تزامنت مع مصيبة وفاة أبي طالب عم رسول الله مصيبة أخرى هي أشد وأعظم (أَشَدُّ النَّاسِ بَلاَءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ).
لقد تعرض رسول الله لكل صنوف الابتلاءات من فقد الأم والأب والجد والعم، تعرض للتكذيب والإيذاء، تعرض للإخراج من بلده ومحاولات قتله، تعرض للحروب والجهاد، تعرض للإساءة إليه من المنافقين، وحتى من بعض المسلمين، والآن يأتي ابتلاء آخر جديد، لقد ماتت السيدة العظيمة الكريمة الجليلة الشريفة خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- زوجة رسول الله ، وخديجة -رضي الله عنها- كانت نعمة من نعم الله على رسول الله ، كانت خير متاع الدنيا له، كانت السكن والراحة، كانت المودة والرحمة، كانت الصدر الحنون، كانت الرأي الحكيم، كانت صورة رائعة للمرأة الصالحة، كانت السيدة خديجة -رضي الله عنها- بحقٍّ فخرًا لكل امرأة.
حياة امتدت مع رسول الله خمسة وعشرين عامًا متصلة، ربع قرن كامل، لم تنقل كتب السيرة خلافًا واحدًا حدث بينها وبين رسول الله ، لم تنقل كتب السيرة غضبًا ولا هجرًا، لم تنقل طلبًا من السيدة خديجة لنفسها، لقد عاشت لرسول الله ، عاشت تؤازره في أحرج أوقاته، تعينه على إبلاغ رسالته، تهُوِّن عليه الصراع الذي دار بينه وبين كفار مكة، تواسيه بمالها ونفسها، تجاهد معه بحق كما لم يجاهد كثير من الرجال.
مكانة السيدة خديجة عند رسول الله
يتحدث عنها رسول الله في حب عميق، فيقول كما جاء في مسند الإمام أحمد برواية السيدة عائشة رضي الله عنها، قَالَ: "مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلاَدَ النِّسَاءِ".
ثم بعد كل هذا الارتباط الوثيق، أَذِنَ الله بالرحيل، ماتت خديجة رضي الله عنها.
موت الزوجة بصفة عامة مصيبة، الرجل مسكين، مسكين فعلاً بغير زوجته، فإن كانت العشرة بينهما طويلة كان الفراق أصعب، فإن كانت الزوجة صالحة كان الفراق أصعب وأصعب، فما بالكم لو كانت الزوجة واحدة من أعظم نساء الأرض! مصيبة كبيرة، كبيرة.
روى الترمذي عَنْ أَنَسٍ t، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: "حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ". قَالَ أبو عيسى الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وروى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ خُطُوطٍ. قَالَ: تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ". رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَجْمَعِينَ.
السيدة خديجة -رضي الله عنها- قيمة كبيرة جدًّا في الميزان الإسلامي، من الصعب علينا أن نتخيل قدرها.
روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t، قَالَ: "أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ -أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ- فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا (الله!! تخيَّل أن الله أرسل جبريل u ليبلغ رسول الله أن الله في عليائه يُقْرِئ السيدة خديجة السلام) وَمِنِّي، (ليس هذا فقط بل يكمل جبريل ويقول) وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ (أي من لؤلؤ مجوف أو ذهب منظوم بالجوهر) لاَ صَخَبَ (أي لا صوت مرتفع) فِيهِ، وَلاَ نَصَبَ (أي لا تعب)".
درجة عالية جدًّا من درجات السمو!!
هذه السيدة، بهذا القدر، وبهذه القيمة، وبهذه المكانة، فارقت رسول الله ، وفي وقت هو من أحرج أوقات الدعوة على الإطلاق.
ولهفِي عليك يا رسول الله ، كيف تحمّل قلبك الرقيق الحنون العطوف كل هذه المصائب، وقد بلغت الخمسين من العمر، ووهن العظم، وكثرت الهموم، وصَعُبَ الطريق، وأظلمت مكة.
- السيدة خديجة (رضي الله عنها) ماتت.
- أبو طالب عم رسول الله الذي كان يحوطه ويمنعه مات، وليس هذا فقط بل مات مشركًا، وهذه مصيبة في حد ذاتها.
- كاشف كفار مكة ومجرموها رسول الله بالأذى والتجريح.
- الأصحاب في مكة مستضعفون.
- بقية الأصحاب، فوق الثمانين منهم، على بُعد مئات الأميال في الحبشة.
- هموم وأحزان بعضها فوق بعض، وأصبح العام بحق عام الحزن.
في هذا الجو المظلم الكئيب، ماذا يفعل رسول الله ؟
لقد أغلقت تقريبًا أبواب الدعوة في مكة وتجمد الموقف، ولم يعد هناك كبير أمل في إسلام رجل من أهل مكة في هذه الظروف، أيأتي زمان وتقف الدعوة؟!
أبدًا، إن دعوة الله لا يمكن أن تقف، قد تختلف الوسيلة، قد يختلف المكان، ولكنها أبدًا لا تقف. ورسول الله لا يتحمل توقف الدعوة؛ فهي بالنسبة إليه كالماء والهواء حتى إن الله عاتبه في شدة حزنه على عدم استجابة الناس {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].