13 مايو 2011 09:19:51 ص بتوقيت القاهرة
سقط مبارك.. فهل حقا سقط النظام ؟
كان اليوم الثلاثون من يناير، السادس من أيام ثورة تميزت فى ملامحها وصورها وتفاصيلها الصغيرة.
وكان الشعارُ الذى أصبح تجسيدا و«تلخيصا» لكل الشعارات والمطالب، قد أخذ مكانه فى صدارة المشهد أصواتا تهتف، ولافتات تحسم «الشعب يريد إسقاط النظام».
يومها لم يكن أحد يعرف إلى أين ستصير الأمور بين عناد قصر لا يريد أن يصدق، وصمود شارع لا يمكنه أن يتراجع.
كان قرار لجوء القصر إلى اعتماد القوة أيا ماكان مداها غير المسبوق أو نتائجها غير المحسوبة، قد بات واضحا مكتوبا بالدماء، وكان قرار الخارجين إلى الشوارع فى اعتماد «الطريق ذى الاتجاه الواحد» تسهل قراءته لكل من يتابع twitter أو يشاهد «الجزيرة مباشر» أو يطل على الميدان المزدحم من نافذة «مروحية» لم تحلق فى سمائه بالتأكيد ظهيرة هذا اليوم لغير هذا الغرض.
يومها كانت الأجواء على كل صعيد متوترة. كان الكثيرون ــ هنا وهناك ــ لا يعرفون أين يضعون أقدامهم، إن فى وسائل إعلام تخبطت رسائلها، أو فى عواصم العالم، التى لم تكن تعرف ــ أو تصدق ــ إلى أين تسير الأمور، فترددت، وتباطأت.. وتأخرت.
وحدهم الملايين الذين كانوا فى الميدان كتلة «واحدة» من البشر بطوائفها وتياراتها وألوانها تحت علم واحد، كانوا يعرفون طريقهم أو على الأقل كانوا يعرفون ما يطلبون: «الشعبُ يريد إسقاط النظام».
أيام مضت.. نعرف قدرا ضئيلا من تفاصيلها. وفى اليوم الحادى عشر للعناد والاستكبار «والإنكار» ذهب مبارك، بغض النظر عن التباينات فى توصيف هذا الذهاب، خروجا أم إخراجا، توافقا أم اتفاقا.. إجبارا أم امتثالا للبديل الذى لابديل له. لم يكن هذا وقت التفاصيل على أى حال.
فـ«الصندوق الأسود» ما زال فى أعماق بحر التاريخ العميق، وربما «ليس كل ما يُعرف يُقال أو ليس كل ما يُقال جاء أوانه» إلى آخر حكمة الإمام على رضى الله عنه.
أيا ما كان الأمر، وأيا ما كانت التفاصيل التى سيأتى وقت روايتها يوما ما، فالرجل «سقط» مساء ذلك اليوم الذى ردد فيه أربعة ملايين، مسلمين ومسيحيين «دعاء القنوت» خلف شيخ ــ رغم شهرته ــ لم يتخيل يوما أنه سيقف من الله والناس هذا الموقف.
سقط الرجلُ إذن غيرَ مصدق «وإن انفلق البحر» لتحل الأهازيجُ ليلتها محل الهتافات، والأغانى محل الشعارات.. ومن بينها بالضرورة شعار المطلب الأهم، الجامع لكل المطالب والشعارات: «الشعبُ يريدُ اسقاط النظام»، وكان طبيعيا ومنطقيا أن يصبح سؤال اليوم التالى: إن كان مبارك قد سقط، فهل سقط النظام؟
●●●
القارئ لـ«دفتر أحوال» مصر فى العقود الثلاثة الماضية لابد وأن يستشعر خطر الركون إلى إنجاز تمثل فى إخراج الرئيس، وخطر اختزال القضية فى خطوة على أهميتها ليست كافية للانتقال بمصر إلى عصر جديد.
