(وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً)
معنى بديع, وهو أن التعبير بهذه اللفظة (وَصَاحِبْهُمَا) من ألطف ما يكون في الحث على بر الوالدين؛
ذلك أن الصحبة في هذه الآية تقتضي الملازمة, ومن شأن الملازمة الدوام على تقلب الأحوال؛ فالصحبة الطويلة يعتريها الملل, والفتور؛ فإذا استحضر الولد هذا الإرشاد الإلهي علم أن لوالديه حقاً عظيماً, فيلزم صحبتهما -وهما أحق الناس بحسن صحابته- بالمعروف.
وذلك يشمل الملاطفة, والمشاورة, والمداراة.
ويشمل كذلك مراعاة أدب المحادثة مع الوالدين؛ لأن طول الصحبة يفضي إلى الملل من جراء تكرار الأحاديث, والوقائع؛ فيسمعها الولد بروايات كثيرة متنوعة, مما يضجره, ويجلب له السآمة؛ فإذا لزم حسن الصحبة لم يظهر الملالة سواء خصه الوالد بالحديث, أو كان حاضراً مع أناس يتحدث إليهم الوالد, حتى ولو كان الحديث معلوماً للولد, مكروراً على سمعه.
ويشمل كذلك الإكرام بالمال خصوصاً إذا كان الوالد محتاجاً, فكم من الأولاد من يقصر في هذا الحق إما تكاسلاً، أو غفلةً, أو بخلاً.
وكم من الأولاد من يقول: إن أبي, أو أمي لا يحتاجان إلى شيء؛ فَيْحَرِمُ نفسه من بركة الإنفاق على الوالدين.
وكم من الأولاد من يقول: إن إخواني أو أخواتي يرفدون والديَّ بما يحتاجان إليه؛ فليسا - إذاً - في حاجة إلي.
وربما قال ذلك جميع الأولاد, فاعتمد كل واحد منهم على الآخر, فخلت يد الوالدين من أي معونة من الأولاد.
فحري بالولد ألا ينسى نصيبه من رفد والديه, ولو كانا غير محتاجين فضلاً عن كونهما كذلك.
وجدير به أن يبادر إلى ذلك ولو كان إخوانه يقومون به, (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ).
ومن حسن الصحبة أن يعين والده على البر والصدقات والإحسان؛ فيحدث أحياناً أن يكون الوالد ثرياً محسناً، ولكنه لا يوفق بأولاد يعينونه على البر والإحسان، بل ربما قطعوا عليه الطريق، وخذلوه عن الخير؛ فإذا هم بالمعروف قالوا له: مهلاً؛ إما خوفاً من ضياع مال والدهم -كما يزعمون- وإما رغبة في زيادة الميراث، أو شحاً بالخير، أو غير ذلك؛ فحقيق على الأولاد ألا يقفوا حجر عثرة في طريقه، بل عليهم أن يعينوه على الخير.
ومن صور الصحبة السفر مع الوالدين.
ومن صورها الرحلة معهما؛ فماذا يضير الابن -على سبيل المثال- إذا جاء الربيع, أو نزل مطر أن يصطحب والده أو والدته أو كليهما ليريا المطر, ويمتَّعا ناظريهما برؤية جمال الطبيعة؟
أليس يقضي الوقت الطويل في صحبة الأصدقاء والمعارف؟
ومن صور المصاحبة في المعروف القيام بإكرام ضيف الوالد, والحرص على راحته حال قدوم الضيف.
ومن ذلك صحبة الوالد إذا طلب منك الصحبة لأي مكان، أو أناس ما لم يكن في ذلك مأثم.
ومن ذلك أن تعرف أصحابك على والدك، حتى يطمئن على سيرك، ويأنس بأصحابك إذا زاروك.
ومن ذلك قضاء حوائج الوالد -أباً أو أماً- بكل ارتياح ونشاط وتَدَفُّع.
ومن ذلك ملاحظته في علاجه، ومراجعاته.
ومن ذلك ألا يتأفف إذا أمره والده دون إخوانه، على حد قول الأول:
وإذا تكون ملمةٌ أدعى لها ***** وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
بل عليه أن يفرح بذلك، بل يجمل به أن يبادر إلى التنفيذ ولو لم يؤمر.
ويحسن به أن يتحمل جفوة الوالد، وقسوته، وتغير مزاجه.
وجماع ذلك الحرصُ على إدخال السرور عليهما, والبعد عن كل ما يكدر خاطرهما.
فهذه إشارات مما حملته الآية الكريمة من معان, أما تفاصيل الحديث عن البر فليس هذا مجالها.