضهم من اكتمل فيه آلات الاجتهاد, وبعضهم من بقيَ على تقليدِ إمامهِ أو قل "من لم تكتمل فيه آلات الاجتهاد", وهم الذين يمثلون جماهير العلماء اليوم, فإنه لا يحق لأحد وسمهم بـ"الجهل" لأنَّه وكما قال الإمام ابن تيمية –رحمه الله-: (إذا أخبرَ المفتي بقولِ إمامه فقد أخبر بعلم , وهو في الحقيقةِ مبلغٌ لقولِ إمامه , فلم يخرج عن العلم) اهـ .
وفي [التمهيد] لابن عبد البر: عن يونس بن يزيد الأيلي قال: قال لي ابن شهاب أطعني وتوضأ مما غيرت النار! فقلت: لا أطيعك وادع سعيد بن المسيب؛ فسكت الزهري!.
(شبهةٌ) صحة الحديث كافية للعمل به.
يقولُ قائلوها في تقريرها: إن الله تعالى تعبدنا باتباع نبيه الكريم, فإذا صحَّ الحديث كان كافيًا للعملِ به, ولا يجوزُ لمسلمٍ أن يتوقَّف عن العمل بحديث صحيح بلغه, فلا يتبع حينئذ قول فلان وفلان من الناس.
والجوابُ عن ذلك: إن معنى هذه الجملة (صحةُ الحديثِ كافية للعمل به) تقتضي أن تكونَ بعد استكمال سندِه ومتنِه شروطًا كثيرةً (الحديثيَّة والأصوليَّة) وليسَ الأمرُ موقفًا على كتابٍ واحد! وإلاَّ فيكونُ ذلك هدرٌ للسنة وتضليلٌ لأهلها.
وهذه بعضُ الآثار الورادة عن السلف (رضوان الله عليهم أجمعين) في بيانِ أهميَّة التفقه في السنة على أيدي الأئمة الفقهاء, وأن عدمَ الفهم والعلمِ وسيلة للضلال والإضلال:
(1) قال إبراهيم النخعي: إني لأسمع الحديثَ فأنظر إلى ما يؤخذُ به فآخذ به, وأدعُ سائره.
(2) وقال ابن أبي ليلى: لا يفقهُ الرجل في الحديث حتى يأخذ منه ويدع.
(3) وقال الإمام أبو علي النيسابوري: الفهمُ عندنا أجلُّ من الحِفظ.
(4) وقال ابن وهب: سمعتُ مالكًا يقول: كثيرٌ من هذه الأحاديثُ ضلالة, لقد خرجت مني أحاديث لوددتُ أني ضُربت بكل حديثٍ منها سوطين وأني لم أحدِّث به اهـ.
(5) وقال الخطيب البغدادي في [الفقيه والمتفقه]: وليعلم أن الإكثار من كتب الحديث وروايته لا يصير به الرجل فقيها, وإنما يتفقه باستنباط معانيه , وإنعام التفكير فيه اهـ. ثم أسندَ إلى الإمام مالك بن أنس أنه أوصى ابني أخته : أبي بكر وإسماعيل ابني أبي أويس: " أراكما تحبان هذا الشأن وتطلبانه ؟ " قالا: نعم , قال: "إن أحببتما أن تنتفعا به, وينفع الله بكما, فأقلا منه, وتفقها" اهـ.
(6) وقال الإمام المزني –وارث علم الشافعي-: فانظروا رحمكم الله على ما في أحاديثكم التي جمعتموها ، واطلبوا العلم عند أهل الفقه تكونوا فقهاء إن شاء الله " اهـ.
(7) وقال ابن وهب: نظر مالك إلى العطاف بن خالد فقال بلغني أنكم تأخذون من هذا, فقلت بلى! فقال: ما كنا نأخذ الحديث إلا من الفقهاء اهـ.
(8) وقال الإمام ابن وهب: كلُّ صاحبِ حديثٍ ليس له إمام في الفقه فهو ضالٌ, ولولا أن الله أنقذنا بمالك والليث للضللنا اهـ.
(9) وقال القاضي عياض في [ترتيب المدارك]: روي أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال على المنبر: احرج بالله على رجل روى حديثاً العمل على خلافه.
(10) وقال الإمام أبو حنيفة: من طلبَ الحديث ولم يطلب تفسيره فقد ضاع سعيه وصارَ وبالاً عليه.
(11) وقال ابن القاسم وابن وهب رأيت العمل عند مالك أقوى من الحديث، قال مالك: وقد كان رجال من أهل العلم من التابعين يحدثون بالأحاديث وتبلغهم عن غيرهم فيقولون ما نجهل هذا ولكن مضى العمل على غيره.
(12) وفي [إعلام الموقعين] قال أحمد: إذا كان عند الرجل الكتب المصنفة فيها قول رسول الله واختلاف الصحابة و التابعين فلا يجوز أن يعمل بما شاء ويتخير فيقضي به ويعمل به حتى يسأل أهل العلم ما يؤخذ به فيكون يعمل على أمر صحيح.
(13) وفي [أخبار أبي حنيفة للصيمري] عن هلال بن يحيى قال: كان زفر يتبع داود الطائي حتى إن داود لو قعد على مزبلة جاء زفر حتى يقعد معه عليها قال: وإنما قدم زفر البصرة يزور داود الطائي رحمة الله عليهما حتى يقول لقد أخطأت ولكن أناظره حتى يجنَّ! قيل فكيف يجنُّ؟ قال يقول بما لم يقله أحد.
• فدلَّت هذه الآثار إلى ضرورة الرجوعِ إلى الأئمة الفقهاء مع النظر في السنة, فليسَ صحةُ الحديث كافية للعملِ بذلك الحديث! فالسلف لم يكونوا يكتفون برواية الحديث لهم ليأخذوا به ويطبقوه, بل كانوا ينظرونَ: هل يُعمل به أو لا يعمل؟
• وليسَ معنى ذلك: أنَّ عمل الإمام حَكَمٌ على حديثِ رسول الله, فالحديثُ ليسَ حجَّة إلاَّّ إذا قُرنَ بعملِ الإمام به, فعملُ الإمام هو الذي يجعلُ الحديث الشريف حجة! لا ومعاذ الله! إذ كلام رسول الله نافذٌ جائزٌ على رقبة كل مسلم.