أنا من الذين يعتقدون بعمق «حكمة فطرية» تتبدى فى ما ينتجه هذا الشعب من عبارات ونكت وأمثال شعبية. والذى يجلس فى المقاهى، ويركب المواصلات العامة، ويتصفح الإنترنت، سيدرك بالضرورة أن الذى طالب به المحتجون من أسوان جنوبا إلى الإسكندرية شمالا، ومن «الشيخ زويد» شرقا إلى الوادى الجديد غربا لم يكن فقط اخراج الرئيس «على أهميته»، وإنما إسقاط النظام، الذى صنعه الرئيس، أو سمح به، تدبيرا، أو غفلة.. أو بغض الطرف طمعا أو جهلا. والذى تراكمت ملامحُه على مدى ثلاثة عقود كاملة:
النظام الذى بناه بدأب «كهنةُ الفرعون»، يعدلون الدستور عام ١٩٨٠، ليسمح بتأبيد الحكم فى شخص الرئيس (السادات وقتها)، ثم ــ لاعتبارات المظهر «الخارجى» ــ يُجرون له جراحة تجميلية (فى ٢٠٠٥، ثم ٢٠٠٧) لا تُخفى رغم المساحيق حقيقة أنها «حيكت» بمهارة تضمن أن «يظل الرئيسُ رئيسا».
النظام الذى خرج ثوار يناير لإسقاطه، هو النظام الذى سمح بالاعتداء على القضاة (٢٠٠٦) لأنهم طالبوا باستقلال القضاء.
وسمحَ بالاعتداء على أساتذة الجامعات، لأنهم طالبوا باستقلال الجامعات، وكوفئ فيه رئيس جامعة فأصبح وزيرا، لا لشىء إلا لأنه سمح للأمن بإحضار «بلطجية» ليعاقبوا طلبة جامعته.
وهو النظام الذى أسس بقراراته وسلوكه اليومى لدولة «بوليسية» بامتياز، يتولى فيها اللواءات كل المناصب القيادية، وتتحكم فيها تقاريرُ الأمن فى كل شىء، من تعيين السعاة فى المكاتب، وحتى اختيار العاملين فى معامل الجامعات.
يحكى لى مفتى مصر «المعتدل» أنه استمر لسنوات غير قادر على الصعود إلى المنبر للخطابة (لعدم وجود تصريح أمنى). رغم أنه وقتها كان مستشارا لوزير الأوقاف (!)
النظام الذى كان هو النظام الذى لم يسمح أبدا للأحزاب الحقيقية أن تقوم، وإذا أفلتت فقامت بحكم قضائى، عمل على تفجيرها من الداخل.
فى حين شكل بنفسه ــ استيفاء للشكل والمظهر ــ أحزابا «كارتونية»، ما زالت ــ رغم الثورة للأسف ــ تدعى شرعية نعرف جميعا أنها مزيفة. وتحظى بفرصة «رسمية» لاتحظى بها قوى الثورة السياسية «الحقيقية» الجديدة.
النظام الذى رغم سماحه بحرية الصراخ ــ لم يكن يعر اهتماما أبدا لكل ماتتحدث به الصحف مستندة إلى شهادات وأدلة وتقارير، منها ما هو رسمى (مثل تقارير المجلس القومى لحقوق الإنسان) عن اعتقالات واحتجاز لمواطنين دون سند من القانون، وحالات مؤكدة للتعذيب، وعدم احترام لأحكام القضاء..
بل وحالات انتقام لذوى نفوذ يسقط ضحيتها حتى رجال أعمال كبار.. إلى آخر قائمة طويلة من تجاوزات وانتهاكات. صارت من تكرارها اعتيادا وخبرا يوميا للمانشيتات وبرامج التليفزيون الحوارية.
النظام الذى طالب الجميع بإسقاطه هو ذلك الذى لم ير ضررا فى أن تعاند الدولة القانون، بتجاهل الأحكام الصادرة بشأن تزوير الانتخابات مثلا أو الإفراج عن المعتقلين أو إحالة المدنيين إلى محكمة عسكرية أو الغاء الحراسة على النقابات المهنية إلى غير ذلك من قائمة تطول بطول ثلاثين سنة من جبروت نظام لم يكترث سدنته يوما لخطورة أن يتعمق لدى المواطن العادى شعور باليأس من اللجوء إلى التقاضى «سبيلا سلميا لحل المنازعات».
غير مدركين أنه عندما تُغل يد القضاء فى رد المظالم لأصحابها يصبح الأمن الاجتماعى مهددا. كما يصبح مفهوم الدولة ذاته فى خطر.
النظام الذى قضى بفساده وإفساده على قاعدة أن «من جد وجد»، بعد أن أصبحت البطالة بسياساته «قدرا» فقد معه التعليم دوره كأداة مشروعة للحراك الاجتماعى، وبعد أن ضاقت فرص العمل لتصبح حكرا على الوارثين أو على أولئك الذين اشتروا «بأموالهم» فرص تعليم متميز. هل تذكرون «عبد الحميد شتا»، ذلك الشاب المكافح المتفوق الذى رفضوا تعيينه ملحقا تجاريا (٢٠٠٥) رغم حصوله على المركز الأول بين كل من تقدموا للوظيفة، لا لسبب إلا لأن والده مزارع بسيط. يومها لم يجد الشاب المتفوق أمامه غير الانتحار.
النظام الذى نسمع فيه من أحد البرلمانيين أنه أنفق ٢٥ مليونا للفوز بمقعده البرلمانى، دون أن يسأله أحد عن ماذا يبحث هناك؟ أو بالأحرى ماذا «يطمع» فيه هناك؟!
النظام الذى يخرج فيه رئيسُ الدولة فى كل مناسبة ليتساءل: «من أين يطعم شعبه؟»، ثم يفاجَأ أولئك الجياع بأنه كان يعوم على بحر من الفساد والمليارات المنهوبة.
●●●
النظام الذى أضاع رصيدا اقليميا ودوليا كانت مصر قد صنعته فى سنوات الصعود منتصف القرن الماضى ليتلاشى فى الثلاثين سنة الأخيرة. بعد أن حسبت أن أمنها وأمانها مرهون فقط برضا واشنطن.
وبعد أن شُغلت، أو بالأحرى انشغلت نخبتها الحاكمة بحسابات المقاعد استمرارا أو استقرارا أو «استنساخا جينيا».
النظام الذى لم يتردد (فى انتخابات ٢٠٠٥) فى اللجوء إلى بلطجة سافرة غير مسبوقة، بحماية ــ أو بمشاركة، للأسف ــ من الذين من المفترض أن المجتمع أوكل إليهم ــ بحكم وظيفتهم ــ مهمة حماية أمنه. غير مدرك خطورة أن يشيع فى المجتمع مفهوم: أن القوة/ العنف هى السبيل «الوحيد» لكى تصل إلى هدفك (حقا كان أو باطلا).
النظام الذى لم يتردد أيضا ــ لحسابات سياسية ضيقة ــ فى أن يقحم الرقم القبطى فى حسابات السياسة، لعبا بالنار فى غير موضعها. (راجع كيف ظلت «الفتنة صناعة رسمية» تخطيطا ومراهنة وتوظيفا ــ «وجهات نظر» ـــ فبراير ٢٠١٠).
النظام الذى يرحب بالإخوان المسلمين، ويصنع الجماعة الإسلامية فى السبعينيات ليضرب بها الناصريين والشيوعيين، ثم تدور الدوائر فيساند السلفيين (ويجندهم) ليضرب بهم الإخوان المسلمين تارة، ويكسر بهم «شوكة الكنيسة» تارة أخرى.
مستمتعا بعراك الخصوم، أو بالأحرى بصنع الخصومة، مطمئنا للعبة الاستعمارية البراجماتية القديمة «فرق تسد»، دون إدراك لمعنى أن يكون «الوطن للجميع»، دون إقصاء أو تمييز.
نظام اختار أن يغيب فيه القانون «المجرد» ليفسح المجال لما يتصوره سياسة، وهى بحكم التعريف غير مجردة من حسابات «ولا نقول أهواء». فنرى من رجال السلطة من يتباهى علنا بالتزوير فى أوراق رسمية «بدعوى درء الفتن».
و«التزوير» فى القانون المجرد جريمة! ونرى من رجال التحقيق من يُفْرط أو يُفرِّط، مواءمة أو استجابة أو إرضاء. ونسمع من رجال الدين من كانت فتواه عن سياسة، لا عن قرآن أو سنة أو كتاب مقدس.
النظام الذى يصبح فيه «نفاق السلطة» أيا ما كانت هذه السلطة، رئيسا للجمهورية، أو مديرا للعمل، أو حتى والدا فى المنزل، أو قارئا للصحيفة، الأداة الوحيدة للحفاظ على المكان.. أو للفوز بالمكانة.
يتساوى فى ذلك وزراء وخفراء، ورجالُ دين وسياسة وفكر.. ليبدو الأمر كله فى نهاية المطاف «ثقافة شعب» أو بالأحرى «ثقافة مرحلة».
النظام الذى يئس فيه الناس من التغيير عن طريق صناديق الاقتراع، ومن الحصول على حقوقهم عن طريق القانون والاحتكام إلى عدالة القضاء، ومن التطلع إلى مستقبل أفضل عن طريق بوابة التعليم والتفوق والاجتهاد.
نظام لم يبد مكترثا يوما بأنه لم يدع للناس غير اليأس.
●●●
النظام الذى خرج الكل يطلبون إسقاطه، هو ذلك الذى كانت سمته الرئيسة هى «السلطة المطلقة» التى هى بالضرورة «مفسدة مطلقة».
حين يصبحُ طبيعيا أن يكونَ كلُ رجال الأعمال ــ تقريبا ــ منتسبين بالعضوية والمساندة والدعم المالى والإعلانات الصحفية المدفوعة إلى حزب السلطة المطلقة. رغم أنه لم يدع يوما ــ فيما نعرف ــ أنه حزب «رأسمالى» ليصبح معه ذلك «الزواجُ شرعيا».
ولكنه ببساطة حزب النفوذ و «السلطة المطلقة»، مجموعات من المصالح «المتشابكة» Oligarchy، التى تستولى بسلطتها أو بأموالها أو بنفوذها على الإدارة ثم على الحكومة ثم على الدولة كلها.
متشابكة خيوطها العنكبوتية. والتى هى مثل كل بيوت العنكبوت لا تتمدد إلا حيث يكون الركود والكمون. بعيدا عن الحركة، وما تستوجبه ــ تعريفا ــ من تغيير.
النظام الذى ما زالت أصابعه تلعب بمهارة فى «الميدان» ــ تحاول سرقته لحسابها تارة، أو إجهاض حركته «الموحدة» النبيلة تارة أخرى ــ أحزابا «ورقية» قديمة، وساسة بلا سياسة، متلونين ومتحولين ومتسلقين عاشوا حيواتهم كلها ملتصقين بشبكة العنكبوت، التى يخشون أن تسقط فيسقطون.
بعضهم يحاول أن يجد لقدمه «القذرة» موضعا فى نظام جديد ينبغى أن يتطهر. وبعضهم يحاول بغريزة وحش جريح أن ينتقم، غير مبالٍ بأن يكون الوطن ذاته الثمن. وبعضهم يحاول عزل ثورة الشعب عن العالم «المتوجس والقلق» بمحاولة إلباسها جلبابا ولحية.
بعضهم خرج من جحوره، وبعضهم يبدو قد جرى إعداده لهذا اليوم.
●●●
هذا هو «النظام» الذى خرج الشعب وسقط الشهداء لإسقاطه.. وهذه ببساطة هى ملامح «النظام» الذى إن لم ننتبه، فلست متأكدا أنه «متسللا» لن يعود.
فى ريفنا حيث يختبئ الصمت والحكمة فى عيون فلاحينا البسطاء، كان الكبار يحرصون على تنبيهنا دائما إلى أنه «لا يكفى أبدا أن تقطع رأس الحية».