إنَّما معنى ذلك: أنَّ عمل الإمام به دليلٌ على عدمِ إجماعِ السلف على تركه, فإن كانَ إجماعهم على تركه: دليلٌ على وجودِ حديثٍ آخر في المسألة مقدَّم عليه, وقال الإمام السرخسي كلمةً غاليةً فيما نحنُ بصدده: إنَّ قول الرسول موجبٌ للعلم باعتبارِ أصلهِ, وإنما الشبهة في النقلِ عنه.
* وقد روى الطبراني في [الأوسط] عن عروة بن الزبير أنه أتى ابن عباس فقال: يا ابن عباس طالما أضللت الناس قال: وما ذاك يا عرية ؟ قال: الرجل يخرج محرما بحج أو بعمرة فإذا طاف زعمت أنه قد حل فقد كان أبو بكر وعمر ينهيان عن ذلك ؟ فقال: أهما - ويحك - آثرُ عندك أم ما في كتاب الله وما سن رسول الله صلى الله عليه و سلم في أصحابه وفي أمته؟ فقال عروة: هما كانا أعلم بكتاب الله وما سن رسول الله صلى الله عليه و سلم مني ومنك قال ابن أبي مليكة : فخصمه عروة.
• وحليةُ العالمِ أن يأخذَ بكلا الأمرين: الحديثُ والفقهُ, فلا يَطْغَى أحدهما على الآخر في سلوكهِ العلمي.
وأمَّا قولُ القائلِ: المسلمُ مأمورٌ باتباع النبي دون غيره, فمقتضى ذلك أن أئمة الإسلام ما كانوا على هدى واتباع النبي (صلى الله عليه وسلم) فإنَّ بعضهم ينكر اتباع المذاهب الأربعة ويستدل لذلك بقوله تعالى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} وبحديث حاتمٍ لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة وهو يقرأ هذه الآية {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم فقال: "بلى, إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم".
* والاستدلال بمثلِ هذا على الأئمة تحريفٌ وإضلال, فقد رأيتَ فيما نقلناه سابقًا حرص الأئمة على اتباعِ السنةِ والتقيِّد بها, وهذا المسألةُ تودينا إلى قضيةٍ أخرى هيَ قول القائلِ: لم أفهم هذا الحكم مما قاله أبو حنيفةَ, بل أفهمه على الوجهِ الذي قالَ به الشافعي فأعملَ به؟ فهل من ضيرٍ في ذلك؟
نقول: هذه مسالة (التنقل من مذهب إلى مذهب) ولا تخلو من حالات:
- إما أن يكونَ عن تقليدٍ, فلا بأسَ به, وشهرتُهُ أوفى من أتحدث به.
- وإما عن تتبعٍ للرخصِ, فهذا لا يجوزُ.
- وإما عن بحثٍ واجتهادٍ, فإن كانَ الباحثُ أهلاً للنظرِ متحليا بالإنصاف: فلا بأسَ, بل هو من مفاخرِ الإسلامِ كأمثالِ ابن تيمية وابن القيم وغيرهم, وإن غير أهلٍ له ولا متحلٍ بالإنصافِ: فهذا الذي يُنكرُ ولا يقرُّ!
* وإنَّ كثرةَ التنقلُ بين المذاهبِ (المالكي و...) يكونُ غرضًا للخصومةِ كما قال عمر بن عبد العزيز: من جعلَ دينه عرضةً للخصوماتِ أكثر التنقل.
(فالحاصلُ أنه قد تطابقت كلمات الأئمةِ -أهل الرواية والدراية- فيما سبقَ على ضرورةِ: الرجوع إلى الأئمة الفقهاء, وإلاَّ كانَ الإنسان على خطرٍ في دينه, وقد قال عليُ بن الجعدِ كما في [الانتقاء] لابن عبد البر قال: كنا عند زهير بن معاوية فجاءه رجل فقال له زهير من أين جئت؟ فقال من عند أبى حنيفة! فقال زهير: إن ذهابك إلى أبى حنيفة يومًا واحدًا أنفع لك من مجيئك إليَّ شهرًا! اهـ.
وأختمُ بمقولةٍ رائعةٍ للإمام السيوطي في [الحاوي]: قالت الأقدمون: المحدث بلا فقه كعطار غير طبيب فالأدوية حاصلة في دكانه ولا يدري لماذا تصلح, والفقيه بلا حديث كطبيب ليس بعطار يعرف ما تصلح له الأدوية إلا أنها ليست عنده اهـ.
السببُ الثاني: اختلافهم في فهم الحديث الشريف
إنَّ اختلاف الأئمة في فهم الحديث الشريف ينشأ عن أحدِ أمرين:
1) اختلاف الناظرين في مداركهم ومواهبهم العقلية.
2) كونُ لفظ الحديث يحتمل أكثر من معنًى واحد.
فالأمر الأولُ: لا يشكُّ فيه عاقلٌ! لأنَّ هذا التفاوتَ قد يكونَ فطرةً وقد يكونُ كسبًا, إما من رحلاتِ المرءِ أو مجالساتهِ أو عمله –كأن يكونَ قاضيًا عارفًا بأحوال الناس- وقد قيل للشافعي: أخبرنا عن العقلِ يولدُ به المرء؟ قال: لا, ولكنَّه يلقَّح من مجالسةِ الرجال ومناظرة الناس اهـ. كما قال ابن الرومي:
ألمعيٌ يرى بأوَّل رأي *** آخر الأمرِ من وراء المغيبِ
وخذ أمثلةً لذلك: روى الخطيب في [الفقيه والمتفقه] أن عبيد الله بن عمرو الأسدي قال: كنا عند الأعمش وهو يسأل أبا حنيفة عن مسائل , ويجيبه أبو حنيفة , فيقول له الأعمش : من أين لك هذا ؟ فيقول : أنت حدثتنا عن إبراهيم بكذا , وحدثتنا عن الشعبي بكذا , قال : فكان الأعمش عند ذلك , يقول : " يا معشر الفقهاء أنتم الأطباء ونحن الصيادلة ".
* وروى الخطيب في [تاريخ بغداد] أن عبد الله بن المبارك قال: قدمت الشام على الأوزاعي فرأيته ببيروت فقال لي يا خراساني من هذا المبتدع الذي خرج بالكوفة يكنى أبا حنيفة فرجعت إلى بيتي فأقبلت على كتب أبي حنيفة فأخرجت منها مسائل من جياد المسائل وبقيت في ذلك ثلاثة أيام فجئت يوم الثالث وهو مؤذن مسجدهم وإمامهم والكتاب في يدي فقال أي شيء هذا الكتاب فناولته فنظر في مسألة منها وقعت عليها قال النعمان فما زال قائما بعد ما أذن حتى قرأ صدرا من الكتاب ثم وضع الكتاب في كمه ثم أقام وصلى ثم أخرج الكتاب حتى أتى عليها فقال لي يا خراساني من النعمان بن ثابت هذا قلت شيخ لقيته بالعراق فقال هذا نبيل من المشايخ اذهب فاستكثر منه قلت هذا أبو حنيفة الذي نهيت عنه! انتهى. وزادَ الكردريُّ في [مناقب أبي حنيفة] أنه قال: ثم التقينا بمكة, فرأيت الأوزاعي يجاري أبا حنيفة في تلك المسائل, والإمام يكشف له بأكثر مما كتبت عنه, فلما افترقا قلتُ للأوزاعي: كيف رأيته؟ قال: غبطتُ الرجلَ بكثرةِ علمهِ ووفور عقله, وأستغفر الله تعالى لقد كنت في غلط ظاهر, الزمِ الرجلَ فإنَّه بخلاف ما بلغني عنه اهـ.
والأمر الثاني: وهو كونُ لفظِ الحديث تحتمل ألفاظه أكثر من معنًى واحد, فإنه يشترطُ لذلك –وهم أجلُّ من أن يخفى عليهم ذلك-: أن تكونَ مقبولةً سائغة من حيث العربية, وأن لا تتنافى مع أحكامٍ أخرى ثابتة في نصوص أخرى.
مثالُ ذلك: جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) فاختلفَ أهل العلم في المرادِ في التفرق, هل المراد التفرق بالبدن؟ أو المراد التفرق بالقول؟
ومعنى التفرق بالبدن: أنَّ كلاً من المتعاقدين بالخيار في إبرام العقدِ أو نقضهِ ما داما في المجلس, فإذا ذهب أحدهما عن الآخر وفارق المجلسَ لزمَ العقدُ ولا ينقضُ إلا بموافقةِ الآخر؛ وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه.
ومعنى التفرق بالقول: أنَّ كلاً من المتعاقدين بالخيار في إبرام العقدِ أو نقضهِ ما داما في الحديثِ عن المعقودِ عليهِ وما يتعلق به, فإذا انتقلا إلى حديث لزمَ العقدُ ولا ينقضُ إلا بموافقةِ الآخر؛ وهذا مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه.
* استدلَّ الشافعي بقولهِ على أنَّ الأصل في المتعاقدين الافتراق, ثمَّ إنهما لمضيِّ العقدِ يجتعمان, ثم يرجعانِ إلى ما كانا عليه وهو الافتراق.
* واستدلَّ أبو حنيفةَ بقولِهِ على أنَّ التفرق غالبًا بالأقوال فقط, لقولهِ تعالى {واعتصموا بحبلِ جميعًا ولا تفرقوا} وغيرها من النصوص.
[تنبيهٌ مهمٌ] إن الأحكام الشرعية المستنبطة من الكتابِ والسنةِ هيَ من الدين منسوبة إلى الكتابِ والسنة, وليست بأجنبيةٍ عنهما, فالتابعُ تابعٌ في المكانة.
قال الإمام الشافعي: جميعُ ما تقوله الأمة شرحٌ للسنةِ, وجميعُ السنَّةِ شرحٌ للقرآن اهـ. وقد روى أبو دوادَ في [سننه] حديث ابن عمرو مرفوعًا {العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة}.
قال الخطابي في شرحِ الفريضة العادلة: وأما قوله "أو فريضة عادلة" فإنه يحتمل وجهين من التأويل:
أحدهما: أن يكون من العدل في القسمة فيكون معدله على السهام والأنصباء المذكورة في الكتاب والسنة.
والوجه الآخر: أن تكون مستنبطة من الكتاب والسنة ومن معانيهما فتكون هذه الفريضة تعدل بما أخذ عن الكتاب والسنة إذ كانت في معنى ما أخذ عنهما نصاً انتهى.
وقال الشاطبي في [الموافقات]: المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم؛ والدليل على ذلك أمور:
أحدها: النقل الشرعي في الحديث: "إن العلماء ورثة الأنبياء"...
والثاني: أنه نائب عنه في تبليغ الأحكام؛ لقوله: "ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب"...
والثالث: أن المفتي شارع من وجه؛ لأن ما يبلغه من الشريعة؛ إما منقول عن صاحبها، وإما مستنبط من المنقول؛ فالأول يكون فيه مبلغًا، والثاني يكون فيه قائما مقامه في إنشاء الأحكام، وإنشاءُ الأحكام إنما هو للشارع، فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده؛ فهو من هذا الوجه شارع، واجب اتباعه والعمل على وفق ما قاله، وهذه هي الخلافة على التحقيق. انتهى.
[تنبيهٌ] ومن هنا ننبِّه إلى ما يسمَّى عندَ بعضهم بـ"فقه السنة والكتاب" بديلاً من قولِ "فقه أبي حنيفة والشافعي و..." وإنما التغيير جاءَ بأن أضافوه إلى (الكتاب والسنةِ) ليوهموا أن هذا هو فقه محمدٍ صلى الله عليه وسلم لا فقه أبي حنيفة والشافعي! وهو غلطٌ, لأنَّك ستجدُ الذي وضع فقه السنة والكتاب إنما هو فقه الأئمة لا فقهُ غيره!
[استثناءٌ مهمٌ جدًا] قلنا إن الفقه المستنبط من الكتاب والسنة والإجماعِ من الدين لا يجوزُ فصله, ولكن لا بدَّ من استثناء ما يسمى بـ"نوادر العلماء" أو "رخصهم" أو "شواذهم".
أسندَ البيهقي في [السنن الكبرى] عن الأوزاعي قال: من أخذَ بنوادرِ العلماءِ خرجَ من الإسلام اهـ.
ونقل الكوثري في تعليقاته على [تذكرة الحفاظ] كلمة ابن أبي عبلة بلفظ: من تبع شواذ العلماء فقد ضلَّ اهـ. وقال شيخ الإسلام في [المسودة] عن أحمدَ بن حنبل قال: سمعت يحيى القطان يقول: لو أن رجلا عمل بكل رخصة بقول أهل المدينة في السماع يعنى في الغناء وبقول أهل الكوفة في النبيذ وبقول أهل مكة في المتعة لكان فاسقا اهـ.
وقال ابن عبد البر في [جامع بيان العلم وفضله]: وشبه الحكماء زلة العالم بانكسار السفينة، لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير اهـ.
وعلى ضوءِ هذا التفسير نفسِّر قول الإمام الثوري: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختُلفَ فيه وأنت ترى غيره: فلا تنهه اهـ. أيْ: إذا كان الاختلاف فيه سائغًا معتبرًا, كقولِ أبي الحسن ابن الحصَّار المالكي:
وليسَ كلُّ خلافٍ جاءَ معتبرًا *** إلاَّ خلافٌ له حظٌ من النظرِ
وقال الإمام ابن رجبٍ الحنبلي في [جامع العلوم والحكم]: ومن أنواع النصح لله تعالى وكتابه ورسوله- وهو مما يختص به العلماء -: ردُّ الأهواء المضلة بالكتاب والسنة ، وبيانُ دلالتهما على ما يُخالف الأهواء كلها، وكذلك ردُّ الأقوال الضعيفة من زلات العلماء، وبيانُ دلالة الكتاب والسنة على ردِّها، ومن ذلك بيان ما صحَّ من حديث النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، ومالم يصح منه بتبين حالِ رواته ومَنْ تُقْبَلُ رواياته منهم ومن لا تُقبل ، وبيان غلط مَنْ غلط من ثقاتهم الذين تقبل روايتهما اهـ.
إذًا فوجبَ ردُّ زلاتِ العلماء ونصحِ قائليها, ويجب فيما ضعفَ فيه الخلافُ لدلالةِ النصوص على ردهِ: أن يلحقَ بشواذِّ العلماءِ ونوادرهم أيضًا.
السببُ الثالث: اختلاف مسالكهم أمام المتعارض من السنة ظاهرًا .
* وهذا من أهمِّ أسباب اختلاف الفقهاء, وفيه مجال لاستفادةِ من علمين:
1) علم الحديث, للاطِّلاعِ على أحاديث المسألة الواحدةِ.
2) علم أصولِ الفقهِ, للاستفادةِ من قواعده وأحكامهِ المقررة في ضوء الكتاب والسنة.
* ويدخل في هذا السبب –وله حظٌ وافرٌ-: الفهمُ الدقيقُ, والتوفيق بين المتعارضين, وعلى ذلك نقول: إن للعلماء تجاه هذا الاختلاف عدة مسالك:
الأول/ الجمعِ بين المتعارضين والتوفيق بينهما, وللفهم حظه الأوفر من ذلك, ولا يؤتاهُ إلاَّ من فتحَ الله عليه في الفهم والدقة, لذا أكَّد العلماء على ضرورة التأني في دعوى التعذر في الجمع, لأنه يتطلبُ – فهمًا ودرايةً -.
الثاني/ فإن لم يمكن الجمع؛ سلكوا مسلك: دعوى نسخِ أحدهما على الآخر, وإنما يكونُ ذلك بمساعدة قرائن تدل عليه –لأنها تتطلبُ اطلاعًا ودرايةً-, وهذه القرائن تسمى "معرِّفات النسخ" وهيَ أربعةٌ:
(1) تصريحُ الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كحديث مسلم مرفوعا (نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها).
(2) قول الصحابي: كحديث أبي داود عن جابر (كان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء مما مسَّتِ النار).
(3) النسخُ بالتاريخ, كحديث شداد بن أوس أن رسول الله قال سنة ثمانٍ: (أفطر الحاجم والمحجوم) مع حديث ابن عباس أن رسول الله سنة ثمان (احتجم وهو محرمٌ صائم), وقد يعرف بإسلامِ الصحابي متأخرًا أو تصريحه بوقتِ سماعهِ الحديث, وغيرها من القرائن.
(4) الإجماع, بأن ينعقدَ الإجماع على خلافه, وهاهنا معتبةٌ شديدة.
الثالث/ فإن لم يمكن الجمعُ ولا النسخُ, سلكوا مسلكَ الترجيحِ بين الحديثين, وموضوعُهُ شاقٌ ومجهدٌ للغاية, لأنه يتطلب روايةً ودرايةً, أما الرواية فهي تحتاج إلى اطلاعٍ على كلِّ كلية وجزئية تتصل بالمسألةِ الواحدةِ سندًا ومتنًا, وأما الدراية فهي تتطلبُ إلى فهمٍ ألمعيٍّ ونظر ثاقب.
* وقد تعبَ علماء الأصول في تحقيق وجوه الترجيح بين المتعارضين, وصنَّفوا في ذلك المصنفات, وأقدمُ تراثٍ متقدم تعرَّض لهذا الباب هو الإمام الشافعي رضي الله عنه في كتابه [الرسالة] وكتابه كذلك [اختلاف الحديث] وكذلك ابن قتيبة الدينوري [تأويل مختلف الحديث] وعليهِ فيه مآخذ, ولزكريا الساجي كتابًا في ذلك تحت عنوان [اختلاف الحديث] ذكره صاحب "كشف الظنون", وللإمام ابن جرير الطبري كتابٌ في ذلك سماه [تهذيب الآثار] قال عنه صاحبُ كشف الظنون: تفرَّدَ بهِ في بَابِهِ بلا مُشَارك اهـ, وللإمام أبي جعفر الطحاوي كتابان عظيمان في هذا الصدد, الأول [شرح معاني الآثار المختلفة المروية عن رسول الله في الأحكام] وهو يشهد له بإمامته –مع أنه أول مؤلفاته-, الثاني [مشكل الآثار] وهو كتاب لم يؤلَّف مثله في هذا البابِ قديمًا ولا حديثًا, كما قاله الكوثري, وأفاد الحافظ القرشي أن هذا الكتاب آخر مؤلفاته.
[تنبيهٌ مهمٌ] يتسرَّعُ كثيرٌ من الباحثين حينَ يبادرن إلى ترجيح الحديث المروي عن رسول الله دونَ اعتبارِ أي وجهٍ آخر, فقد ذكرَ الحازمي في كتابه [الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار] خمسين وجهًا من وجهِ الترجيح وقال: وثمَّ وجوهٌ كثيرةٌ أضربنا عن ذكرها كيلا يطول بها هذا المختصر اهـ, وذكر العراقي في [النكت] وجوهًا تزيد على المئةِ, ثم صنَّف الشوكاني اثنا عشر وجهًا رئيسيا يتفرعُ عنها مائةً وستين وجهًا.
[فائدةٌ جليلةٌ] قد سرى فقهُ الأئمة الكبار إلى حديثهم -أمثال البخاري ومسلم وغيرهما- في مصنفاتهم الحديثية, كما نبَّه على ذلك العلامة البنُّوري –رحمه الله- في كتابه [معارف السنن].
مثالُ ذلك: حديث أبي هريرة (من صلى على جنازةٍ في المسجد فلا شيءَ له) وحديث عائشة (ما أسرعَ ما نسيَ الناسُ! ما صلى رسول الله على سهيل بن البيضاء إلاَّ في المسجد).
* أما مسلمٌ فلم يروِ إلاَّ حديثَ عائشة فهذا اختياره وفقهه, وأما أبو داود فأخرجَ حديث عائشة وختم البابَ بحديث أبي هريرة فهذا اختياره وفقهه, وأما ابن ماجه فأخرجَ حديث أبي هريرة وأخَّر حديث عائشة وقال: حديثُ عائشةَ أقوى اهـ. فهذا اختياره وفقهه.
وحينئذٍ ليس تقليدهم واتباعهم فيما فقهوا بأولى من اتباع أو تقليد الأئمة الفقهاء كأبي حنيفة وأحمد والشافعي ومالك, بل اتباع هؤلاء أولى من اتباع أولئك كما قال الترمذي: الفقهاء أعلمُ بمعاني الحديث. وهذا واضح جدًا.
* وفي هذا المرتع الخصب لوقوع اختلاف الأئمة في فقههم يمكننا أن ندركَ صعوبة الاجتهاد في حكم فقهيٍ واحدٍ, وأن ندركَ إلى أي مستوى علمي رفيع وصل إليه أئمتنا رضي الله عنهم.
* وأختمُ هذا السبب بإيرادٍ حادثةٍ توضِّح معنى ما يسمى بـ"مختلف الحديث" أوردها الإمام الحاكم في النوع التاسع والعشرين من [علوم الحديث] قال: باب معرفة سنن لرسول الله يعارضها مثلها, فيحتجُّ أصحاب المذاهب بأحدهما. ثم أسندَ إلى عبد الوارث بن سعيد التنوري قوله (قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة و ابن أبي ليلى و ابن شبرمة فسألت أبا حنيفة فقلت : ما تقول في رجل باع بيعا وشرط شرطا ؟ قال : البيع باطل والشرط باطل ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته فقال : البيع جائز والشرط باطل ثم أتيت ابن شبرمة فسألته فقال : البيع جائز والشرط جائز فقلت سبحان الله ! ثلاثة من فقهاء العراق اختلفتم علي في مسئلة واحدة ! فأتيت أبا حنيفة فأخبرته فقال : ما أدري ما قالا حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن النبي صلى الله عليه و سلم (نهى عن بيع وشرط) البيع باطل والشرط باطل ثم أتيت ابن أبي ليلى فأخبرته فقال : ما أدري ما قالا حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: (أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أشتري بريرة فأعتقها) البيع جائز والشرط باطل ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته فقال : ما أدري ما قالا حدثني مسعر بن كدام عن محراب بن دثار عن جابر قال: (بعت من النبي صلى الله عليه و سلم ناقة وشرط لي حملانها إلى المدينة) البيع جائز والشرط جائز. انتهى.
السببُ الرابعُ: اختلافهم لتفاوتهم في سعة الاطلاع على السنة.
قال الإمام الشافعي في [الرسالة]: لا نعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن وإذا فرق علم كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها ثم ما كان ذهب عليه منها موجودا عند غيره, وهم في العلم طبقات منهم الجامع لأكثره, وإن ذهب عليه بعضه ومنهم الجامع الأقل مما جمع غيره اه.
قال الإمام ابن تيمية في [رفع الملام]: من اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل واحد من الأئمة أو إماما معينا فهو مخطئ خطأ فاحشا قبيحا اه.
* فلا يمكن لأحدٍ أن يدعي لنفسه أو أن يدعي له غيره: جمع السنة النبوية كاملةً فيه, وليسَ معنى تفاوت الأئمة في حفظِ السنة والاطلاع عليها أن يكونَ الأكثر اطلاعًا هو المقدم على الجميعِ. قال الإمام ابن تيمية في [رفع الملام]: ولا يقولن قائل : من لم يعرف الأحاديث كلها لم يكن مجتهدا . لأنه إن اشترط في المجتهد علمه بجميع ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وفعله فيما يتعلق بالأحكام : فليس في الأمة مجتهد, وإنما غاية العالم أن يعلم جمهور ذلك ومعظمه بحيث لا يخفى عليه إلا القليل من التفصيل ثم إنه قد يخالف ذلك القليل من التفصيل الذي يبلغه .
* إن علم الحديث الشريف (تحمُّل) وهو تلقي الحديث من الشيوخ و(أداء) وهو رواية الناسِ بالمسموع, وقد تفاوتُ الأئمةُ في الروايةِ والدراية, فمنهم المقلُّ من الروايةِ المكثر من الدرايةِ, كأبي بكرٍ الصديق فإنه أعلمُ الصحابة كما شهد له الصحابةُ ذلك إلا أنه إمام في العلمِ والفهمِ, ومثله عمر بن الخطاب وعثمان وعلي رضي الله عنهم وغيرهم.
* وقل في ذلك الإمام مالك والإمام الشافعي رحمهما الله فإنهما تفرَّغا للفقهِ والتفقيه والاجتهاد والاستنباطِ والتأصيل, ومعَ ذلك فكانوا أئمة في الرواية, فقد قال الشافعي عن مالك: إذا جاءَ الأثر فمالك النجم! وسئل ابن خزيمة: هل تعرف سنة لرسول الله في الحلال والحرام لم يودعها الشافعيُّ في كتابه؟ قال لا.
* وكذا الإمام أبو حنيفةَ –رحمه الله- فإنه كان كثير التحمل قليل الأداء, وهو إمامٌ في العلم إلاَّ أنه كان مقلٌ في علم الحديثِ لأن كان لا يحدِّث إلا بما حفظه منذ سمعه.
* مسألةٌ: في ذكرُ مكانةِ الإمام أبي حنيفةَ في علم الحديث.
وعلى كل حالٍ فإن تركَ الخوض فيهم أولى لأنه ممن جاوزوا القنطرة في الاتِّباع والأتباع, وفي هذا الصددِ نوردُ أخبارًا جليلةٌ عن هذا العَلَمِ تشهدُ له في علمِ الحديثِ مكانةً كبيرةً –وذلكَ لكثرةِ ما قيلَ فيه-:
(1) قال الزبيدي رحمه الله: قال يحيى بن نصر: دخلت على أبي حنيفة في بيت مملوء كتبًا, فقلتُ: ما هذه؟ قال: هذه أحاديث كلُّها, وما حدثتُ به إلاَّ اليسير الذي ينتفعُ به اه.
(2) قال القاضي عياض في [ترتيب المدارك]: وذكر في ترجمةِ عبد الله بن فروخ أنه قيل: سقطت آجُرُّةٌ من أعلى دار أبي حنيفة وأنا عنده على رأسي فدمي. فقال: اختر الأرش أو ثلاثمائة ألف حديث. فقلت: الحديث خير لي. قال: فحدثني بثلاث مئة حديث.
(3) وقال ابن خلدون رحمه الله: ويدلُّ على أنه –أي أبا حنيفة- من كبار المجتهدين في علم الحديث اعتمادُ مذهبه بينهم –بين معاصريه من الأئمة- والتعويلُ عليه واعتبارهُ ردًا وقبولاً اه.
(4) وقد جمع أبو حنيفة علمَ أهل الكوفةِ بشهادةِ نفسهِ وبشهادةِ غيره, روى الصيمريُّ سينده إلى الحسن بن صالح أنه قال: كان ابو حنيفة شديد الفحص عن الناسخ من الحديث والمنسوخ فيعمل بالحديث إذا ثبت عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وكان عارفا بحديث أهل الكوفة وفقه أهل الكوفة شديد الاتباع لما كان عليه الناس ببلده وقال كان يقول إن لكتاب الله ناسخا ومنسوخا وإن للحديث ناسخا ومنسوخا وكان حافظا لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخير الذي قبض عليه مما وصل إلى أهل بلده.
* مسألةٌ: في ذكرِ أمثلةٍ على فوتِ بعض يسير من السنةِ لبعضِ الأئمة.
(1) قال عيسى بن أبان: لما قدم أبو يوسف بغداد كان علة قول أبي حنيفة في جواز بيع الأوقافِ, حتى حدَّثه ابن علية عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر في صدقة عمر لسهامه من خيبرَ. فقال أبو يوسف: هذا ممَّا لا يسع خلافهُ, ولو تناهى هذا إلى أبي حنيفةَ لقالَ به ولما خالفه.
(2) روى ابن أبي حاتم في [مقدمة الجرح والتعديل] عن ابن وهبٍ قال: سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء فقال ليس ذلك على الناس قال فتركته حتى خف الناس فقلت له عندنا في ذلك سنة فقال وما هي؟ قلت :حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلى عن المستورد بن شداد القرشي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه. فقال: إن هذا الحديث حسن وما سمعت به قط إلا الساعة! ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع.
(3) روى ابن الجوزي في [العلل المتناهية] عن ستة من الصحابةِ حديث (صلو خلف كل بر وفاجر) بطرقٍ بلغتْ ثلاثةَ عشر طريقًا, ضعَّفها كلها وختمها بقول الإمام أحمد بن حنبل: ما سمعنا بهـذا ! .
* مسألةٌ: في وجوبِ التأدبِ مع أهل العلم وتقدير علمهم وعدم تهمتهم.
وقد يتعرَّض كثير من الناسِ على قولٍ صائبٍ لم يقل به إمامٌ, وما علموا أنَّ مردَّ ذلك هي الأسباب التي قد تجلبُ عدم الأخذِ بالحديث إما صحةً وإما استدلالاً.
قال العلامة محمد المطيعي وهو يتحدث عن حديث (الولد للفراش): قال الغزالي: إن هذا الحديث لم يبلغ أبا حنيفةَ, ولو بلغه لما أخرج الأمة الموطوءةَ, وبذلك صرح إمام الحرمين) ثم أتبعَ بأسطر قوله (قال الكمال بن الهمام: كل ذلك لعدم اطلاعهم على مذهب أبي حنيفة رحمه الله, والقول بأن الحديث لم يبلغهُ: غير صحيحٍ, فإنه مذكور في مسنده) اه. وهو كذلك في آخر كتاب النكاحِ من ترتيب المحدث محمد عابد السندي.
* فإنَّ نفيَ العلمِ عن إمام أو لمجردِ عدمِ الذكرِ غلطٌ شنيعٌ, فهل لك أن تقول عن حديث لم يخرجه الشيخان: هذا حديثٌ لم يعرفه البخاري ولا مسلم! فإنما هذا رجمٌ بالغيبٍ وتقولٌ على إمام بغير حجة ولا برهان, والأولى بالمسلمِ أن يتهم نفسه بالقصورِ والتقصير, وألا يتطاول على الأئمة فيتهمهم بعدم الاطلاع على ما اطلع عليه مثله!
* وانظر إلى موقفِ الإمام أحمد بن حنبل وأدبه مع الأئمة, ذكر الحافظ الذهبي في [تهذيب التهذيب] عن أحمدَ قال: بلغني أنه يذكر عبد الرحمن بن مهدي وفلانا وما أعجب هذا! ثم قال وهو مغتاظ: مالك أنت ويلك ولذكر الأئمة!! اه.
(الشبهاتُ الثلاث التي يُعترضُ بها على هذا السبب)
الشبهة الأولى: قد يقولُ قائلٌ: إذا قامَ الدليلُ على فوتِ إمامٍ بعضَ الشيءِ, فهذا يُجعل عرضةً لأن نقول: قد فاتهم في غير هذا المسألة وهذه وهذه..إذًا للنظر الدليل نحن لأنفسنا لنطمئن من أمرنا.
والجوابُ نوردهُ على نقاطٍ:
1- إن كانَ فاتَ الإمام اليسير: فقد استدركه عليه اصحابهُ, واستقرَّ مذهبه من قِبل مجموعةٍ كبيرة كأبي يوسف ومحمد من أصحابِ أبي حنيفة.
2- إنْ فاتَ هذا الشيء الذي لا يُذكر على إمام متقدِّمٍ جدًا, فلأن يفوت المقتدي المتأخر في آخر الصفوف أشياء وأشياء من الأمهات من بابِ أولى.
3- إن كانَ فاتَ الإمام جزء يسير تتعذَّر عليه الأمثلة لندرته: فليسَ من منطقِ العلمِ والعقل أن ينسحبَ النادرُ على الكلِّ, والنادرُ لا حكمَ له.
وإذا عرفتَ أن نسبةَ عدد المسائل في فقه الإمام أبي حنيفة –كما ذكر الكوثري- تبلغُ ثلاثٌ وثمانون ألف مسألة, فما نسبةُ التي خفي دليلها عليه!
الشبهة الثانية: قد يقولُ قائل: كتبُ السنة كثيرةٌ, وقد تيسرت للباحثين المعاصرين, فهرسةً وطباعةً بأكثر من استفادةِ المتقدمين, فمن السهلِ أخذُ الثابتِ منه وتركُ غيره, وتثبيتُ الأحكام الفقهية التي دلَّ عليها الدليل وترك غير ذلك!
والجوابُ نوردهُ على نقاطٍ:
1- قال ابن تيمية رحمه الله في [رفع الملام]: لو فرض انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم ولا يكاد ذلك يحصل لأحد؛ بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط بما فيها بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين أعلم بالسنة من المتأخرين بكثير....فكانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين وهذا أمر لا يشك فيه من علم القضية اه. وقديمًا قالوا:
ليسَ العلم ما حوى القِمطْرُ *** ما العلمُ إلاَّ ما حواه الصدرُ
2- إن أئمتنا على كثرة ما دوَّنوه ووفرة ما وصل إلينا من تراثهم: لم يكونوا يدوِّنون إلاَّ القليل من محوظاتهم كما سبقَ تقرير ابن تيميةَ لهذا قبل قليل.
3- إن أوسع كتب السنة هو [كنز العمال] للمتقي الهندي, إذ فيه أكثر من 46 ألف حديث, إلاَّ أن كثيرًا من مصادرهِ غير متيسر الرجوع إليه ولا تحقيق أسانيده! ناهيكَ عن الأحاديث التي تحملها الأئمة وسمعوها تضاعفُ هذا عشرات الأضعاف, فإنَّ الأحاديث التي ذكرها أبو حنيفةَ في تصانيفه نيفٌ وسبعونَ ألف حديث! وروى الإمام مالك مئة ألف حديث فضلاً عما تحمَّله ولم يروه! وانتقى أحمد [مسنده] من نحو خمسين ألفًا وسبع مئة ألف حديث! ولا ينكرُ أن في هذه الأعداد الكبيرةِ من الموقوفةِ والمقطوعةِ والمكرَّرةِ والضعيفةِ, على أنها لا تخلو من أثرٍ كبير في فهمِ الحديثِ والاستفادة منه.
4- ولو فرضنا أن هذا الأعداد الكبيرة كانت متوفرة, فإن الاختلاف قائمٌ ولن يزول! ما دامتْ أسبابُ الاختلاف موجودة قائمة, روى الرامهرمزي في [المحدث الفاصل] قصةً فيها عبرة للمعتبر:
قال –رحمه الله-: وقفت امرأة على مجلس فيه يحيى بن معين وأبو خيثمة وخلف بن سالم في جماعة يتذاكرون الحديث فسمعتْهم يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم, وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورواه فلان, وما حدث به غير فلان, فسألتهم المرأة عن الحائض تغسل الموتى؟ وكانت غاسلة! فلم يجبها أحد منهم! وجعل بعضهم ينظر إلى بعض. فأقبل أبو ثور فقيل لها: عليك بالمقبل فالتفتت إليه وقد دنا منها فسألته فقال: نعم تغسل الميت: لحديث عثمان بن الأحنف عن القاسم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لها أما ان حيضتك ليست في يدك, ولقولها: كنت أفرق رأس رسول الله صلى الله عليه و سلم بالماء وأنا حائض. قال أبو ثور: فإذا فرقت رأس الحي بالماء فالميت أولى به. فقالوا: نعم رواه فلان ونعرفه من طريق كذا وخاضوا في الطرق والروايات. فقالت المرأة: فأين كنتم إلى الآن؟
5- ولو فرضنا أن الأحاديث الموجودة كافية للاجتهادِ, فإن توافر الأحاديث ليست كافيةً للاجتهاد بوحدها, فأين شروط الاجتهادِ الأخرى؟ وانظر إلى قولِ الإمام الشافعي رحمه الله:
لا يحل لأحد يفتي في دين الله إلا رجلا عارفا بكتاب الله : بناسخه ومنسوخه , وبمحكمه ومتشابهه , وتأويله وتنزيله , ومكيه ومدنيه , وما أريد به , وفيما أنزل , ثم يكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , وبالناسخ والمنسوخ , ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن , ويكون بصيرا باللغة , بصيرا بالشعر , وما يحتاج إليه للعلم والقرآن , ويستعمل مع هذا الإنصاف , وقلة الكلام , ويكون بعد هذا مشرفا على اختلاف أهل الأمصار, ويكون له قريحة بعد هذا , فإذا كان هذا هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام , وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يتكلم في العلم ولا يفتي " اه.
- كلُّ هذا مع ضرورةِ تحلي الباحث بالعملِ الصالحِ والعبادة والتقوى والزهدِ, فيكون إماما في هذا الجانبِ, فقد روى الطبراني في [الأوسط] عن علي قال: قلت : يا رسول الله إن نزل بنا أمر ليس فيه بيان أمر ولا نهي فما تأمرنا قال تشاورون الفقهاء والعابدين ولا تمضوا فيه رأي خاصة لم يرو هذا الحديث عن الوليد بن صالح إلا نوح.
ورى ابن أبي حاتم في [تقدمة الجرح والتعديل] عن سفيان الثوري قال: كان الرجل إذا أراد أن يطلب العلم تعبَّد قبل ذلك عشرين سنة.
وقال الإمام أحمد بن حنبل عن السيد الجليل عبد الوهاب الوراق: (رجلٌ صالحٌ مثلُهُ يوفَّقُ لإصابةِ الحقِّ).
الشبهة الثالثة: قد يقول قائل: لو أن كل واحدٍ من الأئمة المجتهدين اطلع على السنة اطلاعا وافيًا لما استدلَّ الواحد منهم بحديثٍ ضعيف واحدٍ في مسألة ما, ويوجد مقابله حديث صحيح وفيه غنيةٌ عن الضعيف! فاحتجاجُ الإمام الضعيف دليلٌ أنه ما عرفَ الصحيح!
والجوابُ نوردهُ على نقاطٍ:
1- إنَّ الأحاديث التي يوردها الفقهاء في كتبهم الاستدلالية ليستْ هيَ هيَ أدلة إمام المذهبِ التي رآها, وإن وافقَ في النتيجةِ: الحكمُ, عند الإمام وأتباعهِ, وهذه الملاحظة أكثر ما تنطبق على (المهذب الحنفي) ومثله تقريبًا مالك وأحمد, وهي واقع كتب المذاهب: [الهداية] للمَرغيناني الحنفي و[الرسالة] لابن أبي زيدٍ القيرواني المالكي و[المهذَّب] للشيرازي الشافعي و[المغني] لابن قدامةَ الحنبلي.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في [بدائع الفوائد]: وأما حديث "لا شفعة لنصراني" منكر فاحتج به بعض أصحابه وهو أعلم من أن يحتج به فإنه من كلام بعض التابعين اهـ.
2- قد يوردُ الفقيه دليلاً يكون هو دليلُ الإمام نفسه, فيورده الإمام على اعتبار رأيه فيه صحيحًا مرفوعًا إلى النبي, ولكن يخرج الحديث فيما بعدُ أحد المحدِّثينَ فيرى أن الحديثَ ضعيفٌ أو أن الحديثَ موقوف, وغير ذلك. ومثالُ ذلك: ذكر المرغياني في [الهداية] حديث "ادرؤوا الحدود بالشبهات" على أنه حديث مرفوع, وخرَّجه الزيلعي موقوفًا من كلام سيدنا عمر بن الخطاب, ولكونه لم يره ابن حزمٍ مرفوعًا قسا عليه في [المحلى] وعلى الفقهاء أجمعهم.
* فندرك من هاهنا أن للأئمة أسانيدهم الخاصة بهم, وندرك ضرورةَ تخريج أحاديث فقههم من كتبهم أنفسِهم إن تيسر ذلك, وإن لم يتيسر خرجناها من كتب المحدثين الآخرين من غيرِ أن يجعل قولهم حكَمًا على رقابهم.
3- قد يكونُ دليلُ الأئمة الفقهاء حديثا ضعيف السند حقًا, سواء من طريقهم أو من طريق المحدثين, ولكن قد تكون له من المؤيدات ما لا يحصى كثرةً من الكتابِ والسنةِ .
* ومثالُ ذلك: حديث ابن عباسٍ مرفوعا (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) رواه ابن ماجه, وهو حديثٌ ضعيف, لكن قال الشوكاني: طرقه يقوِّي بعضه بعضا اه. وقال ابن القيم: وإن كانَ في إسنادهِ ما فيه, فالقرآن يعضده وعليهِ عمل الناس اه.
* وهاهنا نصٌ طريفٌ للإمام الشافعي رحمه الله تعالى ذكره الإمام مسلم في [الانتفاع بأهب السباع]: (والشافعي لم يكن اعتماده في الحجة للمسائل التي ذكر في كتبه تلك الأحاديث في أثر جواباته لها ، ولكنه كان ينتزع الحجج في أكثر تلك المسائل من القرآن والسنة والأدلة التي يستدل بها ومن القياس إذ كان يراه حجة ثم يذكر الأحاديث قوية كانت أو غير قوية ، فما كان منها قويا اعتمد عليه في الاحتجاج به ، وما لم يبلغ منها أن يكون قويا ذكره عند الاحتجاج بذكر خامل فاتر وكان اعتماده حينئذ على ما استدل به من القرآن والسنة والقياس ، والدليل على أن ما قلنا من مذهب الشافعي لذكر الأحاديث الضعاف أنه - كما قلنا - أن مذهبه ترك الاحتجاج بالتابعين تقليدا ، وأنه يعتمد في كتبه لمسائل من الفروع ويتكلم فيها بما يصح من الجواب عنها من دلائل القرآن والسنة والقياس...). ثم قال بعدَ ذلك الإمام البيهقي في كتابه [بيان من أخطأ على الشافعي]: وتصدير بعض أبواب المختصر بأحاديث لا يحتج بها واقع من جهة المزني رحمه الله ، فأما الشافعي رحمه الله فإنه إنما أوردها على الجملة التي ذكرها إمام أهل النقل مسلم بن الحجاج رحمه الله اه.
* فالخلاصةُ: أن الأحاديث الضعيفة ونحوها التي نراها في كتب الفقه المتداولة: منها ما هو أدلة الإمام نفسه, ومنها –وهو كثير- من استدلالات المؤلف المستدلِّ بها؛ ولا يلزمُ من ضعفها: ضعف الحكم المبنيِّ عليها, فقد يكونُ له شواهد قرانية, وقد يكونُ له شواهد من السنةِ الصحيحة المجزومِ بها.
4- أن الحديث الضعيفَ قد يكون ضعيفًا عندَ الفقهاء والمحدثين وليسَ له شواهد تحعله صحيحًا ثابتًا, لكن يكونُ استدلالُ الإمام لأنه يرى –على مذهب من يحتج- بالحديثِ الضعيفِ إذا لم يوجد غيره في البابِ ولم يشتدَّ ضعفه, وضعيفُ الحديثِ خير من الرأي والقياس.
وحرِّرَ /
6/6/2011 م
والحمدُ لله أولاً وآخرًا